فالأدب ليس هو هذه اللحظات العذبة الجميلة، التي نستمرئها، ولا تلك الإرهاصات المجنحة الطموح التي نستشعرها، فحسب، بل هو أيضاً هذا العمل الخلفي الدؤوب. الذي نجد فيه تعميق الحياة وتكثيف الزمن، واستنفار الحواس وتوتر الأعصاب. فقراءة صفحة أدبية ما هي إلا تراكم من الزمن، وعامود طويل من الجهد والعناء. إن بناء الكلمات لأتعب بكثير من بناء الحجارة. وإن ابتكار الصور واشتقاق المعاني لأصعب من شق الصخر. فدقيقة واحدة من القراءة يبيت لها الأديب ساعات وساعات، وهو مؤرق مشدود ذاهل يتجول في مخبؤات بواطنه وتجليات ذهنه الكزوز. يستلهم. يستشرف يرفض. يبذل، حتى يصل إلى بؤرة همومنا. فيحدثنا عن ذواتنا. ويستشف حدوسنا. ويلامس الجوانب الخفية فينا. أو يجد الشيء الضائع منا. يدلنا عليه ويضيفه إلى وجودنا. يحكي لنا قصة ذاك الحيوان الأزلي، القابع فينا، المعذب في إنساننا، والمضغوط بأثقال الوعي وأوجاع التبكيت والقسر. ولعمري. الغوص في أعماق المجهول، والتفتيش عن الأشياء المفقودة من قسمنا الإنساني الأعظم، أو إيجاد الأجزاء الناقصة من نفسنا الكبرى، التي نستكمل بها جميعاً شخصيتنا لهو عمل شاق. ولكنه سام وفوق العادة!
المصدر: كتاب (في معنى العمل – ومدلولات أخرى في التربية والفن والمنطق العلمي)مقالات ذات صلة
ارسال التعليق
تعليقات
احمد محمد
بصدق شدتني هذه الكلمات النابضة وهذا التعبير الشيق والاسلوب الراقي المنمق في تصوير الادب بهذه اللغة الجميلة حتي ان الانسان عندما يقرأ هذه الكلمات يغوص في اعماقه ليستخرج حلل العبارات وجواهرها المخزونة لعيبر ولو بجملة الادب فن وذوق راقي وعالي وابداع لايصفه قلم مهما عبرنا وعبرنا مدى الدهر والايام.