تواجه المرأة – في مجتمعات مختلفة – حالة دونية، سواءً على صعيد الخلفيات الثقافية العقائدية أو التاريخية أو على مستوى السلوك العملي، ولم يخل مجتمع من المجتمعات ـ غربيّها وشرقيّها ـ من هذه النظرات التحقيرية للمرأة أو التصوّرات الخرافية عنها، أو السلوك العملي المشين الذي يواجهها بصور مختلفة خفيّة وأخرى جليّة.
وكان مجتمع الجاهلية الذي واجهه الإسلام عند بزوغه من أشدّ المجتمعات قسوة وأكثرها حقداً تجاه المرأة، يكفي أنّهم كانوا يدفنون البنت الوليدة وهي حيّة تخلّصاً ممّا يعتقدونه عاراً يلحق بهم، أو تملّصاً من نفقتها، وما كانوا يتصوّرونه من الفقر والفاقة التي تسبِّبها لهم، وفي هذه الأجواء جاء الإسلام العظيم ليدفع عن المرأة هذا الظلم الكبير، وها هو القرآن يئنّ ويصرخ لحالها مستظلماً:
(وَإذا المَوؤُودَةُ سُئِلَت * بِأيِّ ذَنبٍ قُتِلَت) (التكوير/ 8ـ9).
ويصف القرآن الكريم هذه الحالة المأساوية التي كانت تمرّ بها المرأة في آيات أخرى: (وَإذا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيم) (النحل/ 58).
ويصفه بأنّه كان خطأً كبيراً: (وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإيّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبيراً) (الإسراء/ 31).
وينقل التاريخ لنا صوراً مأساوية من أوضاع المرأة في الجاهلية، والواقع المرّ الذي كانت تواجهه، وهذه الصور تساعدنا في معرفة النقلة النوعية التاريخية التي حقّقها الإسلام في ذلك المجتمع، إذ ينتقل بالمرأة من واقعها السيِّئ هذا، إلى مستوى الإكرام والإجلال والمساهمة في مسيرة الرسالة الفكرية، والاجتماعية والسياسية بأعلى المستويات، ويعرض القرآن الكريم من النساء مثلاً ليكنّ قدوة للذين آمنوا بإيمانهنّ وصبرهنّ وجهادهنّ وعظيم منزلتهنّ.
وقد نهج الإسلام في مقابل الأفكار والتصوّرات الخاطئة والمسيئة والمشينة للمرأة منهجاً فكرياً وعملياً متكاملاً يتّجه إلى إكرام المرأة وإجلالها ابتداءً من مبدأ خلقها ثمّ نشأتها بنتاً وأختاً وزوجةً وأُمّاً حتى انتهائها بالخلود في دار الآخرة، وهو يُصحِّح بذلك كلّ الأفكار الخاطئة وينفي عنها كلّ التصوّرات المنحرفة والخيالات الباطلة.
1 ـ المخلوق المُكرّم:
انطلق الإسلام في تعامله مع المرأة على أساس إنسانيتها ومساواتها في مصدر الخلق والتكوين مع الرجل، من غير تمييز في ذلك، بين الذكر والأنثى، فهما معاً: المخلوق المكرّم العزيز عند الله تعالى، الذي أكرمه الله تعالى بالعلم والمعرفة، وسخّر له السماوات والأرض، وكلّ ما وجد من حوله، ليستخلف الله تعالى في أرضه، قال تعالى: (إقْرأ بِاسْمِ ربِّك الّذي خَلَقَ * خَلَقَ الإنْسانَ مِن عَلَقٍ * إقْرَأ وَرَبُّك الأكْرَمُ * الّذي عَلَّمَ بالقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسانَ ما لَم يَعْلَم) (العلق/ 1ـ5).
وقال أيضاً: (وَلَقَد كرّمنا بني آدَمَ وَحَمَلْناهُم في البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْناهُم مِنَ الطّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُم عَلَى كَثيرٍ مِمَّن خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (الإسراء/ 70).
وهما قد خلقا من نفسٍ واحدة، فلا تفاضل لأحدهما على الآخر، ولا مرتبة عُليا ولا دُنيا، بل هما من مصدر واحد سواء فيه، قال تعالى: (يا أيُّها الناسُ اتّقوا رَبَّكُم الّذي خَلَقَكُم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثيراً ونِساءً وَاتّقوا اللهَ الّذي تَساءَلونَ بِهِ والأرْحام إنّ اللهَ كانَ عَلَيكُم رَقيباً) (النساء/ 1).
وبذلك ينفي الإسلام كلّ الأوهام السخيفة المتداولة حول خلق المرأة: من قدم الإله، أو من فضل خَلقِ الإنسان، أو غيرهما ممّا تعجّ به العقائد المنحرفة.
2 ـ البنت المباركة:
اتّجه الإسلام إلى إكرام المرأة منذ ولادتها، وعلى العكس من تشاؤم الجاهليين تجاه ولادة البنت ورغبتهم في طلب الولد الذكر، فقد جعل الإسلام البنات أفضل الأولاد خيراً وبركة.
فقد نهى رسول الله (ص) عن كره البنات، مُبيِّناً بعض مزاياهنّ الجميلة ومؤكِّداً على مكانتهنّ، فيقول: "لا تكرهوا البنات، فإنّهنّ المؤنسات الغاليات".
والبنات يجلبن الرأفة من الله تعالى، ويدخلن الفرح على مَن يرعاهنّ، فعن أبي الحسن الرضا قال: قال رسول الله (ص): "إنّ الله تبارك وتعالى على الإناث أرأف منه على الذّكور، وما من رجل يدخل فرحة على امرأة بينه وبينها حرمة إلّا فرّحه الله تعالى يوم القيامة".
ورعاية البنات وكفالتهنّ توجب الجنّة، وهي جائزة المؤمن العظيمة يوم القيامة، فعن أبي عبدالله الصادق قال: قال رسول الله (ص): "مَن عالَ ثلاث بنات أو ثلاث أخوات وجبت له الجنّة، فقيل: يا رسول الله واثنتين، قال: واثنتين، فقيل: يا رسول الله وواحدة، فقال: وواحدة".
وطبيعي أنّ الإعالة لا تقتصر على الإنفاق فحسب، بل منها تربية البنت وتعليمها، ففي حديث آخر عن الرسول (ص) قال: "مَن كانت له ابنة فأدّبها وأحسنَ أدبها، وعلّمها فأحسنَ تعليمها، فأوسع عليها من نِعَم الله التي أسبغ عليه، كانت له منعة وستراً من النار".
والبنت ريحانة معطّرة، مكفية الرِّزق من الله تعالى، تدخل على والديها البركة والسرور، فعن محمّد بن علي بن الحسين، قال: "بُشِّر رسول الله بابنة، فنظر في وجه أصحابه الكراهة، فقال: ما لكم؟! ريحانة أشمّها، ورزقها على الله عزّوجلّ، ثمّ أتمّ الباقر: وكان (ص) أبا بنات".
وهو يريد بذلك أن لو كان في الذكور بركة أكثر من الإناث لرزق منهم الرسول (ص)، وكان أكثر أبنائه البنات، ولم يخلف بعده ولم يُرزَق ذرية إلّا من ابنته الزهراء، فلقد كان رسول الله (ص) يحتضن الحسن والحسين، ويقول: "كلّ ولد أب فإنّ عصبتهم لأبيهم، ما خلا ولد فاطمة فإنِّي أنا أبوهم وعصبتهم".
ويُعبِّر الإمام الصادق عن بركة المرأة وما تجلبه للإنسان من خير ومنفعة وأجر، فيقول: "البنات حسنات والبنون نعمة، والحسنات يُثاب عليها والنعمة يُسأل عنها"، وأخرج مؤلِّف الكافي هذا الحديث وغيره في باب تحت عنوان (فضل البنات).
ولذا عُدَّ طلب البنت أمراً مستحباً، كما يُستحبّ إكرامهنّ لما لهنّ من بركة ولما يجلبهنّ من رحمة، ولما كثر من التوصية بهنّ.
3 ـ إكرام البنات قبل البنين:
واستمراراً لعملية رعاية المرأة وإشعارها بالمحبّة، ولنفي وطرد أيّة فكرة سيِّئة عنها وعندها كالنظر إليها بالدونية والحقارة والتنزّل بها عن مرتبة الذكور، فإنّ الإسلام حثّ على أن تُقدّم الإناث في السلام والتكريم وإعطاء الهدايا على الذكور، ليكون ذلك مدعاة لإدخال السرور عليهنّ واحتراماً وإجلالاً لشخصيتهنّ، فعن ابن عباس، قال رسول الله (ص): "مَن دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عياله، كان كحامل صدقة إلى قومٍ محاويج، وليبدأ بالإناث قبل الذكور، فإنّ مَن فرّح ابنته فكأنّما أعتق رقبة من وُلد إسماعيل، ومَن أقرّ بعين ابن فكأنّما بكى من خشية الله، ومَن بكى من خشية الله أدخله الله جنات النعيم".
وفي حديث آخر، نجد الرسول (ص) يؤكِّد على احترام البنت ورعايتها، ومن ذلك عدم إيثار الذكور عليها لكي لا تشعر بالتمييز والإهانة، فهو يقول: "مَن ولدت له ابنة فلم يؤذها ولم يهنها ولم يؤثر ولده ـ من الذكور ـ عليها، أدخله الله الجنّة".
4 ـ الزوجة المُكرّمة:
شيّد الله تعالى بناء الأسرة على أساس المودّة والرّحمة، فقد بيّن القرآن الكريم حقيقة أنّ الرجل والمرأة قد جُبِلا على سكون أحدهما إلى الآخر وميله وشعوره بالطمأنينة والدفء برفقته، فقال تعالى:
(وَمِن آياتِهِ أن خَلَقَ لَكُم مِن أنفسِكُم أزواجاً لِتَسكُنوا إليها وجَعلَ بينكُم مَودّةً ورَحمةً إنَّ في ذلِك لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرون) (الروم/ 21).
ولأنّ البيت لا يُبنى إلّا بوجود المرأة ومودّتها ومحبّتها، فقد جعل الإسلام المرأة هي التي تُنشئ عقد الزواج، فهي طرف الإيجاب: طرف إنشاء العقد وإيقاعه، ليوضِّح بشكل متميِّز حقّ المرأة في اختيار الزوج ودورها في بناء الحياة الزوجية.
ويمثِّل الزوج طرف القبول، وصحّة العقد بينهما متوقِّفة على رضاهما وقبولهما معاً، فلا يصحّ العقد بالإكراه، كما إنّ لها وله أن يُحدِّدا من الشروط التي يراها كلّ منهما ويوافقا عليها، إلّا ما حرّم حلالاً أو حلّل حراماً.
ولا يستحكم هذا البناء ويدوم إلّا إذا قام على أُسس عادلة تُحفَظ فيها الحقوق والواجبات، يعزّ كل طرف الآخر ويراعي حرمته ويتعاون معه في سعادة هذه المملكة الصغيرة بحجمها، الكبيرة بمعانيها ومضامينها، ولذلك فإنّ الإسلام ضمنَ للمرأة حقوقها، في مقابل ما تقوم به من دور وتنهض به من مسؤوليات، قال تعالى: (ولهُنّ مثل الّذي عليهنّ بِالمَعروف) (البقرة/ 228).
ومع كلّ هذه الشرائط، راحَ الإسلام مرّة بعد مرّة يؤكِّد على ضرورة رعاية المرأة وحفظ كرامتها ومعاملتها بلطف ومحبّة ورفق، فيؤكِّد تعالى: (وعاشِروهنّ بِالمَعروف) (النساء/ 19).
وعن رسول الله (ص) قال: "أوصاني جبرئيل بالمرأة، حتّى ظننتُ أنّه لا ينبغي طلاقها إلّا من فاحشة مبيّنة".
واستمراراً لهذا النهج، فإنّ رسول الله (ص) قد جعل من نمط سلوك الإنسان في بيته ومعاملته لزوجته، وعموم أهله، معياراً لشخصية الإنسان وميزاناً لمقدار الخير الذي تحمله، ممّا يدلّ على أنّ الإنسان إنّما يُختبر في نفسه ويُمتحن في دينه ويُفاضل في شخصيته ابتداءً في طريقة تعامله مع نسائه وأهل بيته، ومدى رأفته ورحمته، ومقدار الخير الذي يوصله إليهنّ وإليهم، لذا فإنّ رسول الله (ص) يؤكِّد: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي".
ومن مظاهر الخير أن ينفق الإنسان على أهل بيته ممّا أنعم الله عليه، ويسعى في رفاههم وتحسين أحوالهم، ورحمته بهم ورعايته لهم، تديم رحمة الله به ورعايته له، لذا قال (ص): "عيال الرجل أسراؤه، فمَن أنعم الله عليه بنعمة فليوسع على أسرائه، فإن لم يفعل أوشك أن تزول النعمة".
وما أكبر جريمة الإنسان لو أنّه أهمل رعاية أُسرته وتسبّب في أذاهم، لذا فالنبيّ (ص) يقول: "ملعون ملعون مَن ضيّع مَن يعول".
لأنّ من أكبر النعم على الإنسان الزوجة، وهي تشاركه معاناة الحياة وتعاونه في نيل الأماني وتشاطره الحلو والمرّ من اللحظات، قال (ص): "ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة تسرّه إذا نظر إليها، وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه إذا غابَ عنها في نفسها وماله".
لذا كان المتوقّع من الرجل واللازم منه أن يُقابل هذا الجميل بالإحسان، والنعمة بالشكر، فقد رُوي عنه (ص) قوله: "ما أظنّ رجلاً يزداد في الإيمان خيراً إلّا ازداد حبّاً للنساء".
فالنساء مظهر للخير وللرحمة، وموطن للجمال والفتنة، والإنسان مجبول على حبِّ الجمال والميل للخير والأنس بالرحمة.
5 ـ الأُمّ المقدّسة:
(وقَضى رَبُّك ألاّ تَعبُدُوا إلاّ إيّاهُ وبالوالِدَينِ إحْساناً * إمّا يَبْلغنّ عِندك الكِبَر أحَدهُما أو كِلاهُما فلا تَقُل لَهما أُفٍّ ولا تَنهرهُما وقُل لَهُما قَولاً كَريماً) (الإسراء/ 23ـ24).
(وَوَصّيْنا الإنْسانَ بِوالِدَيهِ حَمَلْتهُ أُمُّهُ وَهناً على وَهنٍ وفِصالُهُ في عامَيْنِ أَنِ اشْكُر لي ولِوالِديك إِليَّ المصِيرُ) (لقمان/ 14).
أكّدت الديانات السماوية جميعاً على احترام الوالدين وإكرامهما والتعامل معهما برفق وإحسان ومحبّة ورأفة، وقد بيّن الرسول الكريم منهج الإسلام في ذلك بقوله: "إنّ الله بعثني بالرّحمة لا بالعقوق".
وبالتالي، فإنّ برّ الوالدين هو جزء من نهج شامل جاء به الرسول الكريم، حيث يقول: "إنّما بُعثتُ لاُتمِّم مكارمَ الأخلاق".
فليس برّ الوالدين إلّا من الوفاء وتقدير الجميل وردّ العرفان لشخصين قدّما الغالي والنفيس وتحمّلا أنواع المتاعب وصرفا أعزّ الأوقات من أجل ولدهما، فهل جزاء الإحسان إلّا الإحسان، وتلك سنّة حياتية، يخدم فيها كلّ جيل أبناءه، ويعزّ فيها كلّ نسلٍ آباءه، لذا قال الرسول الأكرم (ص): "برّوا آباءكم يبرّكم أبناؤكم".
وقد أوجب الإسلام على الإنسان المسلم نفقة والديه عند احتياجهما إضافة إلى نفقة ولده وزوجته، ولكنّ الإحسان إليهما أمر يتجاوز الإنفاق الواجب، فهو يتضمّن التعامل معهما بلطف ورأفة واحترامهما وإجلالهما وتفقّد أحوالهما ومراعاة شؤونهما، وطبيعي أنّ لذلك حدوداً وآداباً تجدها في كُتُب الفقه والأخلاق.
ولا يرتبط البرّ بالوالدين بدينهما، وأن يكونا على إيمان الإنسان أو التزامه الديني، وإنّما هو أمر مطلق، فيجب على المسلم البرّ بوالديه مسلمَين كانا أم غير مسلمَين، برّين كانا أم فاجرين.
فعن الباقر من أئمة أهل البيت، قال: "ثلاث لم يجعل الله لأحدٍ فيهنّ رخصة: أداء الأمانة إلى البرِّ والفاجر، والوفاء بالعهد للبرّ والفاجر، وبرّ الوالدين برّين كانا أو فاجرين".
وفي حديث آخر للإمام الصادق، يُبيِّن لنا فيه معنى البرّ والاحسان بالوالدين وبعضاً من آدابهما، قال الراوي: سألتُ أبا عبدالله عن قول الله عزّوجلّ: (وبِالْوالدينِ إحْساناً) ما هو الإحسان؟ فقال: "الإحسان أن تحسن صُحبتهما، وأن لا تكلِّفهما أن يسألاك شيئاً ممّا يحتاجان إليه وإن كانا مُستغنيين، أليسَ يقول الله: (لَن تنالوا البرّ حتى تُنفِقوا مِمّا تُحبّون)، وقال: (إمّا يبلغنّ عندك الكِبَر أحدهما أو كلاهما فلا تَقُل لَهُما أُفٍّ ولا تنهرهما)، قال: إن أضجراك فلا تقل لهما: أُفّ. ولا تنهرهما إن ضرباك، قال: (وقُل لَهُما قولاً كريماً)، قال: إن ضرباك فقُل: غفرَ الله لكُما، فذلك منك قول كريم، قال: (واخفض لهما جناحَ الذّلِّ مِنَ الرّحمة)، قال: لا تمل عينيك من النظر إليهما إلّا برحمة ورقّة، ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما، ولا يدك فوق أيديهما، ولا تقدم قدّامهما".
وطبيعيّ أنّ هناك حقوقاً وواجبات على الوالدين تجاه الولد، كما إنّ عليهما أن يبرّا الولد ويعيناه على برّهما ولا يدفعاه إلى عقوقهما، فقد ورد عن رسول الله (ص) قوله: "رحم الله مَن أعانَ ولده على برِّه: وهو أن يعفو عن سيِّئته ويدعو له فيما بينه وبين الله".
كما ورد عنه (ص): "حقّ الولد على والده أن يحسن اسمه، ويحسن موضعه، ويحسن أدبه".
مع كلّ هذا التأكيد على برّ الوالدين والإحسان إليهما، إلّا أنّ الإسلام ـ كسائر الأديان الإلهية ـ كان له اهتمام أخصّ بالأُم، فأعطاها مكانة سامية رفيعة، وأفاض عليها من العزّ والقدسيّة، ما جعلها رمزاً للمحبّة ومنبعاً للحبِّ ومصدراً للخير ومجمعاً للبركة وللرحمة، يكفي في ذلك كلِّه قول الرسول (ص): "الجنّة تحت أقدام الاُمّهات".
لذا قدّم البرّ بالأُم على البرّ بالأب، فعن الصادق: "جاء رجل إلى رسول الله (ص)، فقال: يا رسول الله، مَن أبِرُّ؟ قال: أمّك، قال: ثمّ مَن؟ قال: أمّك، قال: ثمّ مَن؟ قال: أمّك، قال: ثمّ مَن؟ قال: أباك".
وفي رسالة الحقوق للإمام زين العابدين، يشرح الإمام دور الأُم وتضحياتها من أجل ولدها، ثمّ يبيِّن أنّ حقّ الأُم عظيم وكبير لا يمكن للإنسان أداؤه إلّا بتوفيق من الله، فهو يقول: "أمّا حقّ أُمّك فإن تعلم أنّها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحداً، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحد أحداً، وَوَقَتْك بجميع جوارحها، ولم تُبالِ أن تجوعَ وتُطْعِمَك، وتعطشَ وتَسقيك، وتعرى وَتَكسوك، وتَضحى وتظلّك، وتهجر النوم لأجلك، وَوَقَتْك الحرّ والبرد، لتكون لها، فإنّك لا تطيق شكرها إلّا بعون الله وتوفيقه".
ونجد في رواية أخرى عن رسول الله أنّه (ص) اعتبر عمل شاب يعمل لأجل إعالة أُمّه نوعاً من أنواع العمل في سبيل الله المؤدي إلى الجنّة، وعندما سأله الرسول (ص): "يا شاب، هل لك مَن تعول؟ قال: نعم، قال: مَن؟ قال: أُمِّي، بادرهُ الرسول بالقول: الزَمها، فإنّ عند رجليها الجنّة...".
وبذلك نعلم الموقع الفريد والمكانة السامية التي تحتلّها الأُم في دنيا الإسلام، ويأتي ذلك متمِّماً لخط مستمر ومنهج متكامل على طريق إكرام المرأة وإعظامها: وليدة مباركة وبنتاً كريمة وزوجة مكرّمة... ثمّ أُمّاً مقدّسة ومعظّمة، كانت الجنّة تحت قدميها.
وبالمقارنة بين رؤية الإسلام المباركة للمرأة هذه، وبين أوضاع المرأة في الجاهلية قبل الإسلام، نعرف مدى الفارق العظيم والتغيير الكبير الذي أحدثه الإسلام في ذلك المجتمع..
كما إنّنا بالمقارنة بين نظرة الإسلام تلك وآراء الحضارات المختلفة في المرأة: الرومانية واليونانية والهندية والصينية وغيرها، نعرف أيضاً مدى الظلم الذي تعرّضت له المرأة عبرَ تاريخها الطويل، والثورة التي جاء بها الإسلام على تلك الأوضاع البالية والكئيبة..
ونعرف بذلك الأخطاء الكبيرة التي وقع بها الباحثون الذين لم يدركوا مكانة المرأة الرفيعة في دنيا الإسلام، وتوقّفوا عند مسائل جزئية لم يستوعبوا أبعادها التشريعية ليهاجموا أو ينتقدوا من خلالها الموقف الإسلامي من قضايا المرأة.
ونعرف كذلك الظلم الذي تتعرّض له المرأة في أوضاعنا الراهنة والمسافة التي تفصل واقعنا عن الإسلام العظيم، والمستوى الذي يجب أن نصل إليه ابتداءً من أنفسنا ثمّ غيرنا: (يا أيّها الّذين آمَنُوا قُوا أنْفُسَكُم وأهليكُم ناراً وَقُودُها الناسُ والحجارةُ عَليها ملائِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصونَ اللهَ ما أَمَرَهُم وَيَفْعَلونَ ما يُؤْمَرون) (التحريم/ 6).
المصدر: كتاب المرأة أزمة الهوية وتحديات المستقبل
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق