• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

قصة النبي يوسف (ع).. لماذا سُميت بأحسن القصص؟/ ج(2)

عمرو خالد

قصة النبي يوسف (ع).. لماذا سُميت بأحسن القصص؟/ ج(2)

◄سباقُ الطاعة والمعصية:

(وَاسْتَبَقَا الْبَابَ) (يوسف/ 25)، انظر إلى هذا التصوير القرآني الجميل، إنّه يصور لك هذا السباق ناحية الباب. هي تسابق الباب كي تطلبه، وهو يسابق الباب هرباً منها، ثمّ انظر... أهو باب واحد أم أبواب؟ إنها أبواب كثيرة. لقد ظل يفتح باباً تلو باب وهي تحبو خلفه، تريده. انظر إلى هذا الانحطاط من المرأة. فإذا فقدت المرأة حياءها فقد فقدت كل شيء. إياك أن تذلي نفسك للمعصية.

(وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) (يوسف/ 25)، من الذي سبق؟ إنّه هو بدليل أنها مزقت قميصه من الخلف. أيهما أسبق الطاعة أم المعصية؟ إنها الطاعة...

أيها الشباب، أيهما أسبق في قلبك. الطاعة أم المعصية؟ وهل أخذت قرارك بقطع علاقتك الحرام؟

(وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ) (يوسف/ 25).

ماذا تقول لزوجها عندما رأته؟

(مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (يوسف/ 25).

من المفترض أنها تسأل فقط (ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً؟)، ولكنها سألت وحكمت عليه في نفس الوقت بالسجن والعذاب الأليم... من يحاول الاعتداء عليها واغتصابها ما جزاؤه؟... إنّه القتل ولكنها لم تقل: يقتل... لأنها ما زالت متعلقة بهذا الأمل، إنها ترهبه فقط علَّه يلين، إنها لا تخاطب زوجها، ولكنها تخاطب يوسف وتنظر إليه (إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). وبدأت بالسجن قبل العذاب، لأنّ السجن قد يكون أهْوَن من العذاب...

 

-       حب أم شهوة:

يقولون: إن من يحب لا يكره! ألم تقل امرأة العزيز: (مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، كانت تحبه وتعشقه، أهكذا يكون الوفاء؟ بمعنى: هل كان حبّاً أم شهوة؟ لقد كانت شهوة بدليل أنها فضحته عندما انكشف أمرها.

فرد سيدنا يوسف قال: (هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) (يوسف/ 26)، معنى هذا أن نفسه يصعب الوصول إليها، فهو يملكها ويسيِّرها وفق مراد الله.

(وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا) (يوسف/ 26)، هل حضر هذا الشاهد ورأى هذه الفضيحة أم جاء به العزيز ليشهد الواقعة؟ ولكن هل سيفضح العزيز نفسه بإحضار شاهد؟ إذاً ما الأمر؟...

لم يعرف بهذه القصة إلا أربعة فقط هم: العزيز، وامرأة العزيز، ويوسف، والشاهد، فالعزيز يخشى أن يمس وضعه الاجتماعي، فقال لسيدنا يوسف: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) (يوسف/ 29)، لا تتحدث في هذا الموضوع ثانية، ولا تخبر به أحداً، وقال لزوجته: (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) (يوسف/ 29).

انظر إلى هذا التصرف الغريب من العزيز! أهذه هي أقصى درجة في علاج هذه الفضيحة؟ نعم، لأنّه يخشى على وضعه الاجتماعي فهو وزير الخزانة... أمكانتك الاجتماعية أعز عليك من فاحشة بيتك؟ والعزيز قد تَسَتّر على الجريمة وقبل الدياثة في بيته، فإذا بنساء المدينة كلهن يفضَحْنَه (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ) (يوسف/ 30)، فإياك أن تتنازل عن الأخلاق في مقابل وظيفتك أو المال. فلا تقل: الوضع الاقتصادي ضعيف وأنا بحاجة إلى مال. فإنّ الله سبحانه وتعالى سيكرمك ويعزّك ويرفع مكانتك كما فعل مع سيدنا يوسف (ع).

 

-       نار الغيبة:

(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (يوسف/ 31).

(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ) وكيف سمعت امرأة العزيز بمكر نسوة المدينة؟... لقد انتشر الأمر، وبدأ الناس يتداولون الكلام فيما بينهم بسهولة.

(أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً)، الواضح أنّ هؤلاء النسوة من الطبقة الراقية، وقالت امرأة العزيز إليهنّ: لقد أعددت حفلاً، وأتمنى أن تزُرْنَني في بيتي (وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا)، السكين كي يقطعن بها التفاح، لكنها تخطط لشيء آخر.

(فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ)، قالت: اخرج عليهنّ، فهو ما زال في بيتها على الرغم من علم زوجها بأمرها! (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ)، أي: عَظُمَ في أعينهنّ، (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ)، ليس المقصود اليد كلها، وإنما خدَشْنَ أيديَهُنّ، فانظر إلى القرآن يعبِّر عن الإصابة بالقطع.

(وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ). إنهنّ مبهورات بجمال يوسف.

(قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ) (يوسف/ 32).

انظر إلى المرأة المتيّمة ماذا قالت: (فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ)، هل من الممكن أن تصبح امرأة كهذه؟

إنّ القرآن الكريم يصوِّر لنا هذه المشاهد ليقول للمرأة: احذري أن تكوني مثلها! احذري أن تبحثي عن رجل أو شاب... فإن من تبحث عن الشباب والرجال في أيامنا هذه، أهذه من أمة محمد (ص)؟

(قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (يوسف/ 33-34).

ما هذه الفتن التي تعرَّض إليها سيدنا يوسف (ع)؟ لم تكن امرأة واحدة، بل نساء المدينة كلها يراوِدْنَهُ عن نفسه، ذهبت كل واحدة منهنّ إلى امرأة العزيز، وتقول لها: دعي يوسف لي أقنعه بقبولك، فتذهب إليه وتراوده عن نفسه. أبَعْدَ كل هذا يثبت سيدنا يوسف (ع)؟ أخص بهذا الكلام الشباب والرجال، لابدّ أن تثبتوا... لا تنهاروا من أوّل إشارة... ويرفع يوسف (ع) يديه إلى الله: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)، قال: يا رب، إنّ مشقة السجن أحب إلى قلبي من مشقة المعاصي.

 

-       اقْرِنِ الدُّعاء بطلب العون:

لماذا تأخرت الاستجابة إلى هذا الوقت؟

فالمرأة تراوده من سنوات طويلة، وهو يدعو الله كثيراً، فلماذا كانت الاستجابة هنا؟ يقول العلماء: (عندما ارتبط الدعاء بطلب العون استجاب الله له)، (وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ).

يا رب: انقطعت بي الأسباب، وما من حيلة لي، يا رب: أتوسل إليك أن تخرج هذا الذنب من قلبي... لكن هذا دأبنا مع الله... الدعاء.

هل تعلم أن سيدنا يوسف (ع) تعرَّض لفتنة بعد هذا الدعاء؟... لا، لقد اختفت المعصية واختفت الفتنة.

(ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) (يوسف/ 35).

أصرَّ العزيز على الخلاص من يوسف (ع) حتى بعد ظهور براءته، وتأكدت المدينة كلها من نقائه: فالأمر قد كبر، وتضخَّم وسيسبب حرجاً للعزيز. فلابدّ أن يسجن يوسف، ولكن انظر... (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ)، أي: إلى وقت غير محدد، إلى أن ينظروا في أمره، ما أشدها على نفس يوسف! بل هناك فتنة أشد من ذلك، وهي أنّه مسجون في تهمة شرف، وهو من؟... هو الكريم ابن الكريم ابن الكريم.

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف/ 36).

من هما الفتيان؟ أحدهما: ساقي الملك، يسقي الملك خمراً، والآخر: طاهي الطعام، الذي يعدُّ للملك طعامه.

وعندما دخلا مع يوسف (ع) السجن رأى كل منهما رؤيا، رأى الأوّل: أنّه يعصر خمراً للملك، ورأى الثاني: أنه يحمل إناءً على رأسه، وتنزل الطير من السماء تأكل منه خبزاً.

فقالا له: (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).

كيف عرف الرجلان أنّه من المحسنين؟... فهذا أوّل لقاء بينهم، لقد دلّت صفاته عليه، فأخلاق المؤمن تدل عليه. يا ترى: هل يعلم الناس عنكم أنكم محسنون؟

من أجل ذلك ذهبوا إليه؛ لأن مظهره من المحسنين وقد لفت نظرهم الأخلاق الحسنة والمعاملة باللطف والأدب. وبدأوا بسرد رؤياهم على مسمعه، فعرف من كلامهم أن واحداً منهما سيموت والآخر سيعيش.

يريد أن يعلِّمنا أنّ الذي يصلح في الصغيرة سيُستَخدَم في الكبيرة. وأن مشكلة الشباب أن يكون مثل الكبار، ويريد أن يبدأ بدور كبير، وهذا لا ينفع، بل عليه أن يتعلم بالدور الصغير حتى يعرف كيف سيقوم بالدور الكبير.

ويبدأ يوسف معهما بوضع خطة ذكية فهو لم يقل لهما مباشرة أن واحداً منكما سيموت والآخر لا.

قال لهما: (لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا) (يوسف/ 37)، بدأ يتكلم معهم بأرزاقهم ثمّ شيئاً فشيئاً بدأ يكلمهم عن الدين (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (يوسف/ 39)، كان دائماً ينادي ويقول لهم: يا صاحبي السجن، انظر إلى الأدب وكيف يتعامل مع الناس ويحبب الناس إليه، إذن سماته جميل المظهر ومؤدب ويعرف كيف يعامل الناس، وحكيم ومحسن وله موهبة تفسير الأحلام ويعرف كيف يدخل إلى قلوب الناس. وبعد أن دعاهم إلى الله الواحد بدأ يفسر لهما الرؤيا (أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) (يوسف/ 41).

لم يحدد من منهما سيموت ومن منهما سيظل على قيد الحياة، فقال لهما: واحد منكما سيعود إلى عمله في قصر الملك، وأما الآخر فسيقتل وتأكل الطير من رأسه، كان سيدنا يوسف وهو في السجن يصلح المساجين ثمّ طلب ممن سيخرج من السجن بأن يخبر الملك عن قصته.

وبعد ثلاثة أيام قتل الأوّل والآخر خرج من السجن وعاد إلى عمله في قصر الملك، ولكنه نسي أمر يوسف، وبقي يوسف في السجن لمدة تسع سنوات، إلى أن رأى الملك رؤيا: (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ) (يوسف/ 43)، أراد الملك أن يعرف تفسير هذه الرؤيا فطلب أن يحضروا له من يستطيع أن يفسرها (يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) (يوسف/ 43)، عرف الملك أنّ هذه الرؤيا مهمة لمصر فجمع كل العلماء والكهنة في احتفال عام حتى يتم تفسيرها (قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعَالِمِينَ) (يوسف/ 44)، في بادئ الأمر قالوا: إنها كوابيس ولكن لا نعرف تفسيرها، وقال رجل منهم – وهو الذي كان في السجن مع يوسف – إني أعرف رجلاً يستطيع أن يفسر هذه الرؤيا.

قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) (يوسف/ 45)، وذهبوا إلى يوسف في سجنه وكان في مكان بعيد عن المدينة وقال له: يوسف أيها الصدِّيق، أفتنا في هذه الرؤيا: سبع بقرات سمان يأكلهنّ سبع عجاف.

ويبدأ يوسف بتفسير الرؤيا فيقول: سيكون هناك مشكلة في الثروة الحيوانية وسيكون هناك سبع سنين خير وسبع سنين عجاف. ثمّ يقول لهم: أكثروا الإنتاج وابذلوا كل طاقاتكم واعملوا أضعاف أضعاف الإنتاج تزرعون دأباً وتحصدون، لأنّه ستأتي سنين عجاف.

قال تعالى: (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ) (يوسف/ 47)، أي: تبقى البذور في سنبلها حتى لا تسوس ويتم تخزين هذا الإنتاج للأيّام العجاف وقللوا من استهلاك الطعام.

وضع خطّة ترشيد الاستهلاك لمدة سبع سنين وسياسة تخزينية متميزة حتى لا يسوس الأكل، كان مصلحاً ورجل اقتصاد (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ) (يوسف/ 48)، سبع سنين لزيادة الإنتاج مع ترشيد الاستهلاك وتخزين المحصول للسبع السنين العجاف، ثمّ تخزين البذور كمواد أوليّة ليجدوا ما يزرعونه في المستقبل.

إنّ هدف القصة الإصلاح وثبات الأخلاق، لقد ظلموه في السجن ظلماً، لو كنت مكانه وأنت في السجن الآن وجاؤوا إليك لتحل لهم هذه المشكلة ويرسل إليك الملك ماذا ستقول؟!

ستقول: لابدّ أن أنتقم، أو تقول لهم: أخرجوني أوّلاً ثمّ أفسر لكم الرؤيا، وبعد أن تخرج من السجن لا تنفّذ ما وعدتهم به لأنك تريد الانتقام.

ولكن سيدنا يوسف ورغم كل ما حصل معه لم يفعل كل هذا مع العلم أن أهل مصر لم يؤمنوا، فلم نجد في سورة يوسف ذكر لإسلام أهل مصر وهو لم يجبرهم على أن يسلموا وكأن الله يقول لنا: أنّ الأمر ليس مرتبطاً بعضه ببعض؛ لأنّ الإصلاح هو للإصلاح وأن تنقذ أرواح الناس هو أمر مهم، وبعد كل ذلك يُتهم الإسلام بأنه دين إرهاب (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) (يوسف/ 54)، بعد أن وجده الملك صاحب أدب وأخلاق وصاحب خطة اقتصادية طلب أن يخرجوه من السجن، ولكن يوسف رفض وأراد أن لا يخرج دون أن تثبت براءته من التهمة التي من أجلها دخل السجن (مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) (يوسف/ 50)، وبعد أن ثبتت براءته كما ذكرنا سابقاً خرج من السجن، واستخلصه الملك لنفسه وجعله وزيراً للإقتصاد والمال في البلاد لحكمته وأمانته (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف/ 55)، هو لم يضع الخطة فقط، ولكنه أراد تنفيذها بنفسه، ونجحت الخطة. وحصل ما فسّره يوسف لرؤيا الملك، وحلّت الأزمة بالبلاد العربية ولكن مصر هي البلد الوحيد التي لم تؤثّر فيها الأزمة وأصبح عندها فائض غلال وبذور وانتشر الخبر بين الدول المجاورة حتى وصل إلى فلسطين، وإلى إخوة يوسف.

وعندما تحدث المجاعة تنتشر الأخلاق السيئة: 1- تبدأ أعداد المتسولين بالازدياد. 2- يحتكر التجار البضائع، وينتشر الجشع بين الناس. 3- تنتشر البطالة بين الشباب والعمال.

ففكر سيدنا يوسف ماذا يفعل؟ وسّع خطته الاقتصادية، وأصبح الفائض في مصر هو ملك لكل الناس ويحق لأيِّ كان أن يأتي ليأخذ الطعام ولكن حدِّدَت الكمية بقدر بعير واحد فقط حتى يتمكّن الجميع من الحصول على الطعام (جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) (يوسف/ 72)، وجعل لكل شخص بطاقة خاصة به حتى يُعرف من خلالها أنّه حصل على الطعام كي لا يحصل أي نوع من الفوضى، وبدأ يوسف يستقبل كل الوفود التي تدخل إلى مصر للحصول على الطعام ويجلس بنفسه لمقابلتهم، ثمّ يبدأ بسؤالهم من أين أتوا ومن أي عائلة هم، وكان يعامل الناس بأدب وبكل احترام، ويبدأ يختم بطاقاتهم دون إهانة: (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) (يوسف/ 59)، وهكذا قضى يوسف على الاحتكار والبطالة والتسول بخطة عبقرية لم يسبق لها مثيل، واستطاع بفضل تواضعه أن يتعرّف على كل الناس حتى وصل إخوته فعرفهم وهم له منكرون.

وقد كانت خطة يوسف ترمي بأن يحضر كل من أراد الحصول على الطعام معه بضاعة من صنع بلده، تماماً كمبدأ المقايضة: الطعام... الطعام مقابل البضاعة التي يحضروها.

يا مسلمين، اليد العليا خير من اليد السفلى، ورغم الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد رفض يوسف أن يعطيهم القمح دون بضاعة مقابلها، أي: دون إنتاج، وهكذا حل مشكلة البطالة وأصبحت مصر والعالم العربي في إعداد الدول المنتجة.

أرأيتم الصورة الآن؟! تحوّل يوسف من شاب كان مسجوناً إلى شاب يقود الاقتصاد في العالم العربي نتيجة صبره وثباته، فقد إستطاع بفضل كل هذا أن يصنع من المجاعة فرصة للنجاح في مصر، ومن البطالة خلية نحل لا تهدأ.

 

-       يوم اللقاء:

كان إخوته ووالده يعيشون في فلسطين، فبدأت الدول المجاورة لمصر تعاني من الجوع، فيذهبون إلى أخيهم في مصر، انظر إلى الذي ظُلم من إخوته وصبر على ظلمهم كيف أعزه الله، لأنّ الله – عزّ وجلّ – يقول: (إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (هود/ 49)، (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف/ 90).

قال تعالى: (وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (يوسف/ 58)، هم لم يعرفونه: لأنّه عندما تركوه كان صبيّاً صغيراً عمره عشر سنوات، وها هم الآن يقفون مع حشد كبير من الناس ويمدون أيديهم لأخيهم ليعطيهم الطعام، انظر إلى الثبات الأخلاقي.

يا شباب، كلما كان الاختبار شديداً وصعباً وقاسياً يكون الصبر أقوى وأشد والثبات أقوى والأخلاق أفضل.

لو كل الناس سرقوا لا تسرق، ولو كل الناس غشوا في الامتحانات لا تغش؛ لأن الدنيا دار إختبار.

ياشباب، اتقوا الله واعلموا أن الله موجود، لو كل الناس حادوا عن شريعة الإسلام فاثبت أنت.

 

-       خطة يوسف:

قال تعالى: (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) (يوسف/ 59)، كانت خطته إذا أعطاهم من الطعام فلن يعودوا إليه مرة أخرى، لذلك تعمّد أن لا يعطي إخوته شيئاً من الطعام، فهم عندما حضروا إليه جلبوا معهم بعض الهدايا والبضائع مثل السجاد والمنسوجات أي: بضاعة مقابل الطعام الذي سيحصلون عليه، وكانت هذه من ضمن الخطط والإصلاح التي أسسها سيدنا يوسف.

وكانت من عادة يوسف أنّه كلما أتى وفداً من الوفود يحدثه ويسأله من أين أتى، أي: من أي بلد ومن أي عائلة وكم عددهم، فعندما جاء دور إخوته وتحدث معهم عرف منهم أن لهم أخ بقي مع والده فعندما أحضروا بضاعتهم قال لهم يوسف: أئتوني بأخ لكم من أبيكم.

قال تعالى: (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ)، فبدأ يوسف بإغرائهم بأن ائتوني بأخيكم وأنا أعطيكم طعام زيادة، وقالوا له: إننا لا نستطيع أن نحضر لك أخانا؛ لأنهم يعلموا أن والدهم لم ولن يعطيه إياهم بعد ما فعلوا بأخيهم يوسف في الماضي.

قال تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) (يوسف/ 60). أي: إن لم تحضروه فلا طعام لكم عندي بعد الآن. (قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ) (يوسف/ 61)، أي: سنحاول إحضاره بطريقة ما، (وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (يوسف/ 62).

أمر فتيانه – أي: مساعديه – أن يعيدوا إليهم البضاعة التي أحضروها معهم ليبادلوا بها الطعام، وعندما يعودون سيجدون بضاعتهم رُدت إليهم حتى يعودوا إليه مرّة أخرى.

فلما عادوا إلى والدهم يعقوب قالوا له: انظر إن بضاعتنا ردت إلينا، وانظر إلى هذا الوزير الكريم والطيب فتشجع يعقوب وأرسل معهم أخاهم.

قال تعالى: (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (يوسف/ 69)، شغل يوسف إخوته بالبضاعة وأخذ أخوه إلى مكان جانبي، وقال له: لا تخف أنا اخوك يوسف وأريد منك أن تساعدني على تنفيذ خطة، لكي أُعلم إخوتي درساً في الأخلاق.

قال تعالى: (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) (يوسف/ 70)، أي: بعد أن جهزهم بالطعام وضع كوب من الذهب وهو كان للملك في رحالهم دون أن يشعروا، (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) (يوسف/ 70)، فأذن مؤذن أنهم سرقوا، أي: لقد تم سرقة كوب الملك ومن يأتي به له حِمْلُ بعير وأنا به زعيم، ولكنهم قالوا: لقد علمت أننا لم نأتِ لنفسد في الأرض وما كنا سارقين، (قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (يوسف/ 74-75)، أي: قالوا له: إن وجدت الكوب عند أي أحد منا اتخذه عبداً أو ضعه في السجن (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ) (يوسف/ 76)، فلما فوجئوا بذلك ردوا عليه وقالوا: (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ) (يوسف/ 77)، انظر إلى الانهيار الأخلاقي، هو يستطيع أن يضعهم في السجن بعدما فعلوا معه كل ذلك الظلم، فقالوا له: إن له أباً وهو شيخ كبير فلتأخذ مكانه أي واحدٍ ما، فنحن لا نستطيع أن نعود إلى أبانا من دونه، انظر إلى نتيجة الصبر، انظر إليهم بدؤوا يستعطفونه حتى لا يأخذ أخاهم، انظر إلى الثبات كيف تحولوا من إخوة أشرار إلى إخوة لطفاء دون أي إهانة أو ضرب، فقال لهم: معاذ الله أن نأخذ من لم نجد متاعنا عنده. (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا) (يوسف/ 80)، فلما يئسوا منه ولم يجدوا حلا آخر، قال كبيرهم: ألم تعلموا أن أباكم أخذ منكم ميثاقاً في الله، ومن قبل فرطتم في يوسف فإني لن أبرح هذه الأرض – أي: مصر – حتى يأمر أبي أو يحكم الله.

 

-       العودة إلى فلسطين:

ثمّ عادوا إلى أبيهم يعقوب في فلسطين وقالوا له ما حدث وعرضوا عليه الدليل؛ لأنّه لم يصدقهم وبدؤوا يسافرون من فلسطين إلى مصر، وبالعكس دون جدوى ثمّ قالوا له: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف/ 82-83).

انظر إلى الوالد كيف يستعين بالصبر به بعد كل مصيبة؛ لأنّه مؤمن بالله ويعلم أنّه لن يُضيِّع صبره.

قال تعالى: (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) (يوسف/ 84)، قالوا له: ألا زلت تتذكر يوسف وتذكره وأنت في هذا الحزن، قال لهم: بل أشكو بثي وحزني إلى الله، وهنا نتذكر فلسطين، وا أسفاه على فلسطين، أشكُ بثك وحزنك إلى الله، كان عمر بن الخطاب (رض) عندما يقرأ هذه الآية يبدأ بالبكاء. قال تعالى: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف/ 87)، ثمّ عادوا إلى أخيهم ودخلوا عليه وقالوا له: (يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) (يوسف/ 88)، هنا قد اكتمل الدرس فهم قد ذُلُّوا فعلاً وتعبوا كثيراً، فأحضروا له بضاعة مختلفة ومتنوعة حتى يتصدق عليهم بالطعام، فرد عليهم يوسف قال: (هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ) (يوسف/ 89)، أراد أن يذكرهم بما فعلوه به بطريقة لينة، (قَالُوا أَئِنَّكَ لأنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا) (يوسف/ 90)، انظر إلى ثبات الأخلاق ونتائج الصبر فقد منّ الله عليهم وأعطاهم جزاء صبرهم وهو وأخيه (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف/ 90)، أراد أن يعطيهم الدرس وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم. (قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ) (يوسف/ 91)، أي: أنت أفضل منا عند ربنا، لقد فضَّلك الله علينا وأعطاك جزاء صبرك وعملك، ونحن الآن نعترف بأخطائنا، فردَّ عليهم يوسف: (قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف/ 92)، أي: لا خوف عليكم الآن فأنتم في أمان، فارجعوا إلى أبيكم بقميصي هذا وارموه عليه يعود بصيراً ويأتي قومكم أجمعين. (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) (يوسف/ 99)، أي: بعد ثلاثون عاماً من الغياب احتضن والديه وإخوته وكان اللقاء الجميل، واجتمعت العائلة من جديد ورفع والديه على العرش. (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف/ 100)، انظر إلى ثبات الأخلاق وإلى أدب الكلمات، هو لم يقل له: إن إخوتي وضعوني في البئر حتى لا يجرح إخوته، ولم يقل لهم: إنني أتيت بكم من المجاعة بل من البدو، وقال لهم: إنّ الشيطان هو الذي نزغ بيني وبين إخوتي حتى يبقى حب إخوته في قلبه بعد أن جمعهم الله.

تحلُّوا بثبات الأخلاق والصبر الإيجابي؛ ولو استسلم الجميع للشر والمعصية تمسّكوا بالعقل والحلم، فقد رأيتم من خلال استعراضنا لقصة سيدنا يوسف مع إخوته نتيجة ذلك كله.

 

-       نتائج الثبات والصبر:

كل الذين انحرفوا أخلاقيّاً في هذه القصة تابوا أو اعتذروا في النهاية إلى يوسف.

إخوته قال: (تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ) (يوسف/ 91).

زوجة العزيز: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ).

العزيز فقد وظيفته بعد أن أخفى الموضوع.

صاحب الثبات الأخلاقي ولو بعد أربعين سنة، هو من يكسب في النهاية: (آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) (يوسف/ 99)، (وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ)، (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا) (يوسف/ 100).

من هو مالك الملك؟! قال الله تعالى: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) (يوسف/ 21)، انظر عندما يكون ربك معك، ربنا لا يُغلب أبداً، وربنا معك يا صاحب الإصلاح، يا صاحب الصبر الإيجابي، يا صاحب ثبات الأخلاق.

 

-       غالب على أمره:

1- غالب على أمره: يوم رماه إخوته في البئر، وهو الذي رباه والده إلى أن أصبح في عمر العشر سنوات حتى يخرج بأخلاق يعقوب وإبراهيم.

2- غالب على أمره: يوم جعل السيارة يخطئون في الطريق ويدخلون إلى وسط الصحراء ويخرجوه من البئر.

3- غالب على أمره: عندما جعل السيارة يبيعونه إلى العزيز في مصر وكان وزيراً للإقتصاد، ورغم أنّه كان عبداً في بيته ولكنه تعلم الاقتصاد، ولم يضع يده على خده، تعلموا يا شباب.

4- غالب على أمره: يوم رأى الملك الرؤيا.

5- غالب على أمره: يوم ظلمته امرأة العزيز وسُجن، ثمّ طلب الملك مقابلته.

6- غالب على أمره: يوم دخل ساقي الملك إلى السجن خطأً حتى يرى يوسف.

7- غالب على أمره: يوم جعل مصر كلها والعالم العربي يحتاجون إليه حتى إخوته احتاجوا للذهاب إليه ليعيدوه إلى والده.

8- غالب على أمره: يوم جعل يوسف يصل إلى الملك ويكون صاحب المبادرة التي أنقذت مصر والعالم العربي من المجاعة والبطالة.

ربنا بيده الملك، أصلح والله معك، ماذا لو كان يوسف لم يتعلم الاقتصاد في بيت العزيز، أو استسلم لامرأة العزيز وعمل الفاحشة، ولكن كان السجن أحب إليه حتى يصل ويصبح عزيز مصر، وعندما أصبح وزيراً ولم يتواضع كيف كان سيقابل إخوته.

حركة الإصلاح هي التي نجحته وهي التي جعلته يغلب أيضاً عندما أصلح جعل الله الظروف لصالحه.

رسالتي إلى طلاب الجامعات والمدارس وحديثي التخرج والذين لا يعملون، الفرصة تدق على بابك عندما تكون مستعداً، والله يرسل لكل واحد فرصة والله غالب على أمره.

استعد مثل ما فعل يوسف، استعد لأنّ الفرصة أتته بعد عشرين سنة، تعلموا هذا الكلام واستعدوا والآية تقول: (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ) (يوسف/ 87).

انتهت السورة، يا ترى هل المعاني وصلت، اليوم كان إصلاح اقتصادي، وبالأمس كانت العلاقات الزوجية وقبلها كانت علاقات اجتماعية وعائلية، اعملوا يا شباب.►

 

المصدر: كتاب (قراءة جديدة ورؤية في قصص الأنبياء)

ارسال التعليق

Top