• ١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٨ ربيع الثاني ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المواعظ والحكام

د. محمود عبدالرحيم صالح

المواعظ والحكام

إذا كانت الحُجب قد أُسدلت بين الخليفة والرعية، فلم يعد لوفود العرب وخطبائهم سبيل إلى قصور خلفاء بني العباس، فإنّ الواعظين المُتواعدين بتلك القصور، والقوا على أسماع أصحابها مواعظ، تبعث الوجل في القلوب والدمع في العيون. ولم يقتصر هؤلاء الوعّاظ على إلقاء مواعظهم على رجال الدولة، بل كانوا يعظون الناس في المساجد وغيرها من الأماكن التي يجتمع فيها الناس.

ومن هنا يمكن تقسيم المواعظ على قسمين:

* المواعظ العامّة التي تُلقى في المساجد والساحات والمحافل العامّة التي يحضرها جمهور كبير. وهي تعالج قضايا عامّة ومشاكل لها حظّ من الانتشار في المجتمع.

* المواعظ الخاصّة التي تُقال في الدور والقصور، وهي تعالج - في الغالب - قضايا ظلم الأقوياء للضعفاء وتحيُّفهم على الآخرين وإسرافهم على أنفسهم، ولهذا يكثر في المواعظ الخاصّة الحديث عن العدل والحثّ عليه، والزجر عن الظلم واقتراف المعاصي.

وقد كَثُرت المواعظ في العصر العباسي كثرة بالغة، إذ كان علماء الدِّين والزهّاد والمصلحون يحاولون، كلّما لاحظوا جنوحاً عن جادة الدِّين، أن يردّوا الجانحين وأن يبيّنوا للناس السبيل القويم، وذلك بتذكيرهم بأحكام الله وضرب الأمثال وذكر أخبار الأُمّم السالفة.

وتخصّص في هذا المجال وعّاظ أخذوا يجوبون شتّى البقاع الإسلامية لوعظ الناس وإرشادهم.

وكانت مواعظهم تخاطب القلب والعقل معاً، ولهذا فقد وُجدت؛ فيها الأدلة والبراهين والأقيسة المنطقية، في أسلوب خطابي مؤثّر. فبدت مواعظ الوعّاظ وكأنّها (ردّ اعتبار) للخطابة التي وهنت في هذا العصر.

وكثيراً ما يستمد الوعّاظ من القرآن الكريم، والحديث الشريف، وأقوال الصحابة وسيرهم العطرة، و قصص الأُمّم البائدة، وأشعار الزهد والوعظ.

وكان الخلفاء يستقدمون أحياناً مَن يعظهم، لينتفعوا بكلامه ووعظه. وكانوا في هذه الأحوال يتحرَّون استقدام مَن يأنسون فيه الصدق والصراحة. فمن ذلك أنّ أبا جعفر المنصور استقدم عبدالرحمن بن زياد بن أنعم القيرواني الذي حكى لقاءهما بقوله: كنت أطلب العلم مع أبي جعفر المنصور قبل الخلافة. فادخلني يوماً منزله، فقدّم إليَّ طعاماً ومريقة من حبوب ليس فيها لحم، ثم قدّم إليَّ زبيباً. وقال: يا جارية، عندك حلوى؟ قالت: لا قال: ولا التمر؟ قالت: ولا التمر. فاستلقى ثم قرأ هذه الآية: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (الأعراف/ 129).

فلمّا ولي المنصور الخلافة، أرسل إليَّ وأنا بأفريقية، فقدمت عليه، والربيعُ - حاجبه - قائمٌ على رأسه، فاستدناني وقال: يا عبدالرحمن، بلغني أنّك كنت تفد إلى بني أُمية. قلت: أجل. قال: فكيف رأيت سلطاني من سلطانهم؟ وكيف ما مررت به من أعمالنا حتى وصلت إلينا؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، رأيتُ أعمالاً سيئة وظلماً فاشياً، والله - يا أمير المؤمنين - ما رأيت في سلطانهم شيئاً من الجور والظلم إلّا ورأيته في سلطانك، وكنت ظننتُه لبُعد البلاد منك، فجعلتُ كلّما دنوت كان الأمر أعظم. أتذكر - يا أمير المؤمنين - يوم أدخلتني منزلك، فقدّمت إليَّ طعاماً ومُريقة من حبوبٍ ليس فيها لحم، ثمّ قدّمتَ زبيباً، ثمّ قلتَ يا جارية، عندك حلوى؟ قالت لا، قلت ولا التمر: قالت ولا التمر. فاستلقيتَ ثم تلوتَ: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)؟ فقد - والله - أهلك عدوك واستخلفك في الأرض، ما تعمل؟ فنكس رأسه طويلاً، ثم رفع رأسه وقال: كيف لي بالرجال؟ قلت: أليس عمر بن عبدالعزيز كان يقول: إنّ السلطان بمنزلة السوق يُجلب إليها ما ينفق فيها، فإن كان بَراً أتوه ببِرّهم، وإن كان فاجراً أتوه بفجورهم؟

فأطرق - المنصور - طويلاً. فأموما إليَّ الربيعُ أن أخرج. فخرجتُ وما عُدتُ إليه.

وهذه الموعظة تمتاز عن الوعظ الشائع الذي يستمد من أخبار الأُمّم البائدة، بأنّها تستمد من حياة الرجل الذي يُراد وعظه، وتسوق مثالاً من سيرة أحد خلفاء الدولة التي كان أبو جعفر المنصور حريصاً على إسقاطها. ثم إنّها تبيّن مدى صلابة مواقف بعض علماء الدِّين في مواجهة الظلم دون أن تأخذهم في الله لومة اللائم، أو الخشية من بطش الحاكم.

وأحياناً كان الوعّاظُ يُلمّون بقصور الخلفاء ويغشون مجالسهم، فيُلقون المواعظ على اسماعهم. فمن ذلك أنّ أحد الزهّاد دخل على المنصور، فقام بين يديه، وقال: إنّ الله قد أعطاك الدنيا بأسرها، فاشترِ نفسك ببعضها، واذكر ليلة تبيت في القبر لم تبت قبلها ليلة، واذكر ليلة تمخّض عن يوم لا ليلة بعده. فأفحم المنصور، وأمر له بمالٍ. فقال: لو احتجت إلى مالك ما وعظتك.

وكان بعض الخلفاء يتخذ لنفسه واعظاً خاصاً، يستدعيه كلّما حَزَبَه أمر من الأمور، ويطلب منه أن يعظه. فكان أبو جعفر المنصور يأنس لمواعظ عمرو بن عبيد، ويرسل في طلبه ليسمعها منه. وحدث أن بعث إليه ذات مرة فجاءه، فأمر له بمالٍ، فأبى أن يقبله، فقال له المنصور: والله لتقبلنّه. فقال: والله لا أقبله. فقال له المهدي: قد حلف أمير المؤمنين. فقال: أمير المؤمنين أقوى على كفّارة اليمين من عمّك. فقال له المنصور: سل حاجتك. قال: أسألك ألا تدعوني حتى آتيك، ولا تعطيني حتى أسألك. فقال المنصور: علمتَ أني جعلتُ هذا - يعني المهدي - وليَّ عهدي. فقال: يأتيه الأمر يوم يأتيه وأنت مشغول.

وكذلك فعل أبو عبدالله المهدي إذ اتّخذ من صالح بن عبدالجليل واعظاً له، يحرص على سماع مواعظه. دخل صالح على المهدي مرة، فقام بين يديه، وقال له: إنّه لمّا سهل علينا ما توعر على غيرنا من الوصول إليك، قمنا مقام الأداء عنهم وعن رسول الله (ص) بإظهار ما في أعناقنا من فريضة الأمر والنهي عند انقطاع عُذر الكتمان، ولا سيّما حين اتّسمت بميسم التواضع، ووعدت الله وحملةَ كتابه إيثار الحقّ على ما سواه، فَجَمَعَنا وإيّاك مشهد من مشاهد التمحيص. وقد جاء في الأثر: مَن حجب الله عنه العلم عذّبه على الجهل، وأشدُّ منه عذاباً من أقبل إليه العلم فأدبر عنه. فاقبل - يا أمير المؤمنين - ما أُهدي إليك من ألسنتنا قبول تحقيق وعمل، لا قبول سمعة ورياء. فإنّما هو تنبيهٌ من غفلةٍ، وتذكيرٌ من سهوٍ. وقد وطّن الله - عزّوجلّ - نبيّه على نزولهما. فقال تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأعراف/200).

وكان لهارون الرشيد واعظ مشهور هو أبوالعباس محمّد بن صبح العجلي المعروف بابن السماك، وكان الرشيد يجلّه ويبالغ في احترامه وتقديره، ويلاحقه بالمطالبة بالموعظة. دخل عليه مرة، فلمّا وقف بين يديه قال له: عظني يا ابن السماك وأوجز. قال: كفى بالقرآن واعظاً - يا أمير المؤمنين -، قال الله تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (المطففين/1-6). هذا - يا أمير المؤمنين - وعيدٌ لمن طفّف في الكيل، فما ظنُّك بمن أخذه كلّه؟

وقال هارون الرشيد مرة أخرى لابن السماك: عظني. قال: كفى بالقرآن واعظاً، يقول تبارك وتعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ) (الفجر/ 6-8).

وروي أنّ ابن السماك دخل على الرشيد يوماً، فاستقى، فاتي بكوز، فلمّا أخذه قال له ابن السماك: على رسلك - يا أمير المؤمنين -، لو مُنعتَ هذه الشربة، بكم كنت تشتريها؟ قال: بنصف مُلكي. قال: اشرب هَنّأك الله تعالى. فلمّا شربها قال: أسألك لو مُنعتَ خروجها من بدنك بماذا كنت تشتري خروجها؟ قال: بجميع مُلكي. قال: إنّ مُلكاً قيمتُه شربة ماء وبَولةٌ لجديرٌ ألا يُنافَسَ فيه. فبكى هارون بكاء شديداً.

وكثيراً ما كان يطلب من العبّاد والزهّاد أن يعظوه بايجازٍ أو بتفصيل، على حسب الحال. قال مرة لمنصور بن عمار: عظني وأوجز. فقال: يا أمير المؤمنين هل أحد أحَبُّ إليك من نفسك؟ قال: لا. قال: إن أردتَ ألا تُسيء إلى مَن تُحبُّ فافعل.

وقال الرشيد مرة لشيبان: عظني. قال: لأن تصحب مَن يخوفك حتى يدركك الأمنُ خيرٌ لك من أن تصحب مَن يؤمنك حتى يدركك الخوف. فقال الرشيد: فَسّر لي هذا. قال: مَن يقول لك أنت مسئول عن الرعية فاتق الله، أنصحُ لك ممنّ يقول أنتم أهل بيتٍ مغفور لكم، وأنتم قرابة نبيّكم (ص). فبكي الرشيد حتى رحمه مَن حوله.

 

المصدر: كتاب فنون النثر في الأدب العباسي

ارسال التعليق

Top