جاء في المصادر أنّ النمرود طاغية عتا في الأرض، حيث كان حكمه في بلاد ما بين النهرين في عهد إبراهيم (ع)، وهو النمرود بن كوش بن كنعان، ولقد اتخذت الشعوب اسمه مضرب مثل عند الحديث عن المتمرد والمعاند، والمناصر للباطل المخاصم للحقِّ وأهله، وبات يُقال عن شخص هذا سَمْته: يتصرف مثل النمرود، ونحت العوام عند العرب كلمة: نمردة – يتنمرد. وهناك تصنيع لخرطوش الصيد اسم الخرطوشة فيها النمرود، وذلك للتدليل على قوتها.
النص القرآني: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ).
(قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ).
(قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ).
(قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة/ 258).
قال القرطبي في تفسير هذه الآية: "وفي قصص هذه المحاجة روايتان: إحداهما أنهم خرجوا إلى عيدٍ لهم، فدخل إبراهيم على أصنامهم فكسرها، فلما رجعوا قال لهم: أتعبدون ما تنحتون؟ فقالوا: لمَنْ تعبد؟ قال: أعبد ربِّي الذي يحيي ويميت.
وقال بعضهم: إنّ نمرود كان يحتكر الطعام، فكانوا إذا احتاجوا إلى الطعام يشترونه منه، فإذا دخلوا عليه سجدوا له، فدخل إبراهيم فلم يسجد له، فقال: ما لك لم تسجد؟ قال: أنا لا أسجد إلا لربّي، فقال له نمرود: من ربُّك؟ قال إبراهيم: ربّي الذي يحيي ويميت.
وذكر زيد بن أسلم أنّ النمرود هذا قعد يأمر للناس بالميرة (الطعام)، فكلما جاء قوم قال: من ربُّكم وإلهكم؟ فيقولون: أنت، فيقول: ميروهم، وجاء إبراهيم (ع) يمتار، فقال: من ربُّك وإلهك؟ قال إبراهيم: ربّي الذي يحيي ويميت"[1].
لكن نمرود واصل تكبُّره وادِّعاءه، وما أن سمع إبراهيم يحاججه بقدرة الله تعالى الذي يصوِّر الناس في الأرحام ويمنحهم الحياة، وهو سبحانه الذي يقدِّر بينهم الموت، حتى أجاب بكلِّ صلف: أنا أحيي وأميت؛ وما يعنيه هو الظاهر للعيان بأنّه يهب الطعام لمن وافقه الموقف ويمنعه عن غيره كي يموت جوعاً، وأنّه يمتلك القوة والسلطة لقتل من شاء أن يقتله.
هذه مسألة ستكون محل حوار عقيم، لذلك ذهب إبراهيم (ع) إلى رد قوي، ولا يستطيع نمرود أن يخوض فيه. القوم في بلاد ما بين النهرين يعتنون بعلم الفلك، ورد إبراهيم كان من فضاء علومهم، حيث واجه النمرود بالحجة البالغة فقال له: إنّ الله تعالى قد جعل سنَّةً لحركة الكواكب منها أنّ الأرض تدور حول الشمس وبذلك تظهر الشمس على بقاع الأرض من المشرق، وتغيب وتأفل من جهة المغرب، والسؤال لنمرود: هل تستطيع تغيير هذه السُّنّة الكونية كي نقبل زعمك الألوهية.
الشمس بادية للعيان، وحركتها يعرفها الناس جميعاً، ولا يستطيع النمرود أن يموِّه عليهم في قضية كهذه، وما كان أمامه إلا أن يسكت، ويتوقف عن الكلام، وهو في حالة من الصدمة العقلية القوية التي لم يقوَ معها على قول شيء.
إنّ الآية الكريمة خطاب إلهي يحوي الحجة والبيان للرد على أهل الشِّرك والكفر المعاندين فيهما، والسياق القرآني يمكن فهمه في الاتجاه التالي: "ألم تر إلى من عمي عن أدلة الإيمان، وجادل إبراهيم خليل الله في ألوهية ربِّه ووحدانيته، وكيف أخرجه غروره بملكه الذي وهبه ربه من نور الفطرة إلى ظلام الكفر، فعندما قال له إبراهيم: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)، بنفخ الروح في الجسم وإخراجها منه، قال: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) بالعفو والقتل، فقال إبراهيم ليقطع مجادلته: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ) إن كنت إلهاً كما تدَّعي، فتحيَّر وانقطع جدله من قوة الحجَّة التي كشفت عجزه وغروره، والله لا يوفق المصرِّين المعاندين إلى اتباع الحقّ"[2].
عرف سكان بلاد ما بين النهرين قديماً، كما الحال في بلاد أخرى، فكرة هي: الحاكم المتأله، أو الملك الإله، ونمرود كان مستفيداً من هذا المفهوم السائد.
القصة هي قصة شخص معاند كافر هو النمرود، وأنّه أراد مجادلة إبراهيم (ع)، ووصل به عناده وجهله بأن يفترض أنّ عفوه عن شخص، أو تقديمه العون لشخص إنما هو إحياء له، وفي هذه يظهر منتهى الجهل، ولذلك لم يكن من خيار سوى مواجهته بحجة وبيان لا يستطيع الرَّد عليهما. الشمس بادية للعيان، ومن خلال حركة الأرض تظهر الشمس صباح كلّ يوم من الشرق، وبعد مضي النهار، وعندما يحين موعد بدء الليل تغيب الشمس عن نظر المراقبين في كلِّ موقع من الأرض من الغرب، ولكلِّ موقع مشرق ومغرب، والتحدي لهذا المعاند كان بمطالبته إن كان بوسعه تغيير هذه السُّنّة الكونية، وهنا بدا عجز هذا الكافر، فتحيّر وصمت مبدياً عجزه، وغلبته الحجّة البالغة.
هذه المناظرة بين إبراهيم والنمرود أمام جمع من الناس حققت مقصدها الدعوي حيث ظهر الحقّ حين كانت النتيجة بعد المناظرة: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ). وإنّ مناظرة إبراهيم (ع) كانت ضمن منهج الحوار الهادف إلى الإقناع بعقيدة التوحيد لذلك تدرَّج معه في الحجّة، ولما لمس عناده وإصراره اضطر أن يعطيه حجّة بالغة أحدثت صدمة فكرية له رافقتها حالة حيرة وقلق، وهذا خير الأساليب لاستنفار الفطرة السليمة في الإنسان لتتجه به إلى طريق الحقِّ.
لقد علَّق على هذا العلامة الراحل السيد محمّد حسين فضل الله قائلاً: "نلاحظ في أساليب الرسالة التحرك الهادئ الوديع الذي يفتح قلوب المشركين على كلمة التوحيد فكراً وعملاً، ويفرّغ أفكارهم تدريجياً من كلِّ معاني الشِّرك ودوافعه في خطة مدروسة حكيمة، تضع لكلِّ موقف فكراً وتأملاً، يراجع فيه موقفه ويحاكم – من خلاله – عقيدته، وقد تمسُّ الحاجة إلى الطريقة التي تجعله يواجه موقف السُّخرية من عقيدته، عندما تنكشف له جوانب الضعف التي تحيط بها من كلِّ جهة... إنّه لا يهدف من صراعه أن يسجِّل على خصومه موقفاً للغلبة في ميدان السباق، بل كلّ هدفه أن يجعلهم يتحركون معه في الخط الذي يسير عليه ليتحدَ الموقف والمصير من خلال القناعة الذاتية المرتبطة بالبرهان الواضح والحجة القويمة"[3].
وقد أورد القرطبي، بلسان بعض من علَّقوا على الموضوع، ما يفيد الخلاصة نفسها بشأن المناظرة مع المشركين والكفار: "قال المزني صاحب الشافعي: ومن حقِّ المناظرة أن يراد بها الله عزّ وجلّ، وأن يقبل منها تُبيِّن. وقالوا: لا تصحُّ المناظرة ويظهر الحقُّ بين المتناظرين حتى يكونا متقاربين أو متساويين في مرتبة واحدة من الدين، والعقل، والفهم، والإنصاف، وإلا فهو مراء ومكابرة"[4].
إذاً، المؤمن يحاجج ويناظر داعياً إلى الله وإلى سبيل الحقِّ، وأسلوبه يقوم على اللِّين وتزيين الخطاب، وقوة الحجة لاستمالة المدعوين، ولا يصح أن يكون فعله لغاية المباهاة وكسب الشهرة.
هذه المناظرة مع النمرود بيَّنت اللطائف التالية:
أ) إنّ حامل الرسالة، ومن يكون في موقع القيادة الدعوية والفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية وسوى ذلك، لا يجوز له أن يهادن معتدياً، أو أن يهادن مفسداً، أو أن يساير صاحب سلطة تحقيقاً لمصلحة خاصة. النموذج القدوة إبراهيم (ع) الذي قاوم مزاعم النمرود، وثار على عقيدته الفاسدة مع علمه بإجرامه وعدوانيته.
ب) لا يجوز لأي شخص من قادة الرأي في المجتمع أن يتصرف على أنّه إمَّعة؛ أي: إذا قام القوم قال، كما حذَّر مَن لا ينطق عن الهوى محمّد (ص)، بل يلتزم الموقف السليم، ولا يواكب الخطأ حتى لو سار فيه كلُّ قومه. وهذا هو إبراهيم (ع) يرفض السجود للنمرود رغم أنّ القوم جميعاً قد سبقوه إلى ذلك.
ت) يتعلّم القارئ لهذا الحوار القرآني أمرين مهمين في المناظرة هما:
1- أن يتدرج في استخدام الحجج والبراهين، وأن يعمل على استخدام المادة التي تنتشر في علوم القوم كي يواكب الحوار.
2- أن يناظر المعاند المتقدم في قومه بحضورهم كي يكون إفحامه من خلال الحجة سبيلاً لكسر هيمنته عليهم، فذلك يحررهم ويأتي بهم إلى سبيل الرشاد.
الهوامش:
[1]- القرطبي، أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن أبي بكر، الجامع لأحكام القرآن، ج4، تحقيق د. عبدالله بن عبدالمحسن التركي وآخرين، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط1، سنة 1427هـ/ 2006م، ص288.
[2]- المنتخب في تفسير القرآن، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، ط18، سنة 1416هـ/ 1995م، ص62.
[3]- فضل الله، السيد محمّد حسين، م. س، ص71.
[4]- القرطبي، أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن أبي بكر، م. س، ج4، ص291، 292.
المصدر: كتاب الحوار في الإسلام (آدابه وقواعده)
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق