من دراسة للنصوص الإسلامية الواردة بشأن المرأة سواء أكانت مفاهيم أو تصوّرات أو أحكاماً وآداباً نجدها تتخذ مسارين:
1 ـ المسار الإستراتيجي العام الذي يحرص الإسلام الحنيف على البلوغ بالمرأة إلى مستواه الأقصى في المجتمع والحضارة وقد عبّر القرآن الكريم عن هذا التوجه المُتبنى في أكثر من نص صريح كقوله تعالى في تقرير حقيقة خلق الرجل والمرأة وأنّهما جنس واحد متكامل في حقيقة تكوينهما: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء/ 1).
وهذا النص القرآني الكريم إعـلان صريح بخطأ كافة التصوّرات والأفكار والقواعـد التي تعارف عليها المجتمع بشأن المرأة ورفضه للنظرة الضالّة الشائعة عن خلقها وتكوينها وموقعها في الحياة الإنسانية مما تصوّرته الجاهليات العربية واليونانية والرومانية والفارسية والمصرية قبل بزوغ نور الإسلام العظيم وتأسيساً على هذه النظرة الإلهية المباركة للمرأة تأتي تفصيلات الأحكام والفرائض والمفاهيم والرؤى حول المرأة كقوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل/ 97).
(وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة/ 72).
(وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة/ 228). (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) (النساء/ 7).
2 ـ المسار المرحلي المحكوم بالظرف الفعلي: وهذا المسار يشتمل على مجمـوعة من الأحكام والمعالجات لواقع المرأة ضمن المفاهيم والأعراف السائدة في عصر التشريع ريثما يحقق الإسلام الحنيف عملية التغيير الاجتماعي الشامل باتجاه أهدافه المتوخاة على مستوى تغيير أفكار الناس وتصوّراتهم وأعرافهم الاجتماعية وغيرها كأحكام الإماء في الزواج والدية وما إلى ذلك من أمور..
وهذا المسار في المرحلية ربما ينفعنا كثيراً في تصوّر كيفية تعامل الإسلام، ودعاته مع العادات والأعراف الموروثة التي تعيشها شعوب العالم المختلفة، هنا، وهناك، وكيف تجري عملية تكييف تلك العادات والأعراف، والمفاهيم السائدة مع القيم الإسلامية، في حركتها باتجاه صناعة الحضارة الإسلامية وفقاً لظروف أي بلد من البلدان، أو أُمّة من الأُمم.
إنّ الباحث لمكانة المرأة في المجتمع الإسلامي السليم ودورها في الحضارة الإسلامية الفاضلة لابدّ أن يدرك هذه المسارات فيميّز ما هو إستراتيجي من قيم الإسلام ومعالجاته وما هو مرحلي موقت محكوم بالظروف التي يعيشها الإنسان في عصر التشريع كأوضاع موروثة من المجتمعات السابقة يسعى الإسلام لعلاجها أو تكييفها أو إلغائها رويداً، رويداً لأنّ بعض القيم والعادات ليس بمقدور أية شريعة أو قانون أن يلغيها بشكل كامل بقرار سريع وإنما لابدّ من معالجـات وحلول تمارس التدرج والمرحلية في خطتها وحركتها في الواقع، تماماً كمشكلة الرق الذي واجهته الرسالة الإسلامية كواقع قائم مضت عليه قرون طويلة فوضعت له المعالجات الآنية بما هو أمر قائم مع مباشرة العملية التغييرية المتدرجة الواسعة لإزالته من الواقع الاجتماعي في حياة الناس لتحقيق المفهـوم المبدئي العام للإسلام القائم على أساس أنّ الناس سواسية وأنّ أكرمهم عند الله أتقاهم وأن الحرّية حقّ طبيعي لكلّ إنسان يعيش على ظهر هذا الكوكب.. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/ 13).
وهكذا كانت قضية المرأة في الحضارة الإسلامية الفاضلة، تخطيط للمستقبل، وعلاج لمشاكل الحاضر الموروث وأعرافه..
إنّ هذه النظرة الإسلامية الواقعية لشؤون المرأة وكيفية التعامل معها تعيننا أيضاً في اعتماد طريقة مناسبة لمعالجة وضع المرأة القائم في مجتمعاتنا اليوم، حسب ظروف تلك المجتمعات، فقد نصل في بعض المجتمعات إلى معالجات أنسب لأوضاع المرأة قبل مجتمعات أخرى، وذلك بسبب ظروف تلك المجتمعات وظروف نفس المرأة فيها من ناحية الثقافة والتأثّر بالحياة القبلية القديمة المغلقة أو الحياة الغربية المنفتحة، ولذا فالتجربة الإسلامية قد تؤتي ثمارها في هذا المجتمع قبل ذلك المجتمع، وقد تحتاج التجربة الإسلامية المعاصرة إلى نماذج متعدِّدة للتعامل مع هذه المسألة الهامة، حسب طبيعة المجتمعات وظروفها.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق