• ١٦ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٤ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

حتمية تحديث التقاليد والتغيير

جين كير كبارتريك

حتمية تحديث التقاليد والتغيير

قرأت عمل صامويل هانتنغتون باهتمام بالغ وآمال كبيرة. وكنت مثل معظم علماء السياسة قد تعلمت الكثير من كتاباته. وها هو يثير مرة أخرى في مقاله "صدام الحضارات" أسئلة جديدة.
يؤكد هانتنغتون في مقاله أن الحضارات حقيقية ومهمة، ويتنبأ بأن "النزاع بين الحضارات سيحلُ محلّ أشكالٍ النزاع الإيديولوجية وغيرها باعتباره الشكل العالمي المهيمن من المنازعات. ثم يحاجُّ بأن المؤسسات العاملة من أجل التعاون من المرجّح بدرجة أكبر أن تتطور داخل الحضارات. وأن المنازعات ستثور عادة بين مجموعات في حضارات مختلفة.
إن تصنيف هانتنغتون للحضارات المعاصرة مثير للتساؤل. فهو يحدد "سبع أو ثماني حضارات أساسية" في العالم المعاصر: الغربية (التي تضم الشكلين الأوروبي والأميركي الشمالي) والكونفوشيوسية واليابانية والإسلامية والهندوسية والسلافية الأرثوذوكسية والأميركية اللاتينية و"ربما الإفريقية".
فإذا كانت الحضارة تُحدد بعناصر موضوعية مشتركة مثل اللغة والعادات والمؤسسات، وتُحّدد بصورة ذاتية بالتطابق والتماثل، وإذا كانت الجماعية في أوسع صورها هي التي يتوحّد معها الأشخاص بصورة كثيفة، فلماذا التمييز بين "الحضارة الأميركية اللاتينية" والحضارة "الغربية"؟ فأميركا اللاتينية، مثلها مثل أميركا الشمالية، قارة استوطنها الأوروبيون الذين جاءوا معهم باللغات الأوروبية وبالصيغة الأوروبية للديانة اليهودية _ المسيحية وللقانون والآداب ودور الجنسين. والمُكّونُ الهندي في الثقافة الأميركية اللاتينية أكثر أهمية في بعض البلدان (المكسيك وغواتيمالا والإكوادور والبيرو) منه في أميركا الشمالية. لكن التأثير الإفريقي أكثر أهمية في الولايات المتحدة منه في البلدان الأميركية اللاتينية كافة عدا قلة منها (البرازيل وبليز وكوبا). إن أميركا الشمالية والجنوبية أوروبيتان "غربيتان" مع مزيج من عناصر أخرى.
وما الذي يمكن أن تكون عليه روسيا إن لم تكن "غربية"؟ إن التسمية التي سادت في الحرب الباردة في شأن "الشرق/ الغرب" كان لها معنى في سياق الحرب الباردة، لكن في السياق العام والشامل، فإن الشعب السلافي/ الأرثوذوكسي هو شعب أوروبي يتبنّى الثقافة الغربية. وما اللاهوت الأرثوذوكسي والطقوس الدينية الأرثوذوكسية واللينينية وتولستوي إلاّ مجرد تعبيرات عن الثقافة الغربية.
وليس من الواضح أيضاً أن الخلافات بين الحضارات أدت على مر القرون إلى أطول المنازعات وأكثرها عنفاً. ففي القرن العشرين على الأقل، وقعت أشد المنازعات عنفاً داخل الحضارات: حملات التطهير التي قام بها ستالين، وعمليات الإبادة التي قام بها بول بوت، والهولوكست النازي، والحرب العالمية الثانية. ويمكن القول إن الحرب بين الولايات المتحدة واليابان تضمّنت صداماً بين الحضارات، لكن تلك الخلافات كان لها دور ضئيل في تلك الحرب. وقد تضمّن فريقا الحلفاء والمحور اعضاء آسيويين وأوروبيين على حد سواء.

وفي البوسنة، فإن محاولات رادوفان كارادزيتش وغيره من المتطرفين الصرب بتصوير أنفسهم بأنهم حصن منيع ضد الإسلام، ليست أكثر إقناعاً، على الرغم من أن سلبية الجماعة الأوروبية والولايات المتحدة وحلف الأطلسي والأمم المتحدة في مواجهة العدوان الصربي الوحشي على البوسنة، قد استثارت في نهاية المطاف قدراً ملموساً من التضامن الإسلامي. لكن معظم حكومات الدول التي يسودها المسلمون عزف عن معالجة النزاع البوسني باعتباره حرباً دينية. وقاومت حكومة البوسنة نفسها إغراء تقديم مشكلتها باعتبارها مشكلة عالم الإسلام ضد عالم اليهودية _ المسيحية. وإن حقيقة أن القوات الصربية بدأت هجومها على كرواتيا وسلوفينيا توضح دوافع الصرب وأهدافهم، وهي التعاظم الإقليمي، وليس الحرب المقدسة.
ولا شك في أن هناك خلافات اجتماعية وثقافية وسياسية مهمة قائمة بين الحضارتين الإسلامية واليهودية _ المسيحية. لكن أهم الخلافات التي تطول المسلمين وأكثرها تفجُّراً موجودة داخل العالم الإسلامي _في ما بين الأشخاص والأحزاب والحكومات المتسمين على نحو معقول بالاعتدال وعدم التطلع إلى التوسع وعدم العنف من جانب، والمعادين للحداثة وللغرب والمتعصبين إلى أقصى حد والداعين إلى التوسع والعنف من جانب آخر _ والهدف الأول للأصوليين الإسلاميين لا يتمثل في حضارة أخرى، بل في حكوماتهم.
وفي أماكن أخرى أيضاً، هناك صدام بين نزعة التعصب والنزعة الدستورية، بين الطموح الشمولي وحكم القانون، داخل الحضارات، بصورة أوضح وأكثر نقاء منها في ما بينها. ففي آسيا، قد يتضح أن أكثر الصدامات حدّة بين الصور المختلفة لكون الناس صينيين أو هنوداً.
ولا شك في أن الحضارات مهمة. وإذ تُقَوّضُ الحداثة قوة الثقافات المحلية والوطنية، فإنها تعزز أهمية تطابق الوحدات الأكبر، مثل الحضارات. كما أنه لي من شك في أن هانتنغتون كان على حق عندما أكد أن الاتصالات العالمية والهجرة المتصاعدة تفاقم الصدام بجعل القيم وأساليب الحياة المتعارضة على طول الخط في اتصال مباشر بعضها ببعض. فالهجرة تأتي بممارسات دخيلة وغريبة إلى المدارس والأحياء والمؤسسات الأخرى للحياة اليومية، وتتحدّى الطابع الكوزموبوليتي للمجتمعات الغربية. إن التسامح الديني في شكل مجرد شيء، ووجود فتيات محجبات في الفصول الدراسية الفرنسية شيء آخر. ومثل هذه التحديات لا تلقى ترحيبا في أي مكان. لكن هانتنغتون الذي أسهم كثيراً جداً في تشكيل فهمنا للحداثة والتغيير السياسي، يعرف أيضاً الطرق التي تغير الحداثة بها الناس والمجتمعات والسياسات. وهو يعرف الطرق العديدة التي تصبح بها الحداثة مُرادفاً للتغريب _بمفهومه الواسع _ وأنها قد تُسفر عن حركة ارتجاعية وعداء مرير. لكنه يعرف أيضاً مدى قوة زخم الطرق الغربية الحديثة في العلم والتكنولوجيا والديمقراطية والأسواق الحرة. وهو يعرف أن السؤال الأكثر أهمية بالنسبة إلى المجتمعات غير الغربية هو ما إذا كانت تستطيع أن تكون حديثة من دون أن تكون غربية. وهو يؤمن بأن اليابان نجحت ربما.
وربما كان على صواب في القول إن معظم المجتمعات ستسعى للاستفادة من التحديث ومن العلاقات التقليدية في الوقت نفسه. وبقدر نجاحها ونجاحنا في الحفاظ على تقاليدنا مع قبول التغييرات المتواصلة الناجمة عن التحديث، فإن اختلافنا بعضنا عن بعض سيستمر، وستزداد حِدّة الحاجة لا إلى مجرد مجتمع تعددي، بل إلى عالم تعددي.


المصدر: الغرب وبقية العالم بين صدام الحضارات وحوارها

ارسال التعليق

Top