• ٨ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٣٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

إبراهيم (ع) وبدايات النبوة

سميح عاطف الزّين

إبراهيم (ع) وبدايات النبوة

نشر نوح (ع) بعد الطوفان رسالة التوحيد، فحملتها من بعده أجيال بشرية مؤمنة، إلا أنّه، مع تعاقب الأزمان، وتكاثر عدد السكان، وانتشار المجتمعات العديدة، راحت العلاقات بين الناس تتشابك، سواء بين أبناء المجتمع الواحد، أم بينهم وبين أبناء المجتمعات الأخرى، وذلك نتيجة لتكاثر الحاجات تشعب طرائق العيش، وتداخل المصالح والمآرب، مما قاد إلى صراعات عديدة ومتنوعة.
ولكنَّ الله – سبحانه وتعالى – لم يغفل عن تمرُّد الإنسان على عقيدة التوحيد، ولم يهمل انفلاته من طريق الإيمان، فكان العقاب الساحق جزاء عادلاً بإهلاك الأقوام بذنوبهم، لقوله تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) (الإسراء/ 17).
وتوالت القرون حتى كانت حدود سنة (2000) قبل الميلاد، عندما شهدت مدينة "بابل" الواقعة على نهر الفرات من أرض العراق، تكويناً حضارياً وتجمعاً بشرياً لم تعرفهما غيرها من مدن العراق قاطبة.. ولكنه، رغم تلك الحضارة، فإنّ الطابع العام للعقيدة الدينية في تلك المدينة، كان، كما هو الحال بالنسبة للناس عامة في تلك الحقبة من الزمان، وكما هو مشاهد في عصرنا الحاضر، طغيان المادة على الإنسان، حتى تحولت الأخلاق في عاداته إلى أهواء، وتبدلت المُثل في معتقداته إلى نزوات، مما جعل تلك الأُمم الغابرة تتردَّى في مهاوي الضلال، وتسبح في دياجير الظلام، لا تعرف للإيمان بالله تعالى طريقاً، ولا تعبدُ إلا الأهواء آلهةً..
وهكذا فقد كان من شأن ترك الدين الحق، دين التوحيد الذي دعا إليه الرسلُ والأنبياء، الانصراف إلى عبادة الأصنام والأوثان، أو عبادة الكواكب والنجوم، بل لقد وصل الضلال بالإنسان لأن يعبد إنساناً مثلَهُ، جعَلَ نفسه رباً على الناس من دون خالق السماوات والأرض وما بينهنّ. وهذا ما دلّت عليه الحفريات والآثار المكتشفة في العراق القديم، كما في مصر أو في غيرهما من البلدان، والتي تخبر عن أسر مقدسة، كان الناس يدينون لها بالعبادة.
وفي تلك الحقبة التاريخية ظهر في بابل من بين تلك الأسر، ملك يدعى النمرود بن كنعان. أقام حكمه على الظلم والبطش، وبسط سلطانه بالقوة والشدّة، لا يتورع عن التصرُّف برقاب رعاياه تصرُّف الراعي بقطيع الشياه، فله أن يُغني من يحب، وأن يفقر من يكره، لأنّ هواه كان المقياس لأقواله وأفعاله، ووراء هذا الهوى كمَن شيطان وسواسٌ جعل النمروذ ألعوبةً بين يديه: يأمره فيطيع، ويخنس عنه فيجزع.. قد زيَّن له أن يجعل نفسه ربّاً لقومه، كما زين لآبائه وأجداده من قبل، فأعلنَ فيهم فرضَ عبادته، والخضوع لربوبيته..
وكانت أرض بابل تفيض بالخيرات والأرزاق وأهلها ينعمون بالثروة والرخاء، وهذا ما جعل للمتع والملذات المقام الأوّل في حياتهم، فرضخوا لإرادة النمروذ، ودانوا له بالولاء، مقرَّين بربوبيته عليهم، كإقرارهم بعبادة الأصنام والأوثان، أو تقديسهم للكواكب والنجوم...
وبفعل تلك الوثنية الباطلة، وطَّد النمرود حكمه على ضلال القوم وجهالتهم، فقام الليالي هانىء البال، ناعم الحال..
ولكن إلى متى يدوم هذا الكفر والبهتان، وربُّ العرش العظيم يتصرّف بالكون كله بلا نِدٍّ ولا شريك؟ ويسيِّر خلائقه كما يشاءُ ويريدُ؟!
ونام في إحدى لياليه مطمئناً إلى غده، ولكنّه رأى في المنام أنّ كوكباً يطلع في السماء، فيحبس عن بابل ضوء القمر، ويحجب عنها نور الشمس.. فأزعجته تلك الرؤيا، وهبَّ من نومه مذعوراً، ودعا إليه كُهّانه وعرافيه ليفسروا له حقيقة ما رأى!...
وذُهِلَ النمرود وهو يسمع تأويلهم لرؤياه، إذ أجمعت الآراء على أن أحد المواليد في مملكته سوف ينكر عبادات قومه، ويكون عدواً لدياناتهم، لأنه يؤمن بإلهٍ واحدٍ يجهلون حقيقة وجوده، ويدين له وحدَه بالأللوهية والربوبية، وسوف يدعو هذا المولود إلى دينٍ جديدٍ لن يرتضوه لهم أبداً..
وجُنَّ جنون النمرود لهذا التأويل، إذ كيف يولَد تحت سلطانه من يُنكر عليه ربوبيته، ويرفض الخضوع لطاعته؟!.. إنّه لأمرٌ فظيع حقّاً، ولا يمكن للنمرود أن يطيق حدوثه.. ولذلك بثَّ في البلاد جنوده، ونشر في أنحاء المملكة دعاتَه، يعلنون في القوم وينذروهم بأن يعتزلَ الرجالُ نساءَهم، وأن تُحبس الحبالى في البيوت حتى يلدن، وشَدَّد الأوامر بأن يؤخذ كل غلام ذكر تضعه أُمّه ويقتل، ومَن أخفتْ مولودها تُعذِّب عذاباً أليماً ثمّ تقتل معه...
وخافت تلك النساء من الوعيد والتهديد، وراحت كل واحدة تنتظر المصير المشؤوم لطفلها البريء، إلا امرأة من بين جميع الحوامل، قذف الله – سبحانه – في قلبها العزم، فلم ترهب ضغط النمرود، ولا خافت بطشه، ولذا عقدت العزم على أن تخفي بطنها عن العيون، وأن تحجب حملَها عن الجواسيس، حتى يتهيَّأ لها المخرجُ من المصيبة التي حلّت على بابل.
وراحت تلك المرأة تفتش عن مأوى تلجأ إليه حين الوضع، فكانت تخرج متخفية عن العيون، متنكرة في عباءة رجلٍ، حتى اهتدت في البرية إلى غارٍ في مكان بعيد مهجور، لا يمرُّ به أحد، فقالت: هوذا المخبأ الأمين.. ثمّ حان موعد مخاضها، فانسلَّت على جناح الظلام وحيدة، فريدة، بلا مؤازر ولا مواكب، حتى وصلت إلى غارها، فدلفت إليه على عجل، وقبعت في داخله تقاسي مشقة الألم، إلى أن أعانها الله الرؤوف الرحيم على وضع مولودها، فإذا هو غلام جميل، مكتمل التكوين، بهيّ الطلعة، سُرَّت به أُمّه سروراً عظيماً، فأدنته من قلبها، وتقوقعت على نفسها تُصابر وتُجالد، بلا أنينٍ وتأوُّهٍ، لئلا تحمل الريح صدى أناتها، فتذهب جهودها هباءً منثوراً..
وكانت هذه الأُم تخاف على وليدها من عنت القوم وجهالتهم، فإذا فطرتها السليمة تنبىء عن مكنون نفسها فتدعو لطفلها أن يبرأ من أولئك القوم وما هو عليه، فكان دعاؤها له: "إبرأ منهم" ولذلك دعته: "إبراهيم".
قضت أم إبراهيم في غارها بضعة أيام، تحنو على وليدها بالرضاعة والدفء إلى أن نفذ الزاد والشراب معها، فاضطرت للعودة إلى البيت، متسللة، متخفية، كما خرجت منه.
واستقبلها زوجها آزر عمّا فعلت، فأخبرته بأنّها وضعت غلاماً ذكراً، وأنّها أسمته إبراهيم، وقد تركته في الغار ليبقى بعيداً عن الأسماع والأبصار..
كانت أم إبراهيم امرأة ثاقبة الفكر، قوية التدبير، شديدة الحنكة. ويشاء السميعُ الحكيمُ أن يودع في نفسها من القدرات ما يجعلها متيقظة، تحسب كل خطوة تخطوها. فكانت تراقب عيونَ النمرود المبثوثة في كل مكان، فإذا ما تسنَّى لها مغافلتها طارت إلى طفلها على أجنحة اللهفة والشوق، لتقضي معه بعض الوقت، ثمّ تعود إلى بيتها من غير أن يدري بها أحد.
وظلت أم إبراهيم على هذه الحال عدة سنين، كان الطفل ينمو خلالها ويتدرج، وهو لا يدرك من أمره شيئاً، بعد أن اعتاد على الوحدة في ذلك المكان المقفر، حيث لم يرَ إلا تلك الأُم التي كانت تأتيه الحين بعد الحين، لتقيم معه فترة، ثمّ تمضي إلى سبيلها بعد أن تسُدَّ عليه بابَ الغار، كما تفعل دائماً.
وتنقضي السنون حتى يبلغ إبراهيم سنّ الفتوة والوعي، فيُسائل أُمّةُ عن سبب وحدته، وبقائه بعيداً عن الناس. وتكون تلك الأُم على مستوى المسؤولية، فتخبره بالحقيقة كاملة، ولا تخفي عنه – بحنان الأُم الرؤوم، وتضحية الوالدة المعذبة – ضرورة بقائه نائياً في غربته، رغم قساوتها، لأنّ الخطر ما زال قائماً، والمجازفة بظهوره قد لا تكون محمودة العواقب.
كانت تحدثه بوضوح، وتشرح له كل مبرراتها، ولكنّ ذلك لم يخفف من حرقتها وهي ترى الضيق يكاد يقتل ابنها، والوحشة تكاد تقهره، فلا تجد إلا العبرات متنفَّساً لآلامها.. ولم يكن الفتى إبراهيم أقلَّ إحساساً بالمسؤولية من أُمّه، فإذا ما رآها والحزن قد كبَّلها، أو الأسى قد طغى عليها، لا يتوانى أبداً عن مواساتها، وتهدئة خاطرها، وذلك بعد أن يُعلن لها قبوله البقاءَ في وحدته بلا أنيسٍ أو رفيق..
وكان هذا المشهد يتكرَّرُ كلما جاءت الأُم تلتقي ابنَها.. لحظات من الفرح تغمرهما، ثمّ تتبدَّد تحت وطأة الحزن والافتراق، ولكنهما لم يفترقا أبداً على شقاقٍ وتباينٍ وخلاف، بل كانا ينفصلان دائماً على تفاهم ومحبة ووفاق.
وظلت هذه حالهما زهاءَ خمس عشرة سنة... ولكنّ هذه السنوات لم تنقض بلا أدنى فائدة. بل بالعكس كانت الوحدة حافزاً لإبراهيم على أن يتأمل ويتفكّر طويلاً، وهو يخرج من الغار، ويسرح في البراري والقفار، متلمساً الحجارة والتراب، ومتفحصاً الأشجار والنبات، مدركاً ما في هذه من حياة، وما في تلك من سكون وجمود.. ولم يفت عينيه مرأى الحيوانات والحشرات وهي تدب بحركة دائمة، وفي اندفاعها في الفلاة هائمة، سائبة، لا تلوي على شيء، سوى ما تدفعها إليه غرائزها من تأمين المأكل والمشرب والنزو للتناسل فيما بين فصائلها المتنوعة...
ولم تكن تلك المخلوقات من حوله هي وحدها التي تشغل تفكيره، بل نفذ من خلال تأملاته إلى مشاهدة ما في الكون من نور النهار، وضياء الليل، وإلى ما يجري في الطبيعة من تقلبات في الرياح والأمطار، والبرودة والجفاف، إلى غيرها مما تحفل به الأرض أو يظهر في السماء...
وجاءت أُم إبراهيم يوماً، تحمل معها كعادتها زاداً له، فأبى أن يمدّ يده إليه.
وسألته هذه الأُم عن سبب امتناعه، فأجابها برفق، بأنّه لم يعد يحتمل البقاءَ حبيساً في البراري، معزولاً عن الناس في وحدة موحشة..
وترتسم في ذهن أُمّه رعونة النمرود وجنده، فتقول له: ولكنك تعلم أنك غير آمن إن ذهبت!.. وهنا يقرر إبراهيم (ع) عدم الرضوخ لتهديد الطاغية ووعيده، فيقول لها:
لن أمكث بعد اليوم، ها هنا أبداً، حتى ولو كان في ذهابي تعرُّضي لأشد الأخطار..
وتذكره أُمّه، من جديد بظلم النمرود، وخوفها من معرفته بأنّ إبراهيم من مواليد رؤيته، محاولةً أن تستبقيه مدة أطول في مكانه، فربّما وجدت هي وأبوه سبيلاً إلى نجاته، إلا أنّ إبراهيم، وهو يحسُّ امتلاء نفسه بالعزم، يقول لأُمّه:
وأي ملك هذا الذي تخشاه بابل يا أماه؟ تقولين: إنّه متكبر، ظالم، يبطش ولا يرحم. والحقيقة إنّه رجل ضعيف على خلاف ما يتوهَّم قومه، فلو لم يكن كذلك من الضعف لما خاف من مواليد أبرياء، فأمر بتقتيلهم وهم لا حول لهم ولا طول..
وتقول له أُمّه: بل النمرود إلهٌ في بابل يا بني، وله على قومه حق الحياة والموت!...
ويجيب إبراهيم، بصدق وقناعة: لا، يا أماه!.. إنّ النمرود بشر مثلنا، ومثل كل الناس، ولا يمكن أن يكون الإنسان بشراً وإلهاً في آن معاً.. إنّه بهتانٌ وتجديف على الحقيقة. وهذه الحقيقة تبقى هي ذاتها ولا يمكن أن تتبدَّل أو تتغيَّر، فشتانَ بين إلهٍ خالقٍ، وبشر مخلوق. ومن يقول بغير ذلك فقد خرج عن الحقيقة، وعمل ضد الحق...
وهكذا، وبعد نقاشٍ طويل بين إبراهيم (ع) وأُمّه، أقنعها بالذهاب معها، فقال لها: والآن، هيا بنا يا أماه، فقد تاقت نفسي لرؤية الناس ومعرفتهم.

المصدر: قصص الانبياء في القرآن الكريم (مجمع البيان الحديث)

ارسال التعليق

Top