ينبغي العلم بأنّ هناك في الأديان التوحيدية الثلاثة تطبيقات إنسانية قليلاً أو كثيراً، أي تطبيقات منفتحة على أشكال لا يستهان بها من التسامح. وهناك تطبيقات معاكسة، أي متعصبة، عنيفة، على طريقة محاكم التفتيش للأنظمة الفقهية – اللاهوتية المحدّدة من قبل كل تراث من التراثات الدينية الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلامية. فتارة يكون التراث الديني منفتحاً ومتسامحاً نسبياً وتارة يصبح منغلقاً ومتشدداً تجاه الآخرين. إذا ما نظرنا إلى الأمور من هذه الزاوية وجدنا انّ الإسلام ليس الأقل تسامحاً من بين الأديان الثلاثة على عكس ما يظن ويشاع. إنّي إذ أقول هذا الكلام لا أريد أن أسقط في نوع من التواطؤ مع الذات وإعفاء الإسلام من ممارسات وتصورات متعصبة كانت سائدة في تلك المرحلة القديمة من التاريخ. ولكن ينبغي الاعتراف بأنّه يوجد في الأخلاق الإسلامية هاجس التخفيف من عذاب العبيد ومصيرهم. كما ويوجد نوع من الاحترام للكرامة الدينية لأهل الكتاب فيما وراء التشريعات القانونية التي في الوقت الذي تعطيهم حرِّية العبادة تؤكد على دونيّتهم الاجتماعية والسياسية، وذلك لأنّهم يشكلون المنافسين الفعليين لـ"الدين الحق" منذ لحظة القرآن نفسها. فالمنافس للإسلام ليس البوذية ولا الهندوسية، وإنما اليهودية والمسيحية اللّتان كانتا موجودتين في المنطقة أثناء ظهور الدين الجديد واللّتان تنتميان إلى دين التوحيد مثله. ينبغي ألا ننسى بهذا الصدد أبداً انّ اليهود والمسيحيين حتى بعد أن خفضت مكانتهم في ديار الإسلام إلى وضعية الذمِّي المهينة لم يتوقفوا قط على الاعتقاد بأنّهم يشكلون الطائفة المثالية الوحيدة الموعودة بالنجاة في الدار الآخرة، أي بالجنة. كانوا دائماً يعتقدون حتى وهم في حالة الذل والهوان انهم يمثلون الفرقة الناجية المرضية عند الله ولم يعترفوا بالإسلام الذي جاء بعدهم. من المعلوم انّ الأديان التوحيدية الثلاثة تحاكي بعضها البعض أو قُلْ تنافس بعضها البعض على مفهوم الدين الحق والفرقة الناجية. فكل دين يزعم انّه يمتلك الوحي الصحيح الوحيد وانّ الدينين الآخرين على ضلال، وبالتالي فهناك منافسة محاكاتية على وديعة الوحي. وضمن هذا السياق من المنافسة المحاكاتية الهادفة إلى تجسيد "الدين الحق" وعيشه والدفاع عنه ينبغي أن نقرأ كل علاقات الهيمنة أو أحياناً التعايش السلمي بين العائلات الروحية التوحيدية الثلاث، وذلك لأنّه كانت تحصل بينهم أحياناً فترات سلمية وتعايش محترم. امّا فكرة التسامح بالمعنى الحديث للكلمة فلم تكن موجودة آنذاك. كانت لا تزال تنبثق ببطء شديد وصعوبة كبيرة وبشكل مؤقت وهش ومهدد دائماً وذلك عبر تجاوزات محاكم التفتيش أو الاضطهاد أو حروب الأديان كما يقال في أوروبا الحديثة الوليدة.
وما قلناه عن التسامح ينطبق على مجمل حقوق الإنسان والمواطن. والبعض يفضل أن يقول الآن الحقوق الإنسانية لكي يشمل بها الإنسان والمرأة والطفل والمستعمَرين السابقين والمهاجرين المطرودين من على الحدود الأوروبية. وهنا نلاحظ تحقق منجزات جديدة في مجال القانون. إنما لم تساهم الأديان التي نتحدث عنها هنا في هذا التقدم بطريقة متساوية. فمن الواضح انّ المسيحية الأوروبية تساهم بشكل أكبر من سواها نظراً لاستنارتها وتفاعلها مع الحداثة. لا ريب في انّه توجد في حلقات الوحي الثلاث المتتابعة والمدونة في الكتابات المقدسة بذور أولى وجذور قوية ومفاهيم واعدة من أجل انبثاق مفهوم الشخص البشري بصفته ذاته قانونية ووكيلاً مسؤولاً عن تأدية الفرائض والواجبات تجاه الله وتجاه أشباهه في المجتمع. بالطبع فإنّ كلمة "الشبيه" هنا لا تطابق المفهوم الحديث للمواطن الذي يفرض نفسه بغض النظر عن العقائد الدينية والمواقف الفلسفية والسياسية لكل فردِ من الأفراد. كنا قد برهنا على انّ الشخص المفترض من قبل الوحي هو المؤمن الذي ينتسب طوعاً إلى جملة من العقائد والذي يجسِّد ذلك عن طريق الالتزام الصارم بتأدية الفرائض الدينية. إنّه يؤديها كواجبات تجاه الله الذي يصف نفسه بصفات وكلمات ومفاهيم وغايات تختلف من دين إلى آخر. وبالتالي فإنّ حقوق "الشبيه" المحددة على هذا النحو سوف تهضم كواجبات بشكل أفضل إذا تقيَّد كل مؤمن باحترام حقوق الله الذي يتكلم مباشرة في كل نسخة من نسخ الوحي الثلاث: التوراة، الانجيل، القرآن. ولعل الثنائية المشكَّلة من حقوق وواجبات تكسب من الفعالية والكثافة والمحتوى الروحي ما تخسره سوسيولوجياً من حيث الانتشار. بمعنى آخر، فإنّ التعصب للجماعة أو الأُمّة أو الطائفة يصبح قوياً جدّاً إلى حد انّه يدفع المؤمن بدينه إلى كره كل من لا يؤمن بهذا الدين بل ومحاربته أو إخضاعه وتنزيله إلى مرتبة دنيا. هذا ما فعله المسلمون في البلدان التي فتحوها وهذا ما فعله المسيحيون أيضاً.
إنّ سورة التوبة في القرآن تُبيِّن بكل جلاء ووضوح الاطار اللاهوتي والسياسي – الاجتماعي لتطبيق الثنائية حقوق/ واجبات التي تسود أو تُمارس بين الناس في المجتمع. والناس هنا ينقسمون إلى عدة فئات: فهناك أوّلاً المؤمنون فيما بينهم، وهناك ثانياً المؤمنون الأحرار والمؤمنون العبيد، وهناك ثالثاً المؤمنون وأهل الكتاب. ولكن هذه الحقوق والواجبات لا تأخذ كل قيمتها وأبعادها إلا إذا كان هناك أوّلاً احترام لحقوق الله، فهي الأساس وهي العمود الفقري لكل الدين. أقول ذلك وأنا ألح هنا على غموض هذا المصطلح وبخاصة منذ ان كانت جمعيات وحركات من أمثال أخوية أبراهام (أو إبراهيم) في فرنسا قد نشرت الفكرة التصالحية المسكونية بأنّنا جميعاً لنا إله واحد ونفس الله.
من الناحية الزمنية نلاحظ انّ سورة التوبة في المصحف هي إحدى آخر سورتين في القرآن. فبعدها عاد محمد إلى مكة ظافراً بصفته نبياً محاطاً بأتباعه الأكثر عدداً وأهمية من أولئك الذين رافقوه عندما ذهب إلى يثرب لأوّل مرّة. ومعلوم انّ يثرب أصبحت بعد انتصاره تدعى المدينة، أي مدينة النبي، وهي أوّل مدينة إسلامية في التاريخ. ونلاحظ انّ سورة التوبة تحدد الوظائف والمكانات الجديدة لمختلف الفئات الاجتماعية التي يظلّ المشركون فيها هم الأكثر عدداً وخطراً على الدين الجديد ونبيه وأتباعه. ففي البداية كان المسلمون لا يزالون أقلية. ونلاحظ أنّ الآية الخامسة من سورة التوبة تضع العرب المشركين أو الوثنيين أمام خيار صعب: فإما أن ينضموا إلى الأُمّة الجديدة للمؤمنين، وإما أن تتم تصفيتهم عن طريق القوة. ونلاحظ هنا انّ المسلمين أصبحوا في موضع قوة تتيح لهم أن يتصدوا لخطر أي هجوم قد يقوم به المشركون بعد أن نقضوا كل المعاهدات السابقة المعقودة معهم. وفي ذات الوقت نلاحظ انّ النواة الصلبة للأُمّة الجديدة أصبحت متمايزة عن أهل الكتاب الذين أُخضعوا لضريبة الرأس أو الجزية. لنستمع الآن إلى هذه الآيات الحاسمات:
- (فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة/ 5).
- (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) (التوبة/ 8).
- (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (التوبة/ 20).
- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (التوبة/ 23).
- (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة/ 29).
- (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة/ 80).
- (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) (التوبة/ 83).
- (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (التوبة/ 93).
هذه الآيات مؤسِّسة للوعي الإسلامي في أعماق أعماقه منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا، بالإضافة إلى الآيات الأخرى بالطبع.
المصدر: كتاب الهوامل والشوامل حول الإسلام المعاصر
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق