• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ذكر الله وشكره

محمّد محمّد المدني

ذكر الله وشكره

يقول الله تعالى في كتابه العزيز:

(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (البقرة/ 152).

وهذه آية موجزة تشتمل على ثلاثة توجيهات عظيمة لو جعلها المؤمن نبراساً له في حياته لأضاءت له السبيل فسلكه آمناً مطمئناً دون أن يتعثر فيه:

فأوّل هذه التوجيهات قوله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) وذكر الله تعالى على نوعين: أحدهما ذكره باللسان فقط، بينما القلب غافل عنه، والأعمال خارجة عن حدوده التي حدها، وقوانينه التي شرّعها، وهذا ذكرٌ لا فائدة فيه، ولا ثواب عليه، وإنّما هو وبال على صاحبه، من حيث أنّه يقول ما لا يفعل ويتظاهر بأنّه تقيُّ صالح ليجعل بذلك شعاراً على أعماله الفاسدة، فيدخل في نطاق قوله تعالى: (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف/ 3)، والنوع الثاني ذكر الله بالقلب، أي أن يتمثّل المرء عظمة الله تعالى وجلاله فيطيعه ولا يخالف أمره، فإذا ترطّب اللسان مع ذلك الشعور القلبي بالذكر والتسبيح فذلك هو الذكر الحقّ، أو هو الصورة المُثلى للذكر الحقّ، ومن شأن صاحبه أن يستجيب لله تعالى في كلّ موقف، وأن يسأل نفسه: ماذا عليَّ أن أفعل وماذا عليَّ أن أترك لأكون مطيعاً لله، ذاكراً له، وبذلك يؤدي واجبه نحو الله، ونحو الناس، ونحو الوطن، ويكف عن مواقف الإثم والعصيان والتفريط، مستحيياً من الله حقّ الحياء أن يفقده حيث أمره، أو يراه حيث نهاه.

وقد أنبأتنا الآية أنّ الذي يذكر الله يذكره الله، ومعنى ذكر الله للعبد هو شموله برحمته ومعونته وتيسيره وتوفيقه، فإنّ العبد فقير إلى ذلك مهما كانت قوّته، ومهما كان ذكاؤه واستعداده، ومهما كان اجتهاده، بل ربما اجتهد الإنسان بفعل ما يضرّه وهو لا يدري.

وهكذا يكون الذكر الحقّ لله تعالى حصناً وأماناً لصاحبه كما وعد جلّ شأنه.

التوجيه الثاني: قوله تعالى: (وَاشْكُرُوا لِي).

وحقيقة الشكر: الثناء على المُحسن بما أولى من المعروف، وليس هو أيضاً مجرد قول يلاك باللسان، وإنّما هو مقابلة الإحسان بالإحسان، ولما كان الله تعالى هو المُحسن على الإطلاق، وهو المُنعم على عباده بجميع النعم فإنّه يستحق شكرهم بمقتضى إحسانه وإنعامه، لكنّه مع هذا الاستحقاق قضى رحمة منه بعباده وتفضلاً عليهم إنّهم إذا شكروه شكرهم، وفي آية كريمة أخرى يقول جلاله: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم/ 7) فطلب الله تعالى لشكره إنّما هو لفت للأنظار إلى نِعمه، وفتح لأبواب من كرمه الإلهي لعباده (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) (النمل/ 40).

وفي القرآن الكريم ما يدل على أنّ شكر الله إنّما يتحقق بالعمل لا بمجرد القول، فالله تعالى يقول: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ/ 13)، فأمر بأن يكون شكرهم لله عملاً، فكلّ نِعمة أنعم الله بها على الإنسان تستحق شكراً عملياً عليها فنِعمة المال تقتضي الجود به في مواطن الجود والإحسان، ونِعمة الصحّة تقتضي بذل الطاقة والقوّة فيما ينفع الناس، ونِعمة الحياة كذلك، ونِعمة العلم كذلك، ومَن ضنّ بشكر النِّعمة أو عصى الله بها فهو متعرض لأن يجرّده الله منهما.

أمّا التوجيه الثالث في هذه الآية، فهو قوله تعالى: (وَلا تَكْفُرُونِ) وهو نهي للناس عن أن يكفروا بالله، أي يكفروا نِعمة ويستروها ويكذّبوا بها، ومن كُفر النِّعمة أن تجحد فضل أصحاب الفضل عليك؛ فإنّ رسول الله (ص) يقول: "لا يشكر الله مَن لا يشكر الناس" وفي هذا توجيه إلى أدب من آداب الاجتماع.

 

المصدر: كتاب القرآن (نظرة عصرية جديدة)

ارسال التعليق

Top