• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

اللسان.. سعادة وشقاء

الشيخ حسن محمد نديم الطائي*

اللسان.. سعادة وشقاء
    ◄إحدى الخصائص الإنسانية التي وهبها الله - سبحانه وتعالى – إلى ابن آدم هو اللسان الناطق، فالنطق نعمة كبيرة، ولكنه في نفس الوقت نقمة كبيرة أيضاً، فوائده كثيرة وأخطاره جسيمة: انّه سلاح ذو حدين إن لم يتصرف الإنسان معه بحكمة أورده المهالك. واللسان وإن كان صغيراً في الحجم لكنه عظيم عند الطاعة والمعصية وبه يتميز المؤمن من الكافر والخبيث من الطيب ولا يتبين الكفر من الإيمان إلا بشهادته... ومجال اللسان في الخير والشر واسع كسعة الأرض والسماء. ولم يفلت شيء في الوجود إلا واللسان يتعرض له وينسب إليه الحق والباطل، فمن قيده بقيود العقل والمنطق إضافة للشرع فاز في الدنيا والآخرة، ومن أطلق عنان لسانه ولم يقيده بشرع أو عقل أو منطق فإنّه سوف يلاقي الأمرين في الدنيا ويحشر في جملة الخاسرين في الآخرة. وبما أنّ الكثير من البشر أطلقوا العنان لألسنتهم، تخوض وتلعب في كل حديث من دون قيد أو شرط، ولا موازين عقلية ولا شرعية فقد جاء الشرع الإسلامي ليقيده لنا ويحذرنا من صولاته وجولاته ومن عواقبه الوخيمة، فقد قال – عزّ من قائل – في سورة ق: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق/ 18). مرّ الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) برجل كان يتكلم بفصول الكلام، فقال له: "يا هذا: انك تملي على حافظيك كتاباً إلى ربك، فتكلم بما يعنيك ودع ما لا يعنيك". فكل لفظة وكل قول وكل ما يتفوه به الإنسان فإنّها تسجل عليه بدون زيادة أو نقيصة وإن كانت مثقال ذرة أو أقل منها، فحتى لفظة "آه" تسجل عليه ويحاسب بها عند الله – سبحانه وتعالى – بأنها كانت لدين أم دنيا؟ وكلمة "أف" إذا قالها لوالديه، وقس على مثل هذه الألفاظ... فمثل اللسان: كمثل المزارع، مهما يزرع فإنه سوف يحصد ما زرع، إن شر فشر، وإن خير فخير، وقد قال رسول الله (ص): "وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصاد ألسنتهم"، وفي رواية أخرى، يقول (ص): "يعذب الله اللسان بعذاب لا يعذب به شيئاً من الجوارح. فيقول: أي رب، عذبتني بعذاب لم تعذب به شيئا من الجوارح، فيقال له: خرجت منك كلمة بلغت مشارق الأرض ومغاربها، فسفك بها الدم الحرام وانتهب بها المال الحرام، وانتهك بها الفرج الحرام، وعزتي وجلالي لأعذبنك بعذاب لا أعذب به شيئاً من جوارحك". وما أكثر الكلمات التي تطلق في تسقيط وتجريح الآخرين والحط من قدرهم أو التكلم بما لا يحل من كذب أو غيبة أو نميمة وإفشاء سر وهتك ستر مؤمن وما أشبه. فيجب أن يحاسب الإنسان نفسه قبل أن يحاسب أمام الله – جل جلاله – والخلائق أجمعين، يحاسب نفسه على كل كلمة قالها، أفي حق هي أم باطل؟ وأن كانت في حق، فمن أين علمنا؟ وهل نعلم بموازين الحق؟ فلان قال... من يقول أن فلان لا يقصد الإساءة، أو لا يوجد عنده غرض أو حسد أو حقد أو ما أشبه؟ وهل هو معصوم... وهل كل ما نسمعه يجب أن نقوله؟ والحديث الشريف يقول: "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع". وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) بشأن اللسان: "المرء مخبوء تحت لسانه، فزن كلامك وأعرضه على العقل والمعرفة، فإن كان لله فتكلم، وإن كان غير ذلك فالسكوت خير منه. وليس على الجوارح عبادة أخف مؤونة وأفضل منزلة وأعظم قدراً عند الله كلام فيه رضى الله – عزّ وجلّ – ولوجهه ونشر آلائه ونعمائه في عباده، إلا أنّ الله لم يجعل فيما بينه وبين رسله معنى يكشف ما أسر إليهم من مكنونات علمه ومخزونات وحيه غير الكلام، وكذلك بين الرسل والأُمم، فثبت بهذا انّه أفضل الوسائل للعبادة وكذلك لا معصية أثقل على العبد وأسرع عقوبة عند الله وأشدها ملامة وأعجلها سآمة عند الخلق منه، واللسان ترجمان الضمير وصاحب خبر القلب، وبه ينكشف ما في سر الباطن، وعليه يحاسب الخلق يوم القيامة، والكلام خمر يسكر العقول ما كان منه لغير الله، وليس شيء أحق بطول السجن من اللسان". يجب أن يسجن اللسان، لا أن يطلق، خصوصاً في مجالس البطالين، ويخوض في الباطل ويتكلم بالمعاصي والفجور وما أشبه... وقد ورد النهي عن هذه المجالس والركون إليها في حديث رسول الله (ص)، حيث قال: "أعظم الناس خطايا يوم القيامة أكثرهم خوضاً في الباطل"، وقد أشار – سبحانه وتعالى – إلى الذين يرتادون هذه المجالس بعد أن يدخلوا النار مخزيين يتساءل عنهم أصحاب النعيم حيث يقول – سبحانه وتعالى – في سورة المدثر: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) (المدثر/ 38-48). فقد وصفهم الله – سبحانه وتعالى – أولاً: بالمجرمين! هذا الذي يذكر الآخرين بغير حق ويكيل عليهم التهم ويهتك سترهم ويكشف سرهم وينتقص من شأنهم ولا يزكي إلا نفسه وعمله، ويرى قليل عمله كثيراً، وكثير عمل الآخرين قليلاً وحقيراً... ويحسد يحقد ويشمت و...، فلا غرابة أن يكون مصيره وأمثاله إلى سقر، أعاذنا الله منها. فإذن، وبعد كل هذا لم نجد طريقاً نسلكه بألسنتنا غير العبادة والتكلم بما يرضي الله سبحانه، وإلا: فالسكوت خير لنا من الوقوع في تبعات الكلام والخوف من عوائده ومصائده وقد قال الإمام الصادق (ع): "لا يزال العبد المؤمن يكتب محسناً ما دام ساكتاً، فإذا تكلم كتب محسناً أو مسيئاً". وإن أردنا أن نتكلم، فيجب أن نعلم بأنّ الكلام يقع على أربعة أوجه كما جاء في الإخبار الواردة: "فهو إما ذكر، أو لغو، أو لهو، أو خطأ: فالذكر: ما ذكر فيه اسم الله أو ما دل عليه، واللغو: ما خلا عن ذكر الله وما لا مفهوم له، واللهو: ما لم يقصد فيه وجه عقلاني مقبول، والخطأ: ما لم يصب الحقيقة".

فحري بالمسلم أن يكون كلامه ذكراً وصواباً، بعيداً عن اللغو واللهو. لكي يوفق لحياة سعيدة في الدنيا والآخرة.

*الكاتب من كندا

المصدر: مجلة الإيمان/ العدد 78 لسنة 1419هــــ

ارسال التعليق

Top