• ١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٨ ربيع الثاني ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الفرد الإيجابي في نظر الطهطاوي

سمير أبو حمدان

الفرد الإيجابي في نظر الطهطاوي

في كتابه (المرشد الأمين للبنات والبنين) يشن الطهطاوي هجوماً كاسحاً على الفرد المتميز بأنانية مفرطة. وفي فصل بعنوان (محو محبة النفس من الأطفال في حال صغرهم، وإزالتها عن الكبار في حال كبرهم) ينبه إلى هذا النوع من الأفراد الذين لا يبنون وطناً ولا يقيمون المجتمع الفاضل. فقد عرف رفاعة كم أنّ الاهتمام بالذات ومحبة النفس دون أي شعور بأحاسيس الآخرين ومصالحه، وكم أنّ اهتمامهم بذواتهم ومحبتهم لأنفسهم دون أن يقيموا وزناً لمصالح المجتمع واهتماماته ... كم أنّ ذلك خطير ومخلّ بوحدة المجتمع الإنساني (فحب النفس خصلة جامعة لجميع العيوب والذنوب، مخلة بالجنس البشري). وأن يتعبد المرء لنفسه بحيث تصبح هذه النفس (محبوبته وبغيته) فذلك من الصفات البغيضة التي عليه التخلص منها لأنّها لن تكون مبعثاً لسعادة ولا سبباً لفرح نفسي (... وكيف ينال السعادة مَن خصّ نفسه بالمحبة، ولم يجعل لأخيه منها قدر حبة؟).
لقد لاحظ الطهطاوي إبان وجوده في باريس أنّ ثمة خللاً يعيشه المجتمع الفرنسي ويتمثل في الفردانية المطلقة. فالفرد هناك أصبح في حالة من الانسلاخ التام عن المجتمع وشجونه. وقد ينتج عن ذلك تفكك البنية المتماسكة للمجتمع الفرنسي على الرغم من تمدنه وتحضره. ولهذا السبب فإنّ رفاعة تناول هذه المسألة بمزيد من العقلانية. فهو يرى إلى ذلك التلازم الذي ينبغي أن يكون بين الفرد والجماعة حيث أنّ الواحد منهما يتمم الآخر ويكمله. فالفرد يتميز بكونه عضواً في مجتمع، والواجب يفرض عليه بذل كل ما يستطيع لرفعة هذا المجتمع وعزته (فالواجب على كل عضو من أعضاء الوطن أن يعين الجمعية (المجتمع) بقدر الاستطاعة ويبذل ما عنده من رأس مال البضاعة لمنفعة وطنه العمومية. أما إذا رغب الفرد في أن يحقق لنفسه امتيازاً ما، أو أن يحقق بروزاً شخصياً، فإنما يأتيه ذلك بمقدار عطاءاته وبذله في سبيل الجماعة التي هو جزء لا يتجزأ منها. وفي هذا الصدد حدد رفاعة الطهطاوي معايير جديدة للشرف، والمكانة الاجتماعية، والبروز الفردي. فبعد أن كانت صفة (الرجل الشريف) تتوارث أباً عن جد، وهي تخضع لانتماء الفرد إلى إحدى العائلات أو القبائل ذات الحسب والنسب أو ذات التاريخ السياسي أو المالي، أصبحت الآن تُكتسب من طريق آخر، أي طريق البذل والعطاء.
فـ(الرجل الشريف) هو ذلك الذي يبذل في سبيل مجتمعه ما لا يبذله الآخرون، أو ما لا يقدرون على بذله. وفي تنظيره لهذه المسألة وجد رفاعة أن معايير الشرف والمكانة الاجتماعية شهدت مرحلتين مختلفتين في التاريخ العربي، وهما مرحلة ما قبل ومرحلة ما بعد الإسلام. فالعرب، قبل الإسلام، رأوا إلى الرجل الشريف وذي المكانة على أنّه كثير المال والجاه، في حين رأى إليه الإسلام أنّه ذلك الشخص المتميز من غيره بـ(المواهب الحميدة والفضائل المفيدة).
وانطلاقاً من ذلك المفهوم لم يعترف أثرياء قريش بنبوة محمد بن عبدالله الذي لم يكن ثرياً ولا صاحب جاه، ولذلك لما نزل القرآن على سيدنا محمد تعجبوا في بادية الأمر، واعترضوا نزوله عليه بما حكاه الله عنهم في قوله تعالى: (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (الزخرف/31). وقد اعتبر رفاعة أنّ كلام أهل قريش، هنا، ينطوي على قياس منطقي. فالرسالة لا يبلغها الله تعالى إلا لمن كان شريفاً في حسبه ونسبه، والشريف ـ على رأيهم ـ هو من كثر ماله وعظم جاهه. وطالما أنّ محمداً لم يكن يمتاز بهذه الصفات فإنّ رسالة الله ـ على هذا الأساس ـ لا تليق به. وفي هذا يقول رفاعة: (فالقياس، في حد ذاته، صادق. إلا أنّهم ضموا إليه مقدمة فاسدة بتفسير (الشريف)، فكانت شبهة، حيث اشتبه عليهم منصب الدين والنبوة بمنصب الدنيا).
انطلاقاً من هذه النظرة المتقدمة إلى الإنسان الفرد ذهب رفاعة إلى التأكيد على أنّ ما يُكسِب المرء شرفاً ومكانة اجتماعية ليس حسبه ونسبه، ولا انتماءه إلى إحدى العائلات ذات الثروة والجاه، وإنما عمله وإنجازاته ومجموع (المنافع العمومية) التي يبذلها في مجتمعه. ونرانا مضطرين هنا للتوقف عند نقطة جوهرية تتعلق بالعمل القائم على التنافس بين الأفراد. فلئن كان رفاعة قد وقف ضداً للفرد المتسم بنزعة أنانية وبمحبة مفرطة للذات، غير أنّه رفض أن (يَقنع) الأفراد بما هم عليه. فالمطلوب من الفرد أن يكون اجتماعياً بكل ما تعنيه هذه الكلمة، وبأن يكن عاملاً سواء في حقله أم في مكتبه أم في مصنعه. وينطلق رفاعة في ذلك من قَولة الجنيد التي يذهب فيها إلى (أنّ الله لا يحب الرجال البطال، وأنّ مَن تعطّل تبطّل).
وقد فرّق الطهطاوي بين الفرد الإيجابي والفرد السلبي. فالأول، وهو فرد عامل، يستطيع أن يقيم حضارة، على حين أنّ الثاني، وهو فرد بطّال أي بدون عمل ينجزه، ليس بوسعه أن يسهم في صنع المدنية أو الحضارة. فالجمعية التأنسية (وهي تسمية يطلقها رفاعة على المجتمع الإنساني) لا يستطيع أن ترقى وتزدهر بأفراد سلبيين (متبطلين) وإنما بأفراد إيجابيين (عاملين). ومن هنا إصرار الطهطاوي في أكثر من مكان في كتاباته على خلق المجتمع العامل، الديناميكي، ومن هنا أيضاً إصراره على رفض مبدأ الزهد والاعتزال عن المجتمع والناس. وينبع إصرار الطهطاوي من معاينته اليومية لما يجري داخل المجتمع المصري.
فهذا المجتمع يزخر بجموع من المتبطلين، الزاهدين، القانعين بكفاف العيش يأتيهم هبةً من هنا وهناك. ولعل ما أثار حمية الطهطاوي، بل وأثار حفيظته، أن هذه الجموع من البشر المتعطلين كانت تدعي الإيمان ومحبة الله وقد انخرطت في بعض مسالك من التصوف تخالف الإسلام، شكلاً ومضموناً. وقد استهوت هذه المسالك الصوفية، البعيدة من التصوف الحق،أوساطاً شعبية عريضة مولعةً بكل غريب، وبكل عادة غير مألوفة. وكان من أثر ذلك، وبتشجيع من الولاة العثمانيين أحياناً، ظهور أعداد كبيرة من الزهاد ومدّعي التصوف الذين كانوا يرددون مصطلحات الصوفية (دون فهم ولا فقه ولا علم ولا دين).
ويتفق المؤرخون لهذه الحقبة من تاريخ مصر، وللحقبة التي سبقتها، أنّ هذه المجموع التي تمارس التبطل وتدعي الزهد والتصوف والاعتزال عن الناس، كانت تمارس الكثير من الموبقات والعادات السيئة وعلى رأسها تعاطي الحشيش، وقد كان ذلك عادة مألوفة وغير مستهجنة بين هؤلاء.
ويروي لنا المتصوف المصري الشهير عبدالغني النابلسي حادثة مضحكة عن أحد هؤلاء وهو ممن يتعاطون التصوف والحشيش على السواء، وذلك في كتابه (الحقيقة والمجاز في الرحلة إلى الشام ومصر والحجاز). فهو يخبرنا أنّه قام، يرافقه زميل آخر له هو زين العابدين البكري، بزيارة إلى بولاق. وفي مسجدها الذي يدعى مسجد السنانية شهد صلاة الجمعة مع رفيقه البكري. وقام أحد الخطباء يؤم المصلين. لكن هذا الخطيب كان يتمايل يمنةً ويسرة ويكثر من اللحن مما حمل زين العابدين البكري على الإكثار من الابتسام. فشعر الخطيب المذكور بأنّ زين العابدين، وكذلك النابلسي، مغتبطان أشد الاغتباط بكلامه ومنطقه السليم، ولكنهما في حقيقة الأمر كانا يسخران منه خاصة وأنّ ملامح التخدير بدت واضحة على وجهه وفي حركات يديه، وأيضاً في تمايله كالسكران. وبعد حين توقف الخطيب وتوجه نحو زين العابدين يدعوه إلى اعتلاء المنبر للخطابة لأنّ هذا التكريم لا يستحقه هو وحده. لكن الحاضرين منعوه من التمادي مع زين العابدين وأفهموه حقيقة حاله، وأنّ الشيخ زين العابدين كان يبتسم استنكاراً لكثرة لحنه وانعدام منطقه. فما كان من هذا الخطيب إلا أن اعتذر لأنّه كان غائباً عن الوعي بسبب تناوله مقداراً كبيراً من حشيشة الكيف، وضجت قاعة المسجد بكلمات السخرية والضحك. وظل الوضع على هذه الحال إلى أن تطوع بعض المصلين وطرده من المسجد.
وحول هذه الحادثة يعلق المفكر المصري توفيق الطويل، فيقول: (ولو كان تعاطي الحشيش اتهاماً يشين صاحبه لالتمس هذا الإمام عذراً للحنه غير هذا العذر).
إذن فقد كثر الأفراد العاطلون عن أي عمل، وزادت أعداد المشعوذين ومدّعي الولاية الصوفية (وكان تأثيرهم على الناس عجيباً نتيجة لسوء الأحوال السياسية والاقتصادية والأمنية في العصر العثماني، فتشبث الناس بأية بارقة من النور والقوة لتنقذهم مما هم فيه من الفزع والخوف، وكانت تلك البارقة هي ... طرق التصوف).
لعل ما تقدم يمحضنا صورة جلية عن البيئة التي وجد رفاعة الطهطاوي أن لا شيء ينقذها من تخلفها غير العمل والبذل والكد والعطاء. فالمرء يُنظر إليه بقدر أفعاله وبقدر ما يعطيه لمجتمعه من عمل يعود بالمنفعة عليه وعلى الآخرين، فـ(ليست الفضائل إعداماً بل هي أفعال وأعمال تظهر عند مشاركة الناس ومساكنتهم وفي المعاملات وضروب الاجتماعات). إذن (الأفعال والأعمال) وحدها تحدد قيمة الإنسان ومكانته. فهذه الأفعال والأعمال تخلق فرداً إيجابياً يكدّ من أجل خيره وخير الآخرين.
أما ما يقال عن (فضيلة الزهد) فلا يتعدى كونه نوعاً من الهراء يجب أن يتوقف، لأنّه لا شيء كالزهد واعتزال المجتمعات والعيش بعيداً من قضايا الناس ومشاغلهم، ما يهدر طاقة الإنسان ويبددها. فالبديل من الزهد هو الانخراط في المجتمع بحيث يصبح مصير الفرد من مصيره، يكبر في كبره ويصغر في صغره. والبديل من الاعتزال في المغاور والصوامع هو أن يخوض المرء معركة الحياة بكل ما أوتي من جهد وتعب وتصميم، لأنّ المطلوب منه أن يقيم حضارة لا أن يهدم حضارة. فالعمل بناء ومراكمة على حين أنّ التبطل (ويسميه رفاعة إعداماً) هدم وتبديد.
وعلى هذا فهو يقف ضد الرأي القائل بأنّ (الفضيلة في الزهد وترك مخالطة الناس بملازمة المغارات في الجبال، وبناء الصوامع في المفازات، والسياحة في البلدان للدروشة).
فهذا السلوك يهدر طاقات الإنسان ويبددها بلا ثمن، والذين يمارسون مثل هذا السلوك (لا يحصل لهم شيء من الفصال الإنسانية المدنية - العفة، النجدة، السخاء، العدالة - بل تصير قواهم وملكاتهم التي ركبت فيهم بالنسبة للخيرات المدنية والمنافع العمومية عاطلة، لأنّها لا تتوجه إلى خير أو إلى شر بالنسبة إلى العموم).


المصدر: رفاعة رافع الطهطاوي

ارسال التعليق

Top