• ١٦ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٤ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

علم الاجتماع والاقتراض من الخارج

د. أحمد مجدي حجازي

علم الاجتماع والاقتراض من الخارج
نقدم لك عزيزي القارئ مسلمتين أساسيتين تحتويان على مجموعة من القضايا التي تعالج اشكالية علم الاجتماع في المجتمع العربي: أوّلاً: أن أزمة علم الاجتماع لا تنفصل عن أزمة المجتمع العربي ككل، وأزمة التي نعنيها هنا ليست هي أزمة البدواة السوسيولوجية كما يطلق عليها سعد الدين إبراهيم، وإنما هي أزمة "التغريب" في مجال النشاط الإنتاجي بمعناه الشامل أو بعبارة أخرى أنها تعبير عن أزمة تبعية الفكر الاجتماعي وتغييب الوعي التاريخي. وفي هذا الصدد نرى أن هناك اختلافاً واضحاً بين أزمة علم الاجتماع في الغرب، وأزمته في دول العالم الثالث والمجتمع العربي. وهذا الاختلاف ليس فقط اختلافاً مادياً وإنما هو تعبير عن اختلاف حضاري في الأساس. ففي المجتمعات الغربية ظهر العلم الاجتماعي في سبيل حل أزمة متناقضات واقعية، وتقديم تبرير لنظام اجتماعي وطبقي خاص، وفي سبيل ذلك تطور الوعي التاريخي والسوسيولوجي وأبدع الخيال العلمي كأحد عناصر التطور في المجتمع الرأسمالي الغربي. بينما في الدول الأخرى، فإنّ أزمات الواقع لم تفرز – خلال تطورها – نظريات علمية تتسم بالتكامل، وذلك يرجع إلى أن أزمات هذا الواقع "مفتعلة" ودخيلة عليه أكثر منها واقعية ومحلية. ونعنى بذلك أن واقع المجتمعات الغربية يحتوي على تناقضات بل خليط متشابك يجمع بين أزمات جذور محلية وأخرى مستوردة أو مستحدثة على هذا الواقع نتيجة تداخل عوامل دولية وأخرى محلية. وإذا دققنا النظر سوف نرى أنّ أزمة المجتمع الغربي ظهرت في إطار أيديولوجية قومية واضحة ذات أهداف تنحصر في الوصول إلى المجتمع المتطور، وهنا فالإبداع الانتاجي يرتبط بالإبداع الفكري. والخلق التكنولوجي يتداخل مع التطوير الثقافي والفني، والتطور في العلم الطبيعي لابدّ أن يضاهيه تنمية في العلم الاجتماعي. وفي وسط هذه التغييرات كانت المصالح والقوى الاجتماعية تعمل على دفع المجتمع نحو المحافظة على مستوى التطور الشامل، أي المحافظة على المجتمع، هذا من جانب، ومن جانب آخر، كان هذا النظام المتطور في حاجة إلى نظريات نقدية تقدم البديل. والحوار بين الاتجاهين المتناقضين خلق الجو العام للإبداع والخلق والابتكار للتعامل مع قضايا الواقع ومشكلاته. والمجتمعات العربية – شأنها شأن مجتمعات العالم الثالث في ضوء مقولات الغرب المحافظ منها والنقدي – نهلت من هذا التراث وهي لم تحدد بعد هوية تسير عليها. لذلك بدأ الفكر العربي الحديث وهو يبحث عن هوية جديدة من خلال علاقته بالنموذج المسيطر في الغرب، أومر بمراحل تبدأ من إثبات علمية وموضوعية علم الاجتماع ومروراً "بالجدلية المشوهة" أو ما نطلق عليه "الجدلية الفقهية"، وأخيراً الاتفاق على نقل التراث الغربي ووضعه في "حضَّانة" المجتمع العربي، لذلك ظل غير مكتمل النمو. ثانياً: في ضوء المقولة السابقة يصبح العلم الاجتماعي في المجتمع العربي علماً "تابعاً" نظراً لغياب الوعي التاريخي واقتراض الأساليب المنهجية من المجتمعات الغربية، لكنه وفي نفس الوقت يعبر عن فكر الطبقات الحاكمة والفئات المسيطرة في المجتمع العربي. لذا نجد أنّ الفكر الاجتماعي مرتبط بالسلطة أو هو تعبير عن مصالح "الوالي التابع" أو "الوسيط الخادم". ولذلك نجد أنّه يمثل أيديولوجية الفئات البرجوازية الهامشية، تلك التي نشأت في أحضان النظام الرأسمالي العالمي، واتخذت من الممارسة الديمقراطية الغربية أسلوباً مظهرياً للتعبير عن تقدمها وتبرير أوضاعها. ومع ذلك فهي تبحث في نفس الوقت عن الشرعية، والتي تحس بفقدانها نظراً لأنّها غريبة بفكرها عن واقع مجتمعها، وبعيدة عن الجماهير التي تعبر عنها. وهذا التناقض والتشوه هو ما يجعلها تزيد في تبعيتها للخارج، وتضغط في الداخل. وبذلك يتشوه البناء الاجتماعي والثقافي الذي يكرس لصالح تبرير الأوضاع المتناقضة داخل المجتمع. وواقع الأمر: أنّ الفكر العربي الحديث ولد تابعاً وهو من خلق الاستعمار، وتطور في تغريبه، وتبني الاتجاهات الايديولوجية الغربية، ونهل منها تراثها النظري الذي يبرر أوضاع الطبقة الرأسمالية في الخارج، ويفتح أمام أفكارها الطريق للتغلغل داخل المجتمع، لذلك فالفكر الاجتماعي لا ينتج جديداً ولكنه ينقل عنها أو يترجم أعمال مؤيديها أو يقترض أسلوب ممارساتها وهنا يصبح الواقع وقضاياه مشكلات هامشية في كثير من الأحيان، وفي القليل منها يعالج في ضوء الاتجاهات الأيديولوجية المحافظة: لقد بات هذا الفكر تابعاً بل يفقد القدرة على الاستقلالية فهو لا يستطيع أن ينمو حتى في حضانته المستوردة. لقد أصبح من المتعثر على الفكر الاجتماعي العربي الخروج من أزمة التشوه والتغريب، نظراً لغياب مشروع قومي يجمع بين مجموعة الدول ليست العربية فقط، بل دول العالم الثالث ككل. وهنا تبرز أهمية العمل على توحيد الصفوف والآراء من أجل الحصول على الاستقلالية الحقة وفي ظلها قد يكون الخلق والإبداع، هنا يصبح الخيال السوسيولوجي أمراً وارداً، وواقعاً نابعاً من جذور هذا المجتمع. وهنا فقط ينشأ علم اجتماع حقيقي غير مزيف.   المصدر: كتاب (علم إجتماع الأزمة)

ارسال التعليق

Top