• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

في الطريق إلى الشخصية الإسلامية

العلامة الراحل السيِّد محمّد حسين فضل الله

في الطريق إلى الشخصية الإسلامية

- سلبيات قائمة:

أن يملك المسلم شخصيته في عملية حركة وارتقاء، أن يتحرّك الإسلام في داخل حياتنا وخارجها كقوّة فكرية قائدة، أن يطبع الحياة بطابعه الروحي، كدين يستوعب الحياة في داخله، أن تنطلق كلمة (لا) تعبيراً عن رفض كلّ ما هو غير إسلامي، وكلمة (نعم) تعبيراً عن تأييد كلّ عمل إسلامي خيّر؛ ذلك هو ما ندعو إليه في ما ندعو، ونهدف إلى الوصول إليه في ما نهدف. أمّا كيف نحقّق ذلك، وكيف نتوصل إليه؟ فذلك ما نحاول معرفته.

ولابدّ لنا - ونحن في سبيل هذه المعرفة - من الاعتراف بأنّ هذه الخطوط التي عرضناها مفقودة من واقع حياتنا بشكل عام.

فالإنسان المسلم - في أكثر مجتمعاتنا - إنسان مهزوز الشخصية، تتنازعه شخصيات كثيرة طارئة فتسيطر عليه في مجاله الفكري والعملي. أمّا شخصيته الأصيلة - كمسلم - فلا تعيش في واقع حياته العام وإنما تقبع في زواياها في خمول واسترخاء. وربما تستيقظ وتتنبه في حركة عاطفية سريعة، إذا تهيأ لها الجوّ الملائم لذلك، ثمّ لا تلبث دون أن تهدأ، تماماً، كالرواسب الراكدة في قعر الحوض عندما يضطرب.

ومن الطبيعي لهذا الواقع، أن لا يتحرّك الإسلام فيه قوّة فكرية قائدة وديناً يستوعب الحياة في داخله، لارتباط كلّ ذلك بحركة الشخصية الإسلامية في حياة الإنسان المسلم.

وفي المحطة، لابدّ أن تكون النتيجة هي: سلبية الإنسان المسلم تجاه ما يعرض لدينه من أحداث وحركات.

 

- بين البناء والإصلاح:

قد يفرض إنسان "الحل" في العمل على نشر الثقافة الإسلامية في المجتمعات المسلمة، وتعريف المسلمين بواقع دينهم ومدى ما يحمله من حلول جذرية لمشاكلهم العديدة التي يعيشونها. فإذا اجتمعت عناصر هذه الثقافة وتكاملت، أمكن لهم أن يحققوا شخصيتهم من جديد. وبذلك تتحقق تلك الأهداف التي قلنا إنّها مرتبطة بحركة الشخصية الإسلامية وفاعليتها.

ولكن، هل يستطيع هذا الحل أن يعطينا العلاج السليم للمشكلة؟

أمّا نحن فلا نحسب ذلك، لأنّ الثقافة المجرّدة لا تملك تكوين شخصية لإنسان ما، ما لم تدعمها تربية صحيحة وأجواء تساعدها على نموها وتكاملها، وروحية تلتقي في ذاتها ببعض العناصر الأصيلة لتلك الشخصية.

إنّ مهمّة الثقافة في بناء الشخصية، هي تمهيد الطريق وتعبيدها أمام نشوئها ونموها، لأنّها تساهم في انفتاح العقل الإنساني على العناصر الأصيلة التي ترتكز عليها وعلى المحتوى الذي تعيش في داخله وتفسح في المجال لاختبار الخصائص الكاملة في ذاتها ومدى التقائها بتلك العناصر وابتعادها عنها، كطريقة عملية للبدء بالتربية والبناء.

وقد يقول قائل: إنّ مهمّتنا ليست مهمّة بناء وتكوين، بل هي مهمّة إثارة وتوعية، لأنّ الشخصية الإسلامية موجودة في داخل الإنسان المسلم، ولكنّها تفقد الحركة والتأثير في حياته.

وإذا كانت مهمّتنا هي الإثارة وإعطاء الحركة لهذه الشخصية فربما تكون المشكلة أقل تعقيداً وصعوبة، لأنّ مهمّة البناء تتعلّق بالأُسس والجذور وتنطلق في عملية خلق إنسان جديد.

أمّا مهمّة الإثارة فلا تتعلق إلّا بالسطوح وتنقيتها مما عُلّق بها من طفيليات وأدران، لتنطلق في عملية إصلاح لهذا الإنسان.

أمّا تعليقنا على هذا القول فلا ينطلق من إنكار نوعية المهمّة وطبيعة القضية التي نعيشها، بل نحاول مناقشة طبيعة الحكم الذي أطلق عليها. فما يدرينا أن تكون عملية الإثارة والإصلاح أقل صعوبة وتعقيداً من عملية البناء، ولا سيما إذا اتصلت الطفيليات بالأسس وتعلّقت بالجذور؟

بل نستطيع القول إنّ عملية الإصلاح أشد - بمراتب - من عملية البناء، لأنّها تتطلّب الدقّة والحذر في العمل، لئلا يتأثر البعض على حساب البعض الآخر.

 

- الحسّ الديني:

وما دمنا في سبيل البحث عن (حل) لمشكلتنا، فقد يبدو لنا أنّ الخطوة العملية التي يلزمنا القيام بها هي خلق الأجواء التي تساعد على شحن الإنسان المسلم عاطفياً، وتغذية روحه الديني بأسلوب عاطفي متزن. فإذا حصلنا على مثل هذه الأجواء، وأمكننا إثارة وجدانه الإسلامي وحسّه الديني، كانت التربية خطوة ثانية لابدّ من أن نخطوها بروية واتزان.

أمّا كيف نستطيع الحصول على ذلك؟ فهذا ما نحاول أن نضع أيدينا عليه وأن نلمحه في تجاربنا القريبة الماضية بكلّ وعي وقوّة.

فقد لمس الكثيرون الاندفاع المحموم الذي قامت به بعض المبادىء الكافرة في بعض البلدان الإسلامية نحو تركيز فكرتهم، والسيطرة على الواقع بكلّ أساليب الضغط والإرهاب في بعض الأحيان، والإغراء في البعض الآخر.

واندفع الناس مع التيار المجنون بفعل هذه الأساليب، وبسبب ردة الفعل التي أحدثها الواقع الفاسد الذي عاشوه، أملاً في أن يجدوا في واقعهم الجديد ما يرفع عنهم تلك المرارة وذلك الاضطهاد.

وكانت أيام عصيبة بكلّ ما تحمل هذه الكلمة من معنى العنف، وتلفّت الناس يبحثون عن المهرب بعد أن اتضحت لهم اللعبة وانكشفت الخدعة، وكان للعاطفة الدينية والجوّ الروحي، الذي انطلق في تلك الآونة كأعنف ما يكون، أكبر الأثر في إنقاذ المسلمين من ذلك الواقع.

وكانت الفتاوى التي أعلنت كفر الشيوعية وإلحادها، المنطلق الذي انطلقت منه هذه العاطفة، فماذا كانت النتيجة؟

إنّ هذه الفتاوى لم تعدّ مجرد كلمات معدودة، بل تحوّلت إلى حياة تتحرّك بكلّ ما في داخلها في قوّة وحيوية ونشاط فتتحرّك معها الجماهير المسلمة بعزم ويقظة.

فقد عاشت هذا الجوّ الديني بكلّ إحساسها، فوجدت فيه ما يرفع الغشاوة عن عيونها والظلمة عن واقعها، وهكذا بدأ رد الفعل يتعاظم ويتعاظم حتى اندفع الكثيرون يفكّرون ويفكّرون في تركيز هذه العاطفة وتنمية هذا الوعي كأساس للوقوف أمام التيارات المعادية للإسلام.

وهكذا شاركت هذه الصدمة، وما أثير حولها من مشاكل وقضايا، في إثارة الوجدان الديني، وبالتالي في دفعه إلى أن يفكّر في مدى أوسع من المدى الذي عاشته القضية، ويسير في سبيل أن يفرض فيه شخصيته الإسلامية ككائن حي يحرّك الحياة ويتحرّك في داخلها.

وقد يحلو لبعض الفئات أن ترجع هذا الأثر إلى بعض الظروف العامّة المحيطة بالموضوع، وقد يحلو للبعض الآخر أن يسبغ على نفسه صفة القيادة لهذه الجماهير ويذكر لنا في ما يذكر الفاعليات والبطولات التي قام بها في هذا المجال، ويحدّثك عن شخصيات كثيرة طارئة ساعدت على الوقوف في وجه التيار.

ونحن لا نريد الدخول في مناقشة حول هذه القضية، ولا نريد أن ننكر الأدوار التي تدعى والظروف التي أحاطت بالقضية.

ولكنّنا نريد تقرير حقيقة واقعة، هي أنّ الدِّين وما يحمله من قوىً روحيةً لا تزال كامنة في نُفوس المسلمين، هو المنطلق الأكبر لهذه الانطلاقة وهذا الانتصار.

 

- استعادة الشخصية:

تلك هي إحدى التجارب التي عشناها في أمسنا القريب، واستفدنا منها أنّه لا يزال هناك شيء من ملامح الشخصية الإسلامية، نستطيع أن نستفيد منه كخميرة للعمل - إن صح التعبير - ولو كان ذلك من وجهة أنّه لا يجعل الإنسان غريباً عن واقع القضية، أو لأنّه يفسح في المجال العملي لنمو العمل وتقدّمه، إذا أثيرت بعض القضايا التي تتعلق بطبيعة الدعوة كسبيل لإيجاد جوّ تتنفس فيه.

وإذا كان الأمر كذلك، فما علينا - في محاولتنا لبعث هذه الشخصية إلى الحياة من جديد - إلّا أن نخلق لها الكثير من هذه الأجواء التي تتنفس فيها عبير الحياة.

وهذه مهمّة قد لا تقتصر على النُّخبة الصالحة التي تمسك بيدها زمام العمل في سبيل الله، والدعوة إليه، بل تشمل كلّ مسلم يحاول أن يستعيد شخصيته الإسلامية، ويعي المرحلة الدقيقة التي اجتاحت كثيراً من الشخصيات الطارئة على شخصية الإسلام، لأنّ المشكلة لا تنطلق من الخارج، لتستطيع هذه النُّخبة ملء الفراغ، وإنّما تنطلق من الداخل والخارج.

ففي المجال الفكري، يحاول هذا الإنسان أن يثير الحركة في عقله وذهنه بنشاط ويقظة، فيعمد إلى أن يعيش أحداث عصره وظروفها، فيحلّلها ويحاكمها على أساس الخط الإسلامي العريض، ومن ثمّ ينطلق لتحديد موقفه الفكري منها بالرفض أو التأييد.

ومن البديهي أنّه سيضطر، في سبيل ذلك، إلى أن يضع يديه على الخط العام للإسلام، وعلى الاتجاهات التي يحاول أعداؤه - من خلالها - أن يشوّهوا وجه الإسلام، وعلى العقبات التي يريدون أن يضعوها أمام تقدّمه، وستكون النتيجة - في نهاية المطاف - أن يرتفع الرصيد الفكري لهذا الإنسان، فيشارك - بعد ذلك - في إثارة هذه الشخصية وتنقيتها مما عُلّق بها من شوائب وأدران.

وفي المجال العملي: يبدأ هذا الإنسان في دفع خطواته وتحديدها، على هدى الإسلام، ويحاول - في الوقت نفسه - أن يجر مجتمعه إلى هذا السبيل وهذا الهدف.

وهنا، لا يملك إلّا أن يحسّ بإسلامه، وهو يتحرّك في حياته ومجتمعه ليرفض ما لا ينسجم مع الإسلام، ويقبل ما يتلاءم معه، فلا يشعر بانفصال شخصيته عن الآخرين، وإنّما يحسّ، بعمق أنّه يشاركهم في تحديد مصيرهم المشترك على بيّنة وإيمان.

أمّا مهمّة النُّخبة الصالحة، فهي مهمّة القيادة والتوجيه والإرشاد بأسلوب عملي صحيح. تلك هي بعض الملامح التي قد نجد عندها بعض الحل، وربما تكون هناك حلول أخرى.

 

المصدر: كتاب قضايانا على ضوء الإسلام

ارسال التعليق

Top