يدخل مفهوم كلمة أمن في تناقض وتضاد مع الخوف والقلق والتوجس واللااستقرار، وإذا ربطنا الكلمة بما هو مسرحي، فقد نقصد الخوف أو اللااستقرار على مستوى جانب من جوانب الشأن الثقافي العام الذي لا شك في أن من بين أهدافه البعيدة تحقيق قدر ممكن من الاستقرار والطمانينة المنشودة لدى الناس.
لا مجال لحياة في أي بلد كيفما كان، أن تتجرد نسبياً أو كلياً من الحس الثقافي عامة، أو مما هو مسرحي على وجه الخصوص.
ما المقصود بالأمن المسرحي، وهل بالإمكان أن يحقق هذا الفن نوعاً من الأمن للناس، أم إنه فقط تعبير مجازي لا صلة تربطه بالواقع الحقيقي؟.
كان المسرح ولايزال فناً تعبيرياً من أعرق الفنون التي عرفها الإنسان في تاريخه الطويل، حيث شهدت أعرق الحضارات الإنسانية طقوساً احتفالية معيّنة، بصمت على طرائق عيشها وعبرت من خلالها على مناحي حياتية، ترجمت في إرثها الحكائي وفي تعابيرها النحتية أو حفرياتها أو فيما حفظه التاريخ انطلاقاً من أن المسرح يعبّر عن دواخل الإنسان المدفوع بغريزة المحاكاة، والنسج على منوال مكونات الطبيعة، وما تزخر به من ظواهر وصور ومشهديات تؤثر في الإنسان وتأسره لكي يتمثلها ويعيد تركيبها وتصويرها عن طريق التمثيل.
لذلك فالمسرح، كفنًّ إنساني، ظل لصيقاً بقضاياه وهمومه وانشغالاته الدينية والدنيوية، لاسيما أن البدايات تشير إلى أن المعابد كانت مسرحاً يحتضن العروض الأولى التي كان أبطالها من الكهنة، ومن ثم اكتسب الفن المسرحي طابعاً طقسياً مقدساً، وشيئاً فشيئاً تدرج وتطور من العصر الإغريقي إلى العصور الوسطى في أوربا، لكي يتخلص تدريجياً من هيمنة السلطة الدينية أو وصاية الكنيسة، فيصبح معبّراً عن قضايا ذات صلة بالاجتماع أو السياسة أو الفكر.
الإنسان هو المحرك
في حضور المسرح حضور للإنسان وانتعاش لمخيلته، وتعبير صارخ على وجوده الحضاري الذي يمتد عبر التاريخ إلى الامتداد، وفي غيابه تغييب البحتة او حفريات لشرط أساس هو المحرك للفعل المسرحي، ألا وهو هذا الإنسان الذي يمثّل من جهة، ثم يتلقى ويتفاعل من جهة أخرى، وبناء عليه لن نستطيع أن نتصور مسرحاً بلا إنسان، والعكس صحيح، فلا وجود لإنسان بلا مسرح.
من خلال هذه المعطيات، أمكن القول إن المسرح هو الذي يتسم بهذه العراقة الأصيلة المرتبطة بالتحام حميم بين الفن والفنان معاً، لأن أحدهما يضمن أمن واستقرار الآخر، فبالمسرح يشعرالإنسان بعدم الخوف ويحس بكونه موجوداً وجوداً آمناً، لأن الأمن لا يتأتى فقط من خلال اللاحرب واللافوضى، ولكن يمكن أن يكون عن طريق إشباع النفس بالفنون المختلفة ومن بينها المسرح، فكيف ستستكين النفس البشرية هذه التي تبدع المسرح، وتستمتع به كممثل ومتلق في آن واحد، وهي بعيدة كل البعد عن الحس المسرحي الذي يعبر عن الحياة والحركية والتغيير؟.
إننا نجد في غايات المسرح بعداً أمنياً، يجعل من الروح المحتفى بها أو التي تقدم الاحتفالية إليها آمنة، ذلك أنه إذا كانت الدولة الراعية للإنسان، والضامنة لحياته وكرامته وأمنه واستقراره في كل مناحي الحياة؛ تغذية وروحاً وأمناً جسدياً ونفسياً، فإن من واجب هذه الدولة الوصية أيضاً أن تكفل لهذا الإنسان المواطن حقه المشروع في الحياة الثقافية المسرحية على وجه الخصوص، بأن تشبع روحه بهذا المتنفس الثقافي، لكي يطمئن للفنون ويتشبع بقيمها ومثلها ومبادئها، وما ترمي إليه من رسائل إنسانية نبيلة، قصارى غاياتها أن تكون بلسماً للروح وأمناً آمناً لها في الرخاء، وبأن ضمان هذا الأمن المسرحي للإنسان، فيه ضمان لإنسانيته التي لا تكتمل إلا وهي مشبعة من معين الفنون ومن بينها المسرح، الذي هو الحياة تتحرك على الركح.
غذاء الروح
إن المسرح إذاً، غذاء للروح وأمن لها، فمن خلال رسائله النبيلة لا شك في أننا نجد الإحساس أو الشعور بحب الوطن، وتحبيب القيم وترسيخها لديه، حتى يكون فاعلاً إيجابياً في النهوض بوطنه وبأمته إلى الآفاق المنشودة.
ففي ظل مسرحنا العربي وواقعه الذي لا يرتقي كثيراً مقارنة مع نظيره الغربي، سيظل الخوف قائماً والتوجس حاضراً، لأن ما يقدمه العرض المسرحي العربي عموماً، لا يضع في الحسبان انتظارات المتلقى وانشغالاته اليومية، ذلك أن ما يقدم من عروض مسرحية في مجموعها، لا تمتلك خصوصيتها الثقافية المعبّرة عن الإنسان العربي، لأنها قد تكون دخيلة على ثقافته وقيمه ومبادئه، ومن ثم فقد لا تشكل إضافة حقيقية لافق انتظاره، وهي قد تكون في جانب من جوانبها مجرد تسكين يجعل المتلقي ضمن أثاث المشهدية المسرحية، باعتباره أساساً من أساساتها، فهذا المتلقي يصبح في موقف حرج لا يحسد عليه، فإما أن يواكب المستجد المسرحي على مستوياته المخيبة، وإما أن يقطع مع هذا الفن، وبالتالي يغدو بلا ثقافة أو ذوق أو ميل فني يربطه بهذا المسرح.
إن العرض المسرحي العربي بتعدد انتماءاته ومدارسه وتياراته، إنما هو عرض للمتلقي العربي، وبذلك فمن أولويات هذا العرض أن يعتمد على قراءات وانتقادات هذا المتلقي باعتباره هو من يستقبل ما يقدم، وهو من يكلف نفسه عناء اقتناء تذاكر الدخول إلى المسارح وقاعات العروض، وهو من بإمكانه أن يقول نعم أو لا لكل منتج مسرحي، سواء تعلّق الأمر بما هو مكتوب أو بما هو مرئي ومسموع.
مبدأ الالتزام
لقد أصبح المسرح في ظل العولمة، وبعد انصرام عهد المسرح الهاوي، الذي أُسست على أكتافه النشأة الفعلية للمسرح خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، مجرد عرض يخلو في مجمله من ذلك الخيط الناظم الذي يصل المتلقي بواقعه، وبمحيطه الاجتماعي والسياسي والفكري، لأنه ربما قد تخلى عن مبدأ الالتزام في إبداعه المسرحي، ولم يعد يستجيب لحرارة الحراك الاجتماعي، وما ينجم عنه من أفكار وقضايا هي في صميمها ما يمكن للمسرح أن يضطلع به.
لقد عبّر المسرح العربي في مرحلة من مراحله عن توفقه في الاستجابة لمطامح المتلقي وانتظاراته، لكنه في ظل عنف عولمي ربما يحمل في طياته وجهه السلبي والمسكوت عنه، انزاح عن المطلوب، وأصبح يقدم عروضاً تفتقد الحرارة المطلوبة، والمضمون القوي الذي يعكس مضمون المجتمع وقضاياه، لأن تلك العروض قد تكون اقتباسا بارداً، أو ترجمة جوفاء، أو إعدادا مفككاً، أو كتابة درامية تعوزها الموهبة وروح المهنة وحرقتها، لذلك نجد المسرح المعروض لا يتململ إلا نادراً من أجل تقديم عروض مشتهاة، أو فرجات تشفي بعضاً من الغليل في ذواتنا كمتلقين، أما ما عدا ذلك فتكريس الموجود ليس إبداعاً، ولم يكن إبداعاً قط، لأن الإبداع الأصيل والحق هو ذلك الذي يتمرد من أجل التجديد الخلاق، وهو الذي لا يتأبى على التفكير البناء في طرائق إبداعية كفيلة بإخراج واقع مسرحي عربي من أزمته، وجعله فعلاً مسرحياً وثقافياً إنسانياً، ينشر الأمن ويرسخ لثقافته في الكتابة وفي العرض، كما يعبر عن هموم وقضايا المتلقي العربي، ويجيب معه عن الأسئلة الكائنة والممكنة، ويفكر معه في الحلول التي بالإمكان أن تستجيب لطموحاته وانتظاراته.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق