• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

لنجعل شهر رمضان فرصة لإعادة التواصل مع الأرحام

لنجعل شهر رمضان فرصة لإعادة التواصل مع الأرحام

◄قال الله تعالى في كتابه العزيز: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النِّساء/ 1).

أهميّة صلة الرَّحم

إنّ من أهمّ مزايا هذا الشهر المبارك، هو دعوته لتعزيز التواصل بين الأرحام، وإلى هذا، أشار النبيّ (ص) في خطبته في استقبال شهر رمضان: «ومَن وصل فيه رحمه، وصله الله برحمته يوم يلقاه»، وحذّر: «ومَن قطع فيه رحمه، قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه»، فهذا الشهر هو شهر التواصل مع الأرحام.

ولا يقف اهتمام الإسلام بصلة الرَّحم على شهر رمضان، فقد احتلّت صلة الرَّحم منزلة كبيرة في المنظومة التربوية الإسلامية، وقد أولاها القرآن الكريم والأحاديث الشريفة عناية كبيرة، ترغيباً فيها، وحثّاً عليها، وتحذيراً من عواقب تركها وقطعها.

والأرحام كمصطلح لغوي، استمدّ من رحم الأُمّ؛ محضن الجنين، لتوحي بمعاني الرأفة والرحمة والرقّة التي ينبغي أن تحكم العلاقة بينهم. أمّا المصطلح الفقهي، فيقصد بالأرحام الوالدين في المرتبة الأُولى، ثمّ ما يتفرّع عنهما من الإخوة والأخوات وأبناء الإخوة والأخوات والأعمام والعمّات والأخوال والخالات وأبنائهم، هؤلاء جميعاً أوجب الإسلام دوام التواصل فيما بينهم، ورتّب على ذلك الأجر الكبير، فهم وصيّة الله لعباده، قرن تقواه بصلتهم، فقال عزّوجلّ: (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ)، وهم وصيّة رسول الله (ص)، وهذا ما أشار إليه الصحابي الجليل أبو ذرّ عندما قال: «أوصاني خليلي (ص) بخصال من الخير: أوصاني بحبّ المساكين والدّنوّ منهم، وأوصاني أن أقول الحقّ وإن كان مُراً، وأوصاني أن أصل رحمي وإن أدبَرَت».

وعنه (ص): «أوصي الشاهد من أُمّتي والغائب منهم ومَن في أصلاب الرجال وأرحام النِّساء إلى يوم القيامة، أن يصل الرَّحم، وإن كانت منه على مسيرة سنّة، فإنّ ذلك من الدِّين».

تنظيم الإسلام له

لقد نظَّم الإسلام الصلة بين الأقارب والأرحام، لكون هذه الصلة هي إحدى أهمّ ركائز المجتمع، فهي الرابطة الأُولى والأساس التي تُبنى عليها علاقة الإنسان بمحيطه، فأوّل ما يفتح الإنسان عينيه على أبويه، ثمّ على إخوته وعلى أعمامه وأخواله وأولادهم، وفي هذه البيئة، تنمو في نفسه مشاعر العطاء والإيثار والرحمة والتكافل والمؤازرة.

وقد رسم الإسلام الخطوط العريضة لهذه الصلة، واهتمّ بهذه المساحة المشتركة بين الأقارب، ليقيها ويصونها من أيِّ خلل يصيبها، لأنّ في هذه المساحة المشتركة تواصلاً واحتكاكاً ومعاملات وحيوات مشتركة وتقاسماً... وأيّ خلل في هذه العلاقة، لن يبقى في مكانه وإطاره بين شخصين أو ثلاثة، إنّما قد يمتدّ الخلاف ويستمرّ ويورَّث، ويصبح الحال عندها كما قال الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد:

وظُلمُ ذَوي القُربى أشدُّ مَضاضـةً على المرءِ من وَقعِ الحُسامِ المُهنَّد

أليس هذا ما يحصل في كثير من واقعنا؟! هي طبيعة البشر، لذا كان لابدّ من وقاية وحماية وعلاج في كثير من الأحيان.

أحاديث في صلة الرَّحم

العديد من الأحاديث تناولت طبيعة العلاقة التي ينبغي أن تكون بين الأرحام، فدعت إلى أن يكون التواصل هو السمة الأساسية، والاستثناء هو البرود والجفاء. فالمطلوب تنمية علاقات الرَّحم وتعزيزها بالتواصل والسلام والزيارات والاستفقاد، فقد دعا القرآن الكريم إلى أن يكون المنطق الحاكم بين ذوي القربى هو الإحسان بكلّ موارده، فقال: (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى) (النِّساء/ 36)، وقد رد في الحديث: «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرَّحم اثنتان؛ صدقة وصلة»، «صلوا أرحامكم ولو بالسلام»، «أفضل ما يوصَل به الرَّحم، كفّ الأذى عنها»، وقد بيَّنت الأحاديث قيمة صلة الرَّحم ورغَّبت فيه، عندما بيَّنت الآثار التي يتركها إن في الدُّنيا أو الآخرة.

ففي الحديث: «صلة الرَّحم تزكّي الأعمال، وتنمّي الأموال، وتدفع البلوى، وتيسّر الحساب، وتنسئ في الأجل».

وعن رسول الله (ص): «إنّ الرجل ليصل رَحِمه وقد بقي من عمره ثلاث سنين، فيمدّها الله كذلك إلى ثلاثين سنة».

وعنه (ص): «مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرِم ضيفَه، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليَصِل رَحِمهُ، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فَليقُل خيراً أو ليصمُت».

وهنا جزئية لابدّ من الإشارة إليها، وهي أنّ اختلاف الدِّين أو العقيدة أو المذهب، لا يلغي وجوب صلة الرَّحم، وهذا إنّما يدلّ على حاكمية صلة الرَّحم على الروابط أو الانتماءات الأُخرى، فهي واجبة حتى مع الرَّحم الذين يختلفون عنّا في الدِّين أو المذهب.

فقد ورد في الحديث: قلت للإمام الصادق (ع): ليكون لي القرابة على غير أمري، اللّهُمّ عليَّ حقّ؟ قال: «نعم، حقّ الرَّحم لا يقطعه شيء، وإذا كانوا على أمرك كان لهم حقّان؛ حقّ الرَّحم، وحقّ الإسلام».

صلة الرَّحم عند المشاكل

إضافةً إلى ما سبق من الدعوة إلى اعتبار صلة الرَّحم كأسلوب حياة وثقافة في الحالات العادية، نجد كمّاً كبيراً من الآيات والأحاديث تدعو إلى صلة الرَّحم في الحالات التي تعتريها مشاكل وتوتّرات وقطيعة.

ففي الحياة اليومية، قد تحدث هناك مشاكل بين الأرحام، ولأيّ سبب من الأسباب. فقد ورد في الحديث عن رسول الله (ص): «ليس الواصل بالمكافئ، ولكنّ الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها». لذا، كانت دعوة رسول الله (ص) واضحةً وحاسمة: «لا تقطع رَحِمك وإن قطعتك».

جاء رجل إلى رسول الله وقال له: إنّ لي أهلاً قد كنت أصلهم وهم يؤذونني، وقد أردت رفضهم، فقال له رسول الله (ص): «إذاً يرفضكم الله جميعاً». قال: وكيف أصنع؟ قال: «تعطي مَن حرمك، وتصل مَن قطعك، وتعفو عمّن ظلمك، فإذا فعلت ذلك، كان الله عزّوجلّ لك عليهم ظهيراً».

وقد جاء رجل إلى الإمام الصادق (ع)، فشكا إليه أقاربه، فقال (ع): «اكظم غيظك، وافعل إليهم» (أحسن إليهم)، فقال: إنّهم يفعلون ويفعلون، فقال (ع): «أتريد أن تكون مثلهم، فلا ينظر الله إليكم؟!».

إنّ انتظام علاقات الأرحام في حال وقوع التوترات والمشاكل تقتضي أمرين؛ الأوّل: وجود مَن يبادر ويسعى ويستوعب ويسحب فتيل التصعيد والقطع، ولا يهاب ردود الفعل أو الفشل، وبذلك يزيل الحواجز النفسية التي يسبّبها القطع، وبعدها يفتح الباب للعلاج بعيداً من التشنج.

والثاني: وجود مَن يتقبّل إعادة الوصل ويقبل الاعتذار، فلا يلجأ للصدّ أو التصعيد، بل يسامح وينفتح، لأنّ أيّ مشكلة، وخصوصاً في علاقات الأرحام، تحتاج إلى وعي الطرفين كي تعود إلى صفائها ومجاريها، هي تحتاج إلى تضحية، وتحتاج إلى تسامح وإلى نسيان وإلى تلقّف مبادرة.

صحيح أنّ الإسلام دعا إلى أن تصل مَن قطعك، لكنّه في المقابل، دعا الطرف الموصول أن لا يصرّ على القطيعة، وإلّا فإنّه قاطع لرحمه مرّتين. بعض الناس – للأسف - يمنعهم كبرياؤهم وعنادهم وعدم رغبتهم في التراجع من الصلح، ويصرّون على نبش المشكلة وعلى المحاسبة وعلى العقاب وتدفيع الثمن. للأسف، هؤلاء يوقعون أنفُسهم في محظور القطيعة، وأيّ محظور هو!

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمّد/ 22-23).

وقد ورد عن الإمام عليّ (ع): «أعوذ بالله من الذنوب التي تعجِّل الفناء»، فقام إليه أحد أصحابه، فقال: أوتكون ذنوب تعجِّل الفناء؟ فقال: «نعم، وتلك قطيعة الرَّحم». وقد ورد في الحديث: «إنّ الرحمة لا تنزل على قومٍ فيهم قاطع رحم».

واجب الحفاظ عليه

إنّ صلة الرَّحم علاقة ثمينة، علينا أن لا نفرِّط بها إهمالاً أو استخفافاً أو لامبالاةً، بحجّة ضغوطات الحياة والمشاغل، كما لا ينبغي أن تخرَّب هذه الصلة بالابتزاز العاطفي والاستغلال والطمع والظلم والأذى، وهذا إساءة إلى هذه القيمة الدينية والإنسانية الكبرى، فيما المطلوب أن يتّقي الناس الله في أرحامهم.

بقيت نقطة أُخرى ممّا يُساء فيه تطبيق صلة الرَّحم، عندما تتحوّل صلة الأرحام إلى عصبية القرابة والدم، وتطغى على القيم والعدالة.

عن رسول الله (ص) أنّه قال: «انصرْ أخاك ظالماً أو مظلوماً». قالوا: يا رسولَ اللهِ، هذا نَنصرُهُ مظلوماً، فكيف ننصرُهُ ظالماً؟ قال: «تأخذُ فوقَ يديهِ». وفي حديث آخر، قال: «تحجِزُهُ عن الظلمِ، فإنَ ذلك نَصرُهُ». إذاً المساندة والتكاتف والمؤازرة مطلوبة، ولكن ليس على حساب العدل والحقِّ والحلال.

ليكن شهرَ التواصل

فلنجعل هذا الشهر شهر إعادة التواصل مع أرحامنا، وشهر تعزيز التواصل معهم بكلّ سُبُل التواصل؛ بالزيارات، وبالإعانة، والمساعدة المادية والمعنوية، وبكلّ ألوان الصلة، وحتى بالسلام والرسائل. وهذا أقلّ ما هو مطلوب منّا في مجتمع نخشى أن نفقد دفء هذه العلاقة، ونشهد سيطرة المصالح الشخصية والفوائد المادية على ما سواها.

كتبنا الله من المتواصلين في شهر رمضان، وفي كلّ الشهر، وندعو بدعاء الإمام زين العابدين (ع) في مكارم الأخلاق: «اللّهُمّ صلِّ على محمّد وآله، وسَدِّدْني لأن أُعارضَ مَن غشَّني بالنُّصحِ، وأجزِيَ مَن هجرَني بالبرِّ، وأُثِيبَ مَن حَرَمَني بالبَذلِ، وأُكافِيَ مَن قَطَعَني بالصلةِ، وأُخالِفَ مَن اغتابَني إلى حُسنِ الذِّكرِ».►

ارسال التعليق

Top