• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

غاية الخلق.. الطريق إلى الكمال

جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

غاية الخلق.. الطريق إلى الكمال

◄إنّ عدم وجود غرض يعود إليه تعالى لا يعني عبثية الخلق والتي تنافي الحكمة الإلهية، قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون/ 115)، والعبث يطلق على الشيء الذي لا غاية حقيقية له، وهو يأتي في قبال الحكمة. إنّ الإنكار هنا بمعنى أنكم حسبتم أنّ لا حكمة في خلقكم، وأن ليس هناك غاية حكيمة.

إنّ أي فعل – نركز عليه – لابدّ أن يكون باتجاه هدف معين، وطبيعي أن بعثة الأنبياء كانت تستهدف تكميل الإنسان. ومما صرحت به الشرائع أنّ الأنبياء جاؤوا ليعينوا الإنسان، ويأخذوا بيده إلى الكمال.

إنّ في حياة الإنسان – في الواقع – نوعاً من الخلل والنقص لا يمكن للإنسان الفردي، بل وحتى الإنسان الاجتماعي أن يسده بمعونة طاقات الأفراد العاديين، فيتعين عليه أن يستعين بالوحي.

يلزمنا حينئذ أن نعود إلى القرآن الكريم ليحدثنا – بشكل أكثر تفصيلاً وأشد تعييناً – عن هدف الإنسان، وهل تحدث عن الهدف من خلق الإنسان؟ وهل ذكر لنا الهدف من بعثة الأنبياء؟ وهل تحدث عن الهدف الذي يعيش له الإنسان؟

 

الطاعة والمعصية يعودان على الإنسان نفسه:

إنّ المتأمل في أمور الحياة وشؤون الأحياء يجد فئات من الناس تعيش ألواناً من التعب والشقاء وتنفث صدورها أنواعاً من الضجر والشكوى، ضجرٌ وشقاء يعصِف بالأمان والاطمئنان، ويُفقد الراحة والسعادة، ويتلاشى معه الرضا والسكينة، نفوسٌ منغمِسةٌ في أضغانها وأحقادها وبؤسها وأنانيتها، ويعود المتأمل مرة أخرى ليرى فئات من الناس قد نعمت بهنيء العيش وفيوض الخير، كريمةٌ على نفوسها، كريمة على الناس، طيّبة القلبِ سليمة الصدر طليقة المحيا. ما الذي فرق بين هاتين الفئتين؟ إنها الطاعة والمعصية.

فالطاعة سكينة ورضا وحلاوة، والمعصية قلق ولا استقرار وتأفف، والطاعة سعة في الرزق ومحبة في قلوب المؤمنين، والمعاصي خلاف ذلك.

 

اختلاف الناس في المواهب والرزق:

ورد في النص القرآني ما يشير إلى ذلك التفاوت: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (النحل/ 76)، والمعنى أنّ الله عزّ وجلّ نفى التساوي بين الأفراد الذين خلقهم. ولا شكّ أنّ التفاضل في الرزق، والتفاوت في القدرة على التصرف بالمال يعتبران من السنن التكوينية وجزءاً لا يتجزأ من التصميم الإلهي للخلق والتكوين. ولكن هذا التفاضل التكويني، والاختلاف في القدرات العقلية والجسدية إنما يؤديان ثمارها العملية على الصعيد الاجتماعي، إذا التزم الأفراد بتطبيق مفردات الشريعة الإسلامية فحسب؛ وإلّا أصبحت تلك الاختلافات من موارد انعدام العدالة الاجتماعية.

وفي ضوء ذلك، جعل الإسلام في أموال الأغنياء حقاً ثابتاً للفقراء، وبذلك فهو لم يلغِ التفاضل الاجتماعي، بل وضع له ضريبة ثابتة تدخل في دائرة منفعة الأفراد الذين لم يوفقوا اقتصادياً واجتماعياً.

إنّ الاختلاف في الاستعدادات ينبغي أن يوظف لخدمة مسيرة البناء، كما في اختلاف طبيعة أعضاء بدن الإنسان أو أجزاء الوردة، فمع تفاوتها إلا أنها ليست متزاحمة، بل إنّ البعض يعاضد البعض الآخر وصولاً للعمل التام على أكمل وجه.

وإلى هذا الأمر في خلق الله أشار أمير المؤمنين (ع) بقوله: "وقسّم بينهم معيشتهم" وما يعيشون به في الحياة الدنيا من أنواع الرّزق والخير والمنافع والنعماء، ووضع كلا منهم موضعه من الفقر واليسار والغنى والافتقار والسعة والإقتار على ما يقتضيه حكمته البالغة وتوجبه المصلحة الكاملة كما أشير إليه في قوله عزّ وجلّ: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) (الزخرف/ 32).

وهذا الأمر يبتني على حكمة وليس تفاضلاً عبثياً؛ ففي الحديث القدسي، "إنّ من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ومن عبادي من لا يصلحه إلا الغنى".

وقد يكون ابتلاءً، فإنّ وجود التفاضل بين الناس مهم في عملية الابتلاء فلو كان بنو الإنسان جميعهم على نمط واحد ينالون قسطاً من عطاء الله متساوياً لتعطل الجزء الأكبر من الابتلاء بجميع تفاعلاته ولما ظهرت خفايا كلّ امرئ وما تكنه الصدور.

وفي ابتلاء الإنسان منافعٌ له ولغيره. فأنّ الابتلاء يقرب الإنسان من ربه، فيتضرع إلى الله، يقوم الليل، ويصوم النهار، ويتصدق على المساكين والفقراء، ويدعو الله أن يمن عليه ويفك كربته كما إنّ الابتلاء يكشف عن معدن الإنسان.

 

الرزق وسعي الإنسان:

أنّ كلَّ شيء من الناحية العقائدية تنتهي نسبته إلى الله عزّ وجلّ، وكلّ موحد يعتقد إنّ منبع وأصل كلّ خير منه سبحانه وتعالى، ويردد ما تقوله الآية (26) من سورة آل عمران: (بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

وقد أعطت الأحاديث والروايات أهمية استثنائية للسعي في طلب الرزق المصحوب بالتقوى، وحتى روي عن الإمام الصادق (ع) انّه قال: "لا تكسلوا في طلب معايشكم، فإنّ آباءنا كانوا يركضون فيها ويطلبونها".

وروي عنه أيضاً: الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله".

وذكر انّ من جملة من لا يستجاب لهم الدعاء أولئك الذين تركوا طلب الرزق على ما لهم من استطاعة، وانزووا في زوايا بيوتهم يدعون الله أن يرزقهم.

فالسعي والعمل الصحيح البعيد عن أي إفراط أو تفريط، هو أساس كسب الرزق، ولعل هذا الأمر هو الذي دفع أمير المؤمنين (ع) في كلماته القصار في تقديم ذكر الرزق الذي يطلبه الإنسان على الرزق الذي يطلب الإنسان، حيث قال: يا ابن آدم، الرزق رزقان: رزق تطلبه، ورزق يطلبك.

 

الابتلاء بالشر والخير:

والابتلاء بالشر مفهوم إجمالاً ويمكن مواجهته بالانتباه والثبات حتى تنقشع غيوم الشدة، أما أن يبتلي المرء بالخير فهنا الامتحان الملتبس، فالكثيرون وهم ينغمسون في طيبات الخير لا يحسبون أنهم مبتلون ولذا تتراخى أعصابهم إلى حد غياب اليقظة والحذر، ويرتكبون أغلظ الأخطاء وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً..! غير أنّ همّ المؤمن الحق وهو يتقلب بين نار المصيبة ورخاء النعمة يجب أن ينصب دائماً على التماس رضا الله تعالى، مع الالتفات إلى أنّ كثرة الرزق عند البعض لا تعبر عن كرامة نالها من عند المنعم سبحانه، وكذلك خواء اليد لا يدل على هوان، يقول تعالى: (فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلا...) (الفجر/ 15-17)، فالعبرة ليست بالمنع والعطاء ولكن بما يسفر عنه الابتلاء..!

 

المصدر: كتاب المتقون/ سلسلة الدروس الثقافية (19)

ارسال التعليق

Top