◄إنّ من واجب المجموعات الإسلامية إدراك ماهية الخطاب الذي تتوجّه به إلى الناس من حيث كونه خطاباً شرعياً، ومستمداً من خطاب الشارع، ولكي يكون كذلك لابدّ له من الشروط التي يمكن تلخيصها على النحو التالي:
أوّلاً: أن يكون قائماً على جوهر التوحيد الذي لا يحدُّه زمان ولا مكان، وأن يكون مرتبطاً بفطرة الإنسان، يخاطب حقيقة وجوده ليضعه أمام حقيقة وجود خالقه ومدبّره ورازقه.
ثانياً: أن يكون عالمياً مُلِمّاً بالأبعاد الحقيقية للحركة السياسية الثقافية والاقتصادية التي تجتاح العالم، وبالتالي أن يبيّن رأيه فيما يجري مُسبقاً، وأن ينبّه لما يمكن أن يقع من أخطار، ومقدّماً الحلول الإسلامية القائمة على البراهين الواضحة للإنسانية جمعاء.
ثالثاً: أن يكون موحَّداً في مواجهة العولمة الهمجية، رافضاً الحروب والصراعات المادّية والعرقية. فالحروب والصراعات لا تكون إلّا لنصرة الحقّ والعدل، وليست صراعاً للفوز بثروات الدول الضعيفة كما هو حاصلٌ في أفريقيا، أو لاعتلاء عرش الطاغوت والاستكبار.
رابعاً: أن يكون مؤيداً لكلّ ما من شأنه نصرة الحقّ، ومتصدياً للمتسلّطين على لُقمة عيش الضعفاء، وضد تيارات القهر والتسلّط التي تتيح للأقوياء هضم حقوق الناس والسيطرة على أرزاقهم.
خامساً: أن يكون طليعياً في المحافظة على البيئة الطبيعية في شتّى مظاهرها كونها وُجدت لخير الإنسان ونفعه، ولأنّ خالق الكون أودعها أمانة في عُنقه.
سادساً: أن يكون مع إدارة الأمانة الاقتصادية على وجهها الصحيح وليس مع هدر الثروات واستباحة الحُرمات تحت أي شعار.
سابعاً: أن يكون مع خير الإنسان أوّلاً وآخراً وليس خادماً لرأس المال، لأنّه يبتغي الأمن والتقدّم، والكرامة والرفعة، لا الاستعباد والاسترقاق، والتهميش والإلغاء.
هذه المهمات هي جوهر الخطاب الإسلامي، الذي يساعدنا على فهم طبيعة المهام وطريقة العمل الأسلم للوصول إلى الهدف الذي هو إعلاء كلمة الله وجعلها هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، وإلى الغاية التي نصبو إليها كدُعاة... وهي نوال رضوان الله جلّ وعلا.
إنّ هدفنا هو الدعوة وليس الدعاية، والفرق شاسع بين هذه وتلك. الدعوة تهدف إلى إقامة واقع جديد وبالتالي فهي قائمة على مشروع له مقومات تستند إلى الواقع وتعرّف طريقة معالجته على ضوء الحقيقة والشريعة. أمّا الدعاية فهي تسويق للإسلام وكأنّه بحاجة إلى شيء خارج عنه. كلا، فالإسلام قائم بذاته، يجسّد المسلمون بعملهم الصالح حقيقته، ويدعون على ضوء فهمهم المستنير إلى ترسيخه في النفوس، وتطبيقه على أرض الواقع.
ولذا فإنّ التسويق يصبح غُشاً، وبالتالي ينكشف أمام امتحان الاصطدام بالواقع وتحدّي المراحل والمستجدات.
إنّ هدفنا من حمل الدعوة إلى الإسلام هو إنقاذ البشرية جمعاء، لأنّ الإسلام هو دين الرحمة المهداة للعالمين، من الخالق الحكيم العليّ العظيم. وهو لا يميز بين أبيض وأسود، ولا بين عربيّ وأعجميّ، وهو يُلْزِمنا بالتعارف والتعاون على البرّ والتقوى.
إنّ هدفنا قائم على فهمنا التوحيد، لا نزرع الفتن، ولا نناصر التعصب، بل نعمل متحدين دون تمييز مذهبي، أو طائفي أو عرقي.
إنّ أهدافنا تخص الناس جميعهم، كبيرهم وصغيرهم، رجالهم ونساءهم، ولانستثني أحداً منهم.
إنّ أهدافنا مستقبلية تسعى إلى تحسين ما هو آتٍ وليس الدفاع عما مضى، ولذلك يجب أن نرقى بالأساليب والوسائل.
بناءً على ما تقدم تصبح طريقة عملنا واضحة، ومختلفة عن كلّ ما هو قائم، متميزة بالوحدة والتوحيد، مستنيرة بالواقع وما يحيط به من كلّ جوانبه، شاخصةً إلى الإمام للإجابة عن أسئلة المستقبل وتحدياته، نمدُّ يَدنا إلى طرفي العالم لنبنيَ عولمة إنسانية مسلِّمة لخالقها، مترفعةً عن الصغائر، مرتفعة بواقعها، حريصةً على أمانة الخلافة في الأرض.
هذا النهج يحتاج إلى بناء مراكز للدراسات تُعنى بتفسير وتحليل المسائل والإجابة عليها، ونشر الأفكار الإسلامية، في كلّ ما يخصها ويحيط بها.
الوسائل والأساليب:
إنّنا نرى أنّ الوسائل التي تتيح هذا التوجّه تحتاج إلى ما يلي:
- ضرورة إيجاد مراكز دراسات، أو مجموعات للدراسات، تعنى بكلّ ما هو مطروح على المستوى المحلي، والمستوى العالمي، وما يحيط بهما من مشاكل لتجيب على كلّ الأسئلة التي تشغل بال الإنسان وتجعله قلقاً على الحاضر والمصير.
- إيجاد وسائل الاتصال الكفيلة بنقل هذه الأفكار الإسلامية العميقة المستنيرة لتتبنّاها الفئات الواعية وتعمل على أساسها. وبذلك يتوحّد التوجّه ويتوحّد سير الحركات الإسلامية.
- إنّ العمل التنظيمي الأفضل يبقى على شكل حلقات التثقيف الفكرية، ولكن يجب أن تلحق بها حلقات المهام وقوى الضغط والتأثير.
- إنّ الهدف من كلّ هذه الخطوات هو الوصول إلى إظهار سموّ ورفعة المجتمع المسلم إذا طُبّق الإسلام على حقيقته. وهذا يجسّد القوّة الفكرية والعلمية على أرض الواقع، لأنّ المسلم من واجبه أن يقتديَ برسول الله (ص)، ويعملَ بما مكّنه الله تعالى من وسائل وأساليب حديثة تتناسب مع الفكرة التي هي الكتاب والسُّنة التي نَهَجَها رسول الله (ص). ونحن نرى أنّنا ما زلنا نعيش حالة مكّية رغم تجاوزنا نقطة الابتداء إلى نقطة الانطلاق اقتداءً برسول الله، وليس كما يفكّر البعض ويعمل عبر القوّة العسكرية أو من خلال المجالس النيابية.
وبالتالي فإنّ الهيكلية التنظيمية العملية كما نتصورها تتلخص بما يلي:
- مراكز دراسات تتألف من لجان البحث العلمي في شتّى المواضيع التي تخدم الدعوة الإسلامية في توجهها العالمي.
- حلقات تثقيفية.
- هيئات شعبية لرعاية شؤون الناس.
أدوات العمل:
- مجموعة كُتُب تثقيفية، أو أشرطة وأسطوانات مضغوطة.
- نشرة دورية عبارة عن رسالة داخلية.
كلّ تلك التشكيلات أو الأساليب والوسائل تكون تابعة للجنة الدعوة والتوجيه.
إنّ تنفيذ هذه المهام يجب أن لا يتم بعقلية التنظيم المنغلق على حَمَلَة الدعوة فقط، بل يجب تجاوزه بروحية منفتحة للاستفادة من خبرات إخوة وأخوات قد لا يكونون ملتزمين تماماً في إطار الدعوة، ولكنّهم يعملون في حقل العمل الإسلامي. وهو أمر مرغوب فيه لأنّه يوصل إلى الهدف المطلوب في القوى الإسلامية الفاعلة.
ضوابط السلوك الإسلامي
ضوابط السلوك على هَدْي الكتاب والسُّنة:
على حَمَلَة الدعوة أن يدرسوا طُرق وقواعد إبلاغها درساً دقيقاً، وينبغي عليهم التنبُّه إلى ضرورة ما قد تؤدي دعوتهم من انعكاس على سلوكهم العام، وتعاطيهم مع الآخرين، سواء من ناحية علاقاتهم مع بعضهم البعض، أو من ناحية كونهم يتحركون في تركيبة بشرية تتداخل فيها المصالح على أكثر من صعيد. وعليهم أن يدركوا أنّهم سَيُجَابهون بأفعال وردات أفعال تصادمية نتيجة حملهم بعض الأفكار التي لا تتوافق أحياناً مع ما طبع في أعماق الآخرين، وأيضاً سيتحركون ضمن مجموعات قد لا تشاركهم معتقداتهم أو قواعدهم الأساسية، وفي مناخات دينية وعقائدية متناقضة.
لذلك على الخطيب أن يضع نصب عينيه، باستمرار، أنّه بما لديه من فكر هو الأقْدَر - بعد الاستعانة بالله والتوكل عليه - على جلاء الحقائق ودمغها باليقين، وأنّه بمقدار تمكّنه من امتلاك ثقافة إسلامية وفقه واعٍ مؤهل لأخذ زمام المبادرة وامتلاك ناصية القول لاختراق حاجز الضدّية في الآخر والتأثير فيه.
للوصول إلى هذه المرتبة في التأثير، وتالياً لكي يكون سلوكه منسجماً مع ما يدعو إليه، على الخطيب ما يلي:
- حضور الصلوات في المساجد (ما أمكن) وعدم التخلّف عن صلاة الجمعة بوجه خاص تحت أي ظرف، لقوله تعالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ) (التوبة / 18) استجابة لقوله تعالى: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) (الجمعة / 9).
- إخضاع تصرّفاته، قولاً وفعلاً، قبل الإقدام على أي منها، لقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما يطلب ربُّ العالمين من الخطيب فرداً وجماعة بقوله الكريم: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران / 104).
- الترفّع عن الانغماس في مظاهر الترف، والأخذ من الحياة بضروراتها، والابتعاد عن زخرف الدنيا، وبذل الجهد والمال فيما يؤدي إلى ثواب الآخرة، لقوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) (القصص / 77).
- العمل على أن يكون سلوك مَن هم في دائرة مسؤوليته نموذجاً لما يدعو إليه: فكراً وتصرفاتٍ، لحديث رسول الله (ص): "كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيته".
- ترشيد الإنقاق عملاً بمدلول الآية الكريمة: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان / 67).
- التمكّن (ما أمكن) من حفظ القرآن الكريم، وتدبّر معانيه، وحفظ الأحاديث الشريفة واستيعابها وتأديتها بقدر المستطاع، لأنّ في ذلك دعماً لدعوته وظهيراً لأفكاره وحُججه، عدا تزكيتها لدرجته عند الله، لقوله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء/ 9)، عملاً بقول رسول الله (ص): "نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأدّاها، فربّ حاملِ فقهٍ غيرِ فقيه، وربّ حامل فقهٍ إلى مَن هو أفقه منه".
- أن يجعل همّه الأوّل إرضاء الله تعالى، والاهتمام بأمور المسلمين وتوعيتهم على ضوءِ المفاهيم الإسلامية الصحيحة، لقوله تعالى: (إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ) (الأنبياء / 106).
- التلطّف في التبليغ عملاً بقول الله تعالى واقتداءً برسول الله (ص): (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران / 159).
- السير على هَدّي القرآن في طريقة التبليغ وعدم فرز الناس بتصوُّرات مُسْبَقَة إلى مستجيبين ومُعْرِضين، وجعل محوريّة العمل على مفهوم الآية الكريمة: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى) (عبس/ 3-4).
- أن لا يتصدّر للردّ على مسألةٍ أو واقعةٍ ما لو يكن على بيِّنَةٍ منها، مستَشْرِفاً واقعها، مُلِمّاً بكلّ ما يحيط بها من ظروف ومعلومات، عملاً بقول الله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (الإسراء / 36).
- التحلّي بالصبر وسعة الصدر أثناء التحاوُر، والتجمّل بلغة حوار هادئة ومتّزِنَة، والترفّع عن استعمال ألفاظ التحدي والمواجهة بعنف، والارتفاع بمستوى عرض الأفكار أو المناقشات إلى مرتبةٍ يُحْترَمُ فيها العقل، ولا يُسَفَّهُ فيها الرأي المضادّ من طريق تسفيه الفكرة التي يعرضها المحاور. فالحوار الهادئ المتزن، والجدل بخلفية استدلالية، وتخيُّر الألفاظ ووضعها في مقامها المناسب.. هذه العناصر مجتمعة تعطي لصاحبها قوّة تأثير في نفوس سامعيه، استجابة لقوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل / 125).
- إجراء مكاشفة لتصرّفاته وما اجترح من أعمال، وصولاً إلى نيل رضوان الله تعالى بنصرة دينه، لقوله تعالى: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) (الحديد / 25) ولقول الرسوله (ص): "مَن أصبح وهمّه غير الله فليس من الله في شيء، ومَن أصبح ولم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم".►
المصدر: كتاب عالمية الإسلام ومادّية العولمة
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق