◄ تمهيد..
ارتفعت في السنوات الأخيرة درجة الكلام عن الحوار، فقيل: "حوار الحضارات"، أو قيل، من باب الخطأ: "حوار الأديان"، والصحيح أن يقال: "حوار أتباع الأديان والعقائد"، وكان ثمة خلط بين المفردات الآتية: جدل، وحوار، ومناظرة، ومناقشة، ومعارضة، وسواها، ويكون بذلك من الضروري بيان المصطلحات وتحديدها بشكل دقيق جلاءً للحقيقة، وضبطاً للخطاب بين الناس.
إنّ غموض المصطلح يولِّد حالات من التشويش، والارتباك الفكري، ولأن الخطاب التواصلي بين البشر حاجة وضرورة فإن ضبط المصطلحات المتعلقة بالاتصال والتواصل من الركائز المؤسسة.
إنّ التواصل بين الناس ضروري على تنوُّع عقائدهم، وتعدد أفكارهم، وتقارب قِيَمهم أو تباعدها، وهذا نتيجة التنوع في اللغة والثقافة والميول والمقاصد، وهذا التنوع آية ربانية حيث الناس من أصل واحد، ومع ذلك توزعوا وأصبح الاختلاف سنّة كونية، لكن العيش الكريم الذي يؤمن سعادة الإنسان المستخلف في الأرض يحتاج إلى مواقع للِّقاء وفق أسس وقواعد وضوابط، ولا يكون ذلك بدون أساليب للتواصل أبرزها ثلاثة هي: الجدل، والمناظرة، والحوار؛ كل ذلك تمهيداً للتعارف، لأنّ العلاقات التي تقوم على التعارف هي العلاقات التي تكتسب صفة الاستمرارية، أما ما قام من العلاقات على الجهل بالآخر فإنّها ستنفك، وستكون نتائجها غير مرضية.
هذا ما وجَّه إليه الخطاب الإلهي في الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13).
إنّ التنوع واقع ملازم لوجود الإنسان، والتلاقي ضرورة عند كل قضية أو موقف إيجابي شرط أن يقوم ذلك على أسس سليمة؛ وهذا أمر ينطلق من حقيقة كونية لا مناص لأحد منها، هذا ما جاء في قول الله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (هود/ 118-119).
هذا الاختلاف حقيقة وواقع وهو غير الخلاف، فالخلاف ينمُّ عن الخصام واللدد والتنازع، بينما الاختلاف يدلُّ على الإقرار بالتنوع، وبوجود الآخر ليكون بعد ذلك التواصل معه من خلال الجدل، أو المناظرة، أو الحوار.
- الجدل:
الجدل شكل من أشكال الخطاب التبادلي بين شخص وآخر، أو طرف وآخر، لكن المنطلق فيه أن أحد الطرفين يكون صاحب عقيدة، أو فكرة، أو موقف، وما عليه نقيض ما يكون عليه الطرف الآخر، ويكون تبادل الكلام مع خصومة، والهدف منه أن صاحب العقيدة، أو الفكرة يعمل الاستمالة الآخر، واستقطابه ليؤمن بما يؤمن به.
جاء في "لسان العرب": "الجَدَل: اللَّدَد في الخصومة والقدرة عليها... ويُقال: جادلت الرجل فجدلته جدلاً؛ أي: غلبته. ورجل جَدِل إذا كان أقوى في الخصام. وجادله؛ أي: خاصمه... والاسم الجَدَل: وهو شدَّة الخصومة... الجَدَل: مقابلة الحجة بالحجة. والمجادلة: المناظرة والمخاصمة... ويقال: إنّه لَجَدِل إذا كان شديد الخصام"[1].
وجاء في "التعريفات": "الجدل: هو القياس المؤلف من المشهورات والمسلمات، والغرض منه إلزام الخصم، وإفحام من هو قاصر عن إدراك مقدمات البرهان"[2].
هذه المعاني تبيِّن بأنّ الجدل ينطلق من أسس راسخة يؤمن بها من يحملها، ويلتزمها بثبات دونما ميل إلى التنازل أو التراجع عن أي شيء فيها؛ بخلاف الحوار الذي يرتكز على المراجعة والتنازل.
فالجدل "يشير إلى تمسُّك طرف أو شخص بموقف، والمعاندة فيه وعدم الاستعداد للتراجع أو التنازل، ولذلك يقال: الجدل؛ شدة الخصومة. أو تجادلا: تخاصماً. فالمجادلة تؤشِّر دوماً إلى المخاصمة والتناقض في الرأي، بحيث يكون الهدف إلزام الخصم بما عليه المجادل"[3].
والمجادل المحقُّ الذي يمتلك الحجَّة يواجه خصومه من دعاة الباطل استناداً إلى بيان وبرهان ليعجزهم، لأنّهم لا يمتلكون من البراهين ما يمتلك، وفي الآية الكريمة قوله تعالى: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة/ 111).
أمّا على صعيد الدعوة للإسلام، فإنّ الجدل هو الخيار الملزم لحامل الدعوة لأنّ الإسلام دعوة إلى الدين الحقِّ، لذلك كان الجدل ضرورة، وقد بيَّن ابن الجوزي الحادة إلى علم الجدل، فقال: "اعلم – وفقنا الله وإياك – إنّ معرفة هذا العلم لا يستغني عنها ناظر، ولا يتمشّى بدونها كلام مناظر، لأن به يتبيَّن صحة الدليل من فساده – تحريراً وتقريراً – وتتضح الأسئلة الواردة – من المردودة – إجمالاً كل مدعٍ ودعوى ما يرومه – على الوجه الذي يختار – ولو مكِّن كل مانع من ممانعة ما يسمعه – متى شاء – لأدّى إلى الخبط، وعدم الضبط، وإنما المراسم الجدلية تفصل بين الحقِّ والباطل، وتميِّز المستقيم من السقيم"[4].
هذا الموقف مستفاد من الأمر الإلهي باعتماد الجدل المحمود بالأسلوب الحسن في العمل الدعوي؛ قال الله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125).
وقد جاء في تفسير "المحرِّر الوجيز" حول هذه الآية: "هذه الآية نزلت بمكة في وقت الأمر بمهادنة المشركين، أمره الله تعالى أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطُّف، وهو أن يسمع المدعو حكمة، وهو الكلام الصواب القريب الوقع في النفس أجمل موقع، والموعظة الحسنة التخويف والترجية والتلطف بالإنسان بأن يجلَّه ويبسطه ويجعله بصورة من يقبل الفضائل، ونحو هذا. فهذه حالة من يُدعى وحالة من يجادل بدون مخاشنة، ويبين عليه دون قتال... فجملة المعنى: أسلك هذا السبيل ولا تعن للمخاشنة لأنها غير مجدية".[5]
فالجدل المحمود إسلامياً إنما هو عمل رسالي لنشر الحقيقة، وكي يدحض المجادل الباطل، ويبيِّن تهافت حجة الخصم ومنطقة. قال القنوجي في "أبجد العلوم": "علم الجدل: هو علم باحث عن الطرق التي يُقتدر بها على إبرام أي وضع أُريد، ونقض أي وضع كان. وهو من فروع علم النظر، ومبني لعلم الخلاف. مأخوذ من الجدل الذي هو أحد أجزاء مباحث المنطق، لكنه خُصَّ بالعلوم الدينية.
... والغرض منه تحصيل ملكة النقض والإبرام والهدم والإحكام. وفائدته كثيرة في الأحكام العلمية من جهة الإلزام على المخالفين ورفع شكوكهم.
... والإنصاف أنّ الجدل لإظهار الصواب على مقتضى قوله تعالى: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، لا بأس به وربما ينتفع به في شحذ الأذهان وتصقيل الخواطر، وتمرين الطبائع، والممنوع هو الجدل الذي يضيع الأوقات ولا يحصل منه طائل"[6].
الجدل ضرورة دعوية لكن الأمر يقتضي التمييز بين جدل محمود وآخر مذموم منهي عنه، فالجدل نوعان:
أ- جدل محمود مطلوب، وهو الذي يهدف إلى استمالة الخصم بقوة الدليل والحجّة، وهذا النوع يرتكز على الحقِّ، ويكون صاحبه صلباً يسعى لغلبة الحقِّ.
ب- جدل مذموم؛ وهو الذي يكون مرتكزاً إلى الباطل، ويريد صاحبه المراء، ودحض الحقِّ، أو حب الظهور والشهرة مع المعاندة بما هو فاسد.
وقد ذهب المذهب نفسه محمد رواس قلعه جي في تعريف الجدل وتعيين حكمه، فكان قوله: "الجدل هو المخاصمة الكلامية دفاعاً عن الرأي طلباً للغلبة، وإذا خلا من المخاصمة والانتصار للرأي، حقّاً كان أو باطلاً، فهو: الحوار.
حكمه: الجدال الذي كان لإظهار الحقِّ فهو واجب... وإن كان في الباطل أو للدفاع عنه وإخفاء نور الحقيقة فهو محرَّم. وقد ذكر الله تعالى أن عقوبة هذا النوع من الجدال ستكون الإهلاك، فقال تعالى في سورة غافر، الآية (5): (وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ)، وإن كان لإظهار الغلبة والتفوق على الخصم فهو مكروه ولو كان الجدال في الحق، والكبر في الجدال محرَّم"[7].
إنّ الداعية للإسلام ليس أمامه سوى الجدل، وفي هذا جاء الخطاب الإلهي في الآية الكريمة: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، وكذلك قوله تعالى في أمر التعامل مع أهل الكتاب، والآية: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (العنكبوت/ 46).
قال القرطبي: "هي محكمة، فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن على معنى الدعاء لهم إلى الله – عزّ وجلّ – والتنبيه على حججه وآياته، رجاء إجابتهم إلى الإيمان، لا على طريق الإغلاط والمخاشنة"[8].
أمّا النسفي فقد قال حول الآية: "بالخصلة التي هي أحسن، وهي مقابلة الخشونة باللين، والغضب بالكظم... (إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا)، فأفرطوا في الاعتداء والعناد ولم يقبلوا النصح ولم ينفع فيهم الرفق فاستعملوا معهم الغلظة،... أو معناه: ولا تجادلوا الداخلين في الذِّمة المؤدين للجزية إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا"[9].
وجاء في "المنتخب في تفسير القرآن العظيم": ولا تجادلوا مخالفيكم، من يهود والنصارى، إلا بالطريقة التي هي أهدأ وألين وأدعى إلى القبول، إلا الذين جاوزوا حدَّ الاعتدال في الجدال فلا حرج بمقابلتهم بالشِّدَّة. وقولوا لمن تجادلونهم: صدَّقنا بما أنزل الله إلينا من القرآن وما أنزل إليكم من التوراة والإنجيل، ومعبودنا ومعبودكم واحد، ونحن له وحده منقادون"[10].
الجدل هو المعتمد، لكن قاعدة الانطلاق عقيدة التوحيد، فالإيمان بالله تعالى هو الكلمة السواء الجامعة لكل من اتبع رسالة سماوية، ثمّ بعد ذلك يكون واجب من يجادل أهل الكتاب، كما سواهم، أن يعتمد أفضل أساليب الحوار الذي يعتمد الكلمة الطيِّبة، والقول الليِّن الذي تنداح له النفوس، وتستقبله بكل حب ورضى.
هذا هو الجدال، وهو يختلف عن المناظرة وعن الحوار. والجدل المحمود انتصار للحق ودحض للباطل، أما الجدل المذموم فهو في الموقف المقابل. ومما جاء في هذا النوع من الجدل المذموم قول الله تعالى: (وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ).
إنّ الجدل غير المنطلِق من قاعدة إيمانية يهم صاحبه الغلبة حتى لو استخدم الحيل، أو اعتمد نصرة الباطل، وقد عبَّر عن وجه المقارنة بين الجدل المذموم والجدل المحمود صاحب كتاب "مفاهيم قرآنية" حيث قال: "أما الجدل فيكون عندما يكون هناك صراع فكري حول قضية من القضايا أو مسألة من المسائل، ويكون الهدف عند كل واحد من المتجادلين هو هزيمة الآخر فكرياً، والانتصار عليه.
والعمل على تحقيق هذا الهدف قد يدفع كل واحد من المتجادلين، أو على أقل تقدير الواحد منهما، إلى أن يعتمد على أي سلاح يمكِّنه من النصر والغلبة، حتى ولو كان اعتماداً على ما هو باطل إذ الغاية في هذا الموقف تبرر الوسيلة.
وإنّه من هنا سلك القرآن الكريم مسلكاً خاصاً في الجدل، ووضع للنبي (ع) القواعد التي يمارس الجدل على أساسها، منها القواعد التي نعتبرها من آداب الجدل القرآني، وأخلاقياته...
ولم تقف آداب الجدل في القرآن الكريم عند طلب أن يكون الجدل بالتي هي أحسن فقط، وإنما تجاوز ذلك إلى أخلاقية أخرى من أخلاقيات الجدل القرآني، وهي أن يكون الحقُّ هو المستهدف من الجدل، وليس الباطل"[11].
إنّ الجدل المحمود في الإسلام يدور حول موضوعين هما:
أ- العقيدة، وأساسها الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر، وبالنبوة، والوحي، وسائر أسسها.
ب- القِيَم الأخلاقية الناضمة لعلاقات الناس فرداً ومجتمعاً، من الأسرة، أصغر خلية اجتماعية، إلى اجتماع وطن الأُمّة بكل مكوناته.
- المناظرة:
المناظرة لون من التخاطب بين شخصين أو طرفين مقصده إظهار الحقيقة التي هي لدى أحد الطرفين. والمناظرة لغة: "علم المناظرة: علم يُعرف به آداب طرق إثبات المطلوب ونفيه، أو نفي دليله مع الخصم.
والمناظرة مجادلة بين شخصين في موضوع أدبي أو سياسي أو نحوه أمام الجمهور، وفنٌّ من فنون الإنشاء كثير الأناقة، يقوم على نسبة الكلام إلى متخاصمين يُفاخر أحدهما الآخر"[12].
إنّ هذا المعنى اللغوي يفيد أنّ المناظرة، كما الجدل أو الحوار، إنما هي كلام يتبادله طرفان يعمد كلٌّ منهما إلى ترتيب كلامه منهجياً وتقويته بالأدلة مقارناً مع كلام من يناظره ليظهر الحقَّ على يده.
والمناظر يجتهد في جمع أفكاره ومعارفه حول المسألة، موضوع المناظرة، لأن ذلك يعينه بمؤيدات تمكّنه من جلاء الحقيقة.
والمناظرة في "أبجد العلوم": "علم باحث عن أحوال المتخاصمين ليكون ترتيب البحث بينهما على وجه الصواب حتى يظهر الحقُّ بينهما"[13].
المناظر بناء لروح مسؤولة، والذي لا يقصد المكابرة والغلبة، هو مناظر كل همه الوصول إلى الحقيقة، وهذا مقصد يكون عند طرفي المناظرة. وقد عرَّف علماء المصطلح المناظرة على أنّها: "المحاورة في الكلام بين شخصين مختلفين يقصد كل منهما تصحيح قوله وإبطال قول الآخر، مع رغبة كل منهما في ظهور الحقِّ، فكأنها بالمعنى الاصطلاحي مشاركتهما في النظر الذي هو الفكر المؤدي إلى علم، أو غلبة الظنِّ ليظهر الصواب"[14].
إنّ الداخل في المناظرة واجبه اعتماد أدب الخطاب الذي يجعل الآخر يدخل معه في المناظرة بكل طيب خاطر حتى لو كان على دراية بأنّ الحقيقة عنده، وأن غيره على ضلال. وقد جاء البيان القرآني يعلِّم المسلم أصول المناظرة، وفي الآية قوله تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (سبأ/ 24).
الخطاب القرآني بلسان رسول الله (ص) مواجهاً ومناظراً المشركين، والمناظرة هنا جاءت منطلقة من المساواة بين الأطراف رغم أن رسول الله على علم يقيني بأنّ الهدى ما هو عليه وما يحمل من رسالة، وأنّ المشركين أهل ضلال، لكن مثل هذا الأسلوب في دعوة الخصم المناظِر إلى الهدى، وفي الوقت نفسه تكذيب ما يعتقده من ضلال وعقيدة فاسدة لا يخدش مشاعره، ولا يولِّد عنده النفور، مما يجعله ادعى للاستجابة.
جاء في "الجامع لأحكام القرآن" حول هذا النص القرآني: "هذا على وجه الإنصاف في الحجَّة، كما يقول القائل: أحدنا كاذب، وهو يعلم أنّه صادق، وأن صاحبه كاذب، والمعنى: ما نحن وأنتم على أمر واحد، بل على أمرين متضادَّين، وأحد الفريقين مهتدٍ وهو نحن، والآخر ضال وهو أنتم. فكذَّبهم بأحسن من تصريح التكذيب، والمعنى: أنتم الضّالون حين أشركتم بالذي يرزقكم من السماوات والأرض"[15].
هذا السياق القرآني يعطي قاعدة مهمة لكل مناظر للآخرين من أهل الشرك والباطل بأن واجبه التزام لغةٍ راقية لا تجريح فيها، وتحقق الغرض بدون تنفير للآخرين ولا تحقير.
ومع هذا العرض التعريفي بات من المفيد بيان الاختلاف بين المناظرة والجدل. والمقارنة متروكة للشيخ عبدالرشيد الجونغوري الذي قال في المناظرة: "توجُّه المتخاصمين بين الشيئين إظهاراً للصواب"[16]. أمّا المجادلة فقد قال فيها: "هي المنازعة لا لإظهار الصواب، بل لإلزام الخصم"[17].
المجادلة تنطلق من أمور مسلَّم بها، وهي تحمل الحقَّ، وتعمل الإلزام الآخر به، أما المناظرة فالهدف منها بيان الحقيقة، وإذا كان جدِّيّاً لا يهمه ما إذا كانت الحقيقة ستظهر على لسانه أو على لسان من يناظره.
وقد بينت "الموسوعة الفقهية" مشروعية المناظرة، وجاء فيها تحت هذا العنوان: "المناظرة مشروعة بالكتاب والسُّنَّة. أما الكتاب فمنه المناظرة التي تمت بين إبراهيم (ع) وبين النمرود الذي ادَّعى الربوبية، وذلك في قوله تعالى[18]: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة/ 258).
يتبع...
الهوامش:
[1]- ابن منظور، لسان العرب، م1، تحقيق عبدالله علي الكبير، ومحمد أحمد حسب الله، وهاشم محمد الشاذلي، القاهرة، دار المعارف، بدون تاريخ، ص571.
[2]- الجراني، علي بن محمد الشريف، كتاب التعريفات، تحقيق وزيادة الدكتور محمد عبدالرحمن المرعشلي، بيروت، دار النفائس، ط1، سنة 1424هـ/ 2003م، ص137.
[3]- السحمراني، أسعد، الإسلام والآخر، بيروت، دار النفائس، ط1، سنة 1426هـ/ 2005م، ص18.
[4]- ابن الجوزي، محيي الدين يوسف بن عبدالرحمن، كتاب الإيضاح في الجدل والمناظرة، تحقيق محمود بن محمد السيد دغيم، القاهرة، مكتبة مدبولي، ط1، سنة 1415هـ/ 1955م، ص99.
[5]- ابن عطية الأندلسي، أبو محمد عبدالحق بن غالب، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ج10، الرباط، وزارة الأ,قاف والشؤون الإسلامية، سنة 1407هـ/ 1987م، ص251.
[6]- القنوجي، صديق بن حسن خان، أبجد العلوم، ج2، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، سنة 1420هـ/ 1999م، ص177 وما بعدها.
[7]- رواس قلعه جي، أ. د. محمد، الموسوعة الفقهية الميسرة، م1، بيروت، دار النفائس، ط1، سنة 1421هـ/ 2000م، ص626، 627.
[8]- القرطبي، أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر، الجامع لأحكام القرآن، ج16، تحقيق أ. د. عبدالله عبدالمحسن التركي وآخرين، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط1، سنة 1427هـ/ 2006م، ص371.
[9]- النسفي، عبدالله بن أحمد، مدارك التنزيل وحقائق التأويل، ج3، تحقيق الشيخ مروان الشعار، بيروت، دار النفائس، ط1، سنة 1416هـ/ 1996م، ص375.
[10]- المنتخب في تفسير القرآن العظيم، المجلس الأ‘لى للشؤون الإسلامية، القاهرة، ط18، سنة 1416هـ/ 1995م، ص598.
[11]- خلف الله، د. محمد أحمد، مفاهيم قرآنية، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، الرقم 79، شوال 1404هـ/يوليو – تموز 1984م، ص157-158.
[12]- معجم النفائس الكبير، م2، إشراف أ. د. أحمد أبو حاقة، بيروت، دار النفائس، ط1، سنة 1429هـ/ 2008م، ص2017.
[13]- القنوجي، صديق بن حسن خان، م. س، ص428.
[14]- الشنقيطي، الشيخ محمد الأمين، آداب البحث والمناظرة، القاهرة، مكتبة ابن تيممية، وجدَّة، مكتبة العلم، بدون تاريخ، ص3.
[15]- القرطبي، أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر، م. س، ج17، ص312.
[16]- الرسالة الرشيدية، لعبد الرشيد الجونغوري الهندي على الرسالة الشريفة للسيد علي بن محمد الجرجاني، تحقيق وشرح علي مصطفى الغرابي، القاهرة، مكتبة صبيح، سنة 1369هـ/ 1949م، ص15.
[17]- الرسالة الرشيدية، م. س، ص18.
[18]- الموسوعة الفقهية، ج39، الكويت، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط3، سنة 1430هـ/ 2009م، ص74.
المصدر: كتاب (الحوار في الإسلام.. آدابهُ وقواعده)
ارسال التعليق