إبراهيم العاتي*
◄التسامح مبدأ سارت عليه الديانات السماوية وأكدته الشريعة الإسلامية. وحسب التصور القرآني ما بعث الأنبياء وأرسل الرسل إلا ليرسوا دعائم العدل والرحمة بين البشر. (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد/ 25). والإسلام الذي جاء مكملاً للديانات السماوية وخاتماً لها قدم مثلاً سامياً في إقرار صيغ إلهية تحدد كيفية التعامل مع الآخرين في المجالات المختلفة: اجتماعية كانت أم فكرية أو سياسية أم اعتقادية خالصة. ولا شك في إنّ هذا الموضوع وتفريعاته المتعددة، شكل منذ أحداث أيلول – سبتمبر – 2001 وما أعقبها من تطورات متلاحقة في أفغانستان والعراق، أحد قضايا الساعة المطروحة على بساط البحث وفي أجهزة الإعلام المختلفة التي حاول الكثير منها اتهام المسلمين بعامة بالتعصب والإرهاب وعدم قبول الرأي الآخر المخالف، تأسيساً على أنّ هذا هو موقف الإسلام نفسه!! وربما غذت الرؤى الضبابية والتصرفات غير المسؤولة لبعض الحركات المتطرفة في أكثر من بقعة عربية وإسلامية تلك النزعة العدوانية والتصورات الخاطئة التي شاعت عن المسلمين في الغرب.
ولو رجعنا إلى الأصل اللغوي لكلمة التسامح في اللغة العربية لوجدناه مقارباً لمدلوله الاصطلاحي. فالتسامح من سمح، بمعنى جاد وأعطى أو وافق على ما أريد منه، وهو يعني أيضاً الاتساع، بمعنى أن يتسع الذهن لقبول الآخر أو محاولة فهمه على الأقل، إن لم يتحقق القبول. وإذا أردنا أن نحلل هذه القضية يمكن أن ننظر إليها في مستويين رئيسيين: مستوى الأصول والأحكام التي جاء بها القرآن، ومستوى التطبيق والممارسة الذي قام به المسلمون. وسوف نسلط الضوء على هذين الأمرين لنخرج ببعض النتائج التي قد نفضي إلى فهم حقيقي لموقف الإسلام من التعصب والإرهاب والإكراه في ظل أجواء محمومة تريد أن تلصق بالإسلام ما شاءت من التهم.
أما مبدأ التسامح من خلال الأصول والأحكام فإنّ القرآن الكريم يبين لنا في آيات عدة جملة أصول تحدد مفهوم التسامح أو تؤدي إليه، منها:
- رفض أسلوب الإكراه والسيطرة:
لقد كان إجبار الناس على الدخول في ديانة ما، سماوية أو غير سماوية، أو الخروج منها أمراً شائعاً قبل ظهور الإسلام وبعده أيضاً، حيث نجد مصاديقه في الحضارات المختلفة. فقد قضى كهنة مصر القديمة على دعوة اخناتون، التي اقتربت من التوحيد، وأزيل أي أثر لها لأنها لم تكن تتماشى مع الوثنية الطاغية حينذاك والتي اتخذت من عبادة آمون شعاراً لها.
وفي أيام الرومان عوملت الديانة المسيحية الناشئة بقسوة لا مثيل لها، ولكن حينما تبنت الامبراطورية الرومانية المسيحية في عهد قسطنطين مارست القسوة نفسها في فرض مذهب بعينه على المسيحيين كافة في العالم القديم، الأمر الذي أدى إلى مشكلات عقدية وانقسامات مذهبية لا تزال جذورها متأصلة حتى اليوم. وبعد سقوط الأندلس أجبر المسلمون على تغيير دينهم في ظل محاكم التفتيش التي لا ترحم، بعد أن حكمت بالموت على عدد كبير منهم.
وفي بدء الدعوة الإسلامية عانى المسلمون في مكة الكثير من العنت والاضطهاد لثنيهم عن الإيمان بالدين الجديد، ولكن حينما استتب لهم الأمر في المدينة المنورة، لم يكرهوا أحداً من أرباب الديانات الأخرى على الدخول في الإسلام، ونزلت الآية الكريمة: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة/ 256)، حينما كانت لهم العزة والمنعة، لتكون قاعدة قرآنية يقاس بها موقف المسلمين من غير المسلمين، بل يقاس بها موقف المسلمين وسلوكياتهم من بعضهم بعضاً. وسبب نزول هذه الآية أن رجلاً مسلماً من الأنصار أراد أن يُكره ولديه، وكانا نصرانيين، على اعتناق الإسلام، فنزلت هذه الآية ناهية عن ذلك.
(لا إكراه في الدين)، أي لا إكراه في الدخول فيه، لأنّ الإيمان إذعان وخضوع، ولا يكون ذلك بالإلزام والإكراه، وإنما يكون بالحجة والبرهان. وهذا المعنى تؤكده آية أخرى، قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس/ 99). ويذهب المراغي في تفسيره إلى أنّ المسلمين قد جعلوا قوله تعالى لا إكراه في الدين "أساساً من أسس الدين، وركناً عظيماً من أركان سياسته، فلم يجيزوا إكراه أحد على الدخول فيه، كما لم يجيزوا لأحد أن يكره أحداً على الخروج منه" (تفسير المراغي، ج3، ص18).
ويشرح الطبرسي تلك الآية فيقول: "ليس في الدين إكراه من الله، ولكن العبد مخير فيه، لأن ما هو دين في الحقيقة من أفعال القلوب إذا فعل لوجه وجوبه، فأما ما يكره عليه من إظهار الشهادتين فليس بدين حقيقة، كما أن من أكره على كلمة الكفر لم يكن كافرا" (مجمع البيان، ج1، ص631).
ولا شك أنّ هذا المبدأ يكشف عن حقيقة جوهرية تبدد الكثير من الشبهات والهواجس التي تكونت عند البعض حول انتشار الإسلام قديماً والدعوة إليه حديثاً، والتي تحاول ربطه بنزعة القوة والغلبة والعنف الذي تمارسه بعض الجماعات المحسوبة على الإسلام. والمعروف أن اتباع الديانات السماوية قد عاشوا في كنف المسلمين وبين ظهرانيهم ولم يجبروا على تغيير معتقداتهم، وأظهر المسلمون معهم قدراً كبيراً من التسامح، لكن للأسف فإنّ المسلمين لم يبدوا التسامح المطلوب فيما بينهم، فصار الاختلاف في أمور فرعية أحياناً مدعاة لأن يكفر بعضهم بعضاً، وفي ذلك ما فيه من إلغاء للآخر واستباحة حقوقه كافة، ناهيك عن التوسل إلى فرض الآراء والمذاهب بالعنف والإكراه. ولنا أن نتساءل من خلال السياق القرآني الذي أوضحناه، أنّه إذا كان إكراه غير المسلم على إظهر الشهادتين أو اعتناق الإسلام غير جائز، فكيف يجوز إكراه المسلم من قبل أخيه المسلم على الإيمان بقضايا فرعية واجتهادية أو مذهبية؟!
- مبدأ الحرِّية والاختيار الإنساني:
يتجلى مبدأ التسامح في الإسلام أيضاً في تأصيل الحرِّية والاختيار الإنساني، وهو ما زكته آيات كثيرة، مثل قوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة/ 7-8)، أو (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ) (فصلت/ 46)، أو (فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (التوبة/ 70)، وغير ذلك من الآيات التي تعزز حرِّية الإنسان أمام المذاهب الأخرى التي تجعله كائناً مسلوب الإرادة.
أما ظهور التيار الجبري في الإسلام فقد نجم عن فهم قاصر للنص القرآني من خلال تكامله مع بقية النصوص، وقد استغلت ذلك الفهم التجزيئي القاصر بعض السلطات السياسية منذ وقت مبكر، لتنفخ فيه وتوسع من قاعدته، لأنها وجدت فيه تبريراً لإستبدادها وتسلطها باسم الدين. وإذا سلمنا بمبدأ الحرِّية والاختيار كأصل عام، فإننا نكون قد سلمنا بشرط أساس من شروط التسامح.
- الحوار مع الآخر:
الإسلام دين العقل والعلم، والعقل لا يسلم بقضية ما إلا بعد مناقشتها وتمحيصها، ولا يمكنه قبولها بالإكراه والتعسف بل بالبرهان والدليل: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (النمل/ 64). ومبدأ الحوار والجدال يفترض وجود الآخر، لأنّه يتم عادة بين طرفين. قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125)، وقال سبحانه: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (الزمر/ 18).
ولعل من أكثر الصفحات إشراقاً في تاريخ الحضارة الإسلامية هي تلك المطارحات والمساجلات الفكرية التي تمت بين الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة والكتاب على مشاربهم ومذاهبهم المختلفة، بخاصة إذا لم تشبها شائبة المصالح والأطماع السياسية. ولم تكن تلك المناقشات تدور بين المسلمين أنفسهم وحسب، بل بينهم وبين غيرهم من أرباب الديانات الأخرى.
- مبدأ التسامح من خلال التطبيق والممارسة:
لعل الإشكالية الرئيسية فيما يخص مبدأ التسامح في الإسلام تكمن في تطبيقه في الواقع، وانعكاسه على سلوكيات الأفراد، حيث يمكن أن نشخص هنا نوعاً من التناقض أو الازدواجية. إذ نرى تاريخياً أنّ المسلمين في الغالب يتعاملون مع غير المسلمين بالحسنى والتسامح، بينما يبلغ التعصب درجة لا توصف بين المسلمين أنفسهم، بحيث لا يبدأ الخلاف إلا وتشهر السيوف والرماح أو يلعلع الرصاص، أو يتخذ الحوار منحى عنيفاً يبدأ بالتشهير وينتهي بالتكفير. ومثال الخوارج قديماً وبعض الجماعات الدينية حديثاً خير شاهد على ما نقول. ولقد طغت هذه الممارسات البعيدة عن روح الإسلام على الصورة النقية التي رسمها الإسلام لأتباعه، وحدد طريقتهم في التعامل مع الآخرين، حتى صار الإسلام يوصم بالتعصب والبعد عن التسامح. ولا نستطيع أن نتجاهل دور العوامل السياسية في تأجيج الصراعات المذهبية والطائفية في العالم الإسلامي منذ وقت مبكر وحتى يومنا هذا.
وللخروج من هذا المأزق لابدّ من الرجوع إلى الأصول القرآنية التي تحرم فرض العقائد بالقوة أو الإكراه، وكذلك فتح الحوار داخل البيت العربي والإسلامي، لوقف الاحتراب بين التيارات الإسلامية نفسها أو بينها وبين غيرها من التيارات السياسية. ثمّ أنّ الإسلاميين لابدّ أن يتجنبوا الانجرار وراء دوامة العنف والعنف المضاد، لأنّه الطريق المفضل لدى الأعداء لإستئصال التيارات الإسلامية من جذورها.
وأخيراً لابدّ أن يقنن الإسلاميون مبدأ الحوار والتسامح وحرِّية الرأي والمعتقد في مواد دستورية، وأن لا تبقى مجرد شعارات يتغنون بها عند اللزوم، ثمّ عليها أن يسلموا بأن لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة، فآراء الناس مهما عظمت تظل في دائرة الممكن والنسبي. وكم أدى توهم امتلاك المطلق على المسلمين وغيرهم إلى ويلات ومصائب قديماً وحديثاً.
(*) عميد الدراسات العليا/ الجامعة الإسلامية – لندن
المصدر: مجلة الكلمة/ العدد الأوّل لسنة 2004م
ارسال التعليق