أعتقد انّه لا حاجة لتوضيح هذه المسألة وهي انّ المقصود من القلب في التعبير العرفاني والأدبي، ليس ذلك العضو اللحمي الذي يقع في القسم الأيسر من الجسم والذي يقوم مثل المضخة، بضخ الدم إلى الأوردة والشرايين. على سبيل المثال يقول القرآن في الآية التالية:
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) (ق/ 37).
والواضح انّ المقصود من القلب، حقيقة متعالية وممتازة تتباين كلياً مع هذا العضو من الجسم، ومثلما يشير القرآن إلى أمراض القلب قائلاً:
(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) (البقرة/ 10).
فإن طبيب الأمراض القلبية غير قادر على معالجة هذا المرض. وإذا استطاع طبيب ما ان يعالج مثل هذه الأمراض فهو بدون شك يجب ان يكون متخصصاً في الأمراض الروحية.
تعريف القلب:
إذن فما هو المقصود من القلب؟
الإجابة على هذا السؤال، تكمن في حقيقة وجود الإنسان، فالإنسان علاوة على كونه موجوداً واحداً، له مئات وآلاف الأبعاد. و"النفس" الإنسانية عبارة عن مجموعة كبيرة من الأفكار، والأحلام، والمخاوف، والآمال، والحب و... جميع هذه الأشياء تلتقي في نقطة واحدة مثل الأنهار والجداول. ومثل هذه النقطة تعتبر بحراً عميقاً بحيث ان أي إنسان واعٍ لم يدع لحد الآن معرفته بأعماق ذلك البحر. والعرفاء والفلاسفة وعلماء النفس تعمقوا في هذا البحر واستطاع كلّ واحد منهم أن يكتشف أسرار ذلك البحر إلى حد ما. ويحتمل أن يكون نجاح العرفاء أكثر من غيرهم في هذا المجال. إن ما يسميه القرآن بالقلب، عبارة عن حقيقة ذلك البحر، حيث ان ما تسميها بالروح الظاهرية ليست الا جداول وانهاراً تصب في هذا البحر. حتى انّ القلب يشكل بدوره نهراً يصب في هذا البحر.
وعندما يتحدث القرآن عن الوحي، فإنّه لا يتحدث عن العقل مطلقاً ذلك إن حديثه ينحصر عن قلب الرسول (ص) فقط، وبعبارة أخرى انّ القرآن لم يُخْلَق بقوة عقل النبي واستدلاله العقلي بل ان قلب الرسول (ص) هو الذي وصل إلى حالة غير قابلة للتصور بالنسبة لنا بحيث حصل في تلك الحالة على استعداد لإدراك ورؤية تلك الحقائق المتعالية. وتبين آيات سورة النجم وسورة التكوير إلى حد ما، كيفية هذا الارتباط.
عندما يتحدث القرآن عن الوحي والقلب فإن بيانه يتعدى العقل والفكر لكنه ليس ضدهما. وفي هذا المجال يبين القرآن نظرة أكبر من العقل والإحساس بحيث انّ العقل لا يدخلها أساساً ويعجز عن إدراكها.
خصائص القلب:
يشكل القلب بنظر القرآن، آلة للمعرفة أيضاً، حيث انّ الجزء الأكبر من حديث القرآن يخاطب قلب الإنسان. حديث لا يستطيع سماعه سوى إذن القلب ولا يمكن لأذن أخرى سماعه. وعلى هذا الأساس يؤكد القرآن كثيراً على حفظ وحراسة وتكامل هذه الآلة. ونرى في القرآن آيات كثيرة تتحدث عن تزكية النفس ونور القلب وصفائه:
(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) (الشمس/ 9).
(كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين/ 14).
وحول نور القلب يقول القرآن:
(إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) (الأنفال/ 29).
أو انّه يقول في آية أخرى:
(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت/ 69).
ويتحدث القرآن كثيراً عن هذه الأعمال اللامرغوبة التي يقوم بها الإنسان والتي تُمرض روحه وتأخذ منها الجذب والميول الطاهرة. فهو يقول على لسان المؤمنين:
(رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) (آل عمران/ 8).
او انّه يقول:
(كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين/ 14).
(فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) (الصف/ 5).
(خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) (البقرة/ 7).
(وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) (الأنعام/ 25).
(كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ) (الأعراف/ 101).
(فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد/ 16).
وجميع هذه التأكيدات تبين انّ القرآن يقيم جواً روحياً ومعنوياً رفيعاً للإنسان، ويرى من الضروري ان يحافظ الإنسان على هذا الجو النزيه والسليم. وبالرغم من ان محاولات الإنسان في الأجواء الاجتماعية غير النزيهة تبقى فاشلة ودون جدوى، الا انّ القرآن يؤكّد على انّ الإنسان يجب أن يسعى لتطهير وتزكية محيطه الاجتماعي. ويؤكد القرآن كذلك انّ الحب والإيمان والأفكار والميول المتعالية وتأثيرات القرآن ونصائحه و... كلّ هذه الأشياء تتوقف على ان يبقى الإنسان والمجتمع الإنساني بعيدين عن الرذالة والدناءة وحب الأهواء والشهوات.
ويولي القرآن أهمية بالغة لتعالي ونزاهة روح المجتمع، حيث يقول في إحدى آياته:
(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة/ 2).
استفت قلبك وان افتاك المفتون:
صبّ الشاعر هذا القول في شعره حيث يقول في أحد أبياته:
استمع لقول الرسول (ص) استفت قلبك *** حتى وأن كان المفتى – خارجاً – قد أفتى فضولاً بخلافه
ويقول في بيت آخر ما يشبهه.
يؤكد النّبي انّ الإنسان إذا كان يطلب الحقيقة ومحايداً ومخلصاً لكشف الحقيقة فإن قلبه سوف لن يخونه مطلقاً بل سيهديه إلى الطريق الصحيح. وطبيعي انّ الإنسان الذي يبقى يبحث بصدق عن الحق والحقيقة ويخطو في طريق الحق فإنّه يصل إليهما. وعندما ينجرف الإنسان إلى الضلالة فإنّ السبب يكمن في انّ الإنسان اتخذ منذ البداية موقفاً خاطئاً ولم يكن يبحث عن حقيقة خالصة. لقد أجاب الرسول (ص) على سؤال شخص سأله عن معنى البرّ موضحاً له انّه لو كان يبحث عن البرحقاً فمتى ماهدأ قلبه بشيء وارتاح له فليعلم بان ذلك هو البر، لكن متى ما أحب شيئاً ولم يهدأ قبه فليطمئن بأنّ ذلك هو الإثم.
وفي مكان آخر يسألون النبي (ص) عن معنى الإيمان فيرد عليهم بانّ الإنسان يشعر بعدم الارتياح والندم عند الاثم وبالسعادة عند العمل الحسن باعتبار انّه يمتلك الإيمان.
وينقل عن الإمام الصادق (ع) انّه عندما يتحرر الإنسان من مشكلة حب الدنيا فإنّه يشعر في قلبه بحلاوة حب الله. وفي مثل هذه الحالة تبدو له الأرض وكأنها غير الأرض ويرغب بكامل وجوده أن يتحرر من عالم المادة هذا وينفذ إلى الخارج. وهذه حقيقة أثبت صحتها أولياء الله ورجاله من خلال حياتهم.
وانّ تعليمات القرآن تؤكد على ان صقل القلب يرفع من شأن الإنسان، وعليّ أمير المؤمنين (ع) يقول: "لو كشف لي العظاء ما ازددت يقيناً". إن ما يؤكد القرآن عليه في تعليماته هو تربية الأشخاص الذين يملكون سلاح العلم والعقل ويستخدمون سلاح القلب في طريق الحق بأسلوب أفضل.
المصدر: كتاب التعرف على القرآن الكريم
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق