د. عبدالناصر سكرتيه
يخطئ الكثيرون من الناس، بالإعتقاد إنّ العبادات بأنواعها التي فرضها الإسلام، إنما فرضها لذاتها وليس لغرض منها. في حين أنّها فرضت لتكون وسائل تؤدي إلى غايات إنسانية وإجتماعية فاضلة ونبيلة. فهي التي تدرب الإنسان وتربيه على القيم الفاضلة وتحد سلوكه بحدود الله، فليست هي غاية بذاتها.
وهذا تماماً أمر الصوم. فمن الخطأ التام الإعتقاد أنّ الله سبحانه فرضه ليجوع الإنسان ويعطش، فللصوم فوائده الروحية والنفسية والتربوية والإجتماعية العديدة.
ولعل الفوائد الصحية الجسمانية للصوم لا تقل أهمية عما سواها من الفوائد الجمّة لهذه الفريضة المباركة.
انّ النظر إلى فوائد الصوم من زاوية طبية بحتة يجعلنا نصل إلى جملة من الحقائق الطبية التي أقرها الطب الحديث لا بل أنّه يعتمدها في كثير من الحالات للمعالجة أو للوقاية من كثير من الأمراض والآفات:
1- إنّ الصوم يُطلب طبياً في حالات كثيرة سواء للمعالجة أو للوقاية من عديد من الأمراض، وهو العلاج الوحيد في أمراض أخرى، فهو يستعمل كعلاج في إضطرابات الأمعاء المزمنة والمصحوبة بتخمّر والمسبب للغازات والنفخة وفي زيادة الوزن الناشئ من كثرة الغذاء وفي حالات إرتفاع الضغط، وهو علاج نافع في حالات البول السكري الذي يكون مصحوباً غالباً (قبل ظهوره) بزيادة في الوزن. ولا يزال الصوم مع تحديد أنواع الغذاء أهم علاج لهذا المرض.
والصوم يشكل علاجاً لإلتهاب الكلى الحاد والمزمن وأمراض القلب.
والصوم شهراً في السنة يشكل خير وقاية من كل هذه الأمراض.
2- الإمتناع عن الغذاء والشراب مدة ما (الصوم) يقلل من الماء في الجسم والدم. وهذا بدوره يقلل الماء في الجلد وحينئذ تزداد مقاومة الجلد للأمراض الجلدية الميكروبية المؤذية.
وقلة الماء من الجلد تقلل من حدة الأمراض الجلدية الإلتهابية والحادة المنتشرة بمساحات كبيرة في الجسم، وأفضل علاج لهذه الحالات هو الإمتناع عن الطعام والشراب لفترة ما (الصوم).
3- إنّ الإنسان إذا جاع انصرفت قواه كلها إلى طرح ما تراكم في جسمه من السموم والمواد الضارة. إنّ الجوع الناشئ عن الصوم من أحسن الوسائط لتنقية البدن من الفضلات المتراكمة على مرور الأيّام، ليس فقط في الأمعاء والجهاز الهضمي، وإنّما في كل أنحاء البدن وأعضائه وأجهزته.
وفي هذا يقول الدكتور "ماك فادون" وهو من كبار علماء الصحة في أمريكا في كتابه الذي ألفه عن الصوم بعدما تبينت له نتائج عظيمة. من أثر الصوم ومفعوله في القضاء على كثير من الأمراض المستعصية:
إنّ كل إنسان يحتاج إلى الصيام وان لم يكن مريضاً لأن سموم الأغذية والأدوية تجتمع في الجسم فتجعله كالمريض وتثقله ويقل نشاطه. فإذا صام خفّ وزنه وتحللت هذه السموم من جسمه بعد أن كانت مجتمعة فتذهب عنه حتى يصفو صفاءً تاماً، ويستطيع أن يسترد وزنه ويجدد جسمه في مدة لا تزيد على العشرين يوماً بعد الإفطار، ولكنه يحس بنشاط وقوة لا عهد له بهما من قبل".
"إنّ هذا الطبيب عالج بالصوم كثيراً من المرضى بأمراض مختلفة وذكر أسماءهم وأمراضهم وتواريخ معالجتهم في كتابه. وقرّر أن انتفاع المرضى بالصوم يتفاوت حسب أمراضهم. وذكر أن أكثر الأمراض تأثّراً بالصيام أمراض المعدة، "فالصوم لها مثل العصا السحرية يسارع في شفائها ويرى المعالج به العجب العجاب، وتليها أمراض الدم ثمّ أمراض العروق كالروماتيزم".
4- يقول الدكتور العالم الكسيس كاريل الحائز على جائزة نوبل في الطب والجراحة "الإنسان ذلك المجهول" ما يلي:
"إنّ وظيفة التكيف على قلة الطعام، تؤدي دوراً عظيماً في بقاء الاجناس البشرية، لذلك كان الناس يلتزمون الصوم في بعض الأوقات...
ففي الصوم تحدث ظواهر خفية، فإن سكر الكبد سيتحرك ويتحرك معه أيضاً الدهن المخزون تحت الجلد وبروتينات العضل والغدد وخلايا الكبد وتضحي جميع الأعضاء بمادتها الخاصة للابقاء على كمال الوسط الداخلي وسلامة القلب، وأنّ الصوم لينظف ويبدل أنسجتنا".
5- إنّ الصائم عند إفطاره، يقبل على الطعام بشهية وسرور نفسي كبير، ونتيجة لما يكون عليه من جوع، فإنّه يستجمع كل طاقاته وحواسه ويصب تفكيره في طعامه، ولهذا فائدة صحية كبيرة تقلل من الإرتباكات المعدية وتزيد في قدرة الجهاز الهضمي على هضم الطعام وفي قدرة الجسم وخلاياه على "تمثل" الغذاء والإستفادة منه. وهذا ما لا يتوفر في حالات الطعام العادية.
6- إنّ الطمأنينة وراحة النفس والروح التي يحملها الصوم ويوفرها للصائم، تنعكس إيجابياً على صحة الجسد وراحته نشاطاً وحيوية وتحملا، نظراً للحالة النفسية من تأثيرات مباشرة على الجسد ووظيفة أعضائه ونشاط أجهزته.
كما أن إراحة الجسد وتخليصه من كثير من الشوائب والسموم والبقايا والرواسب المضرة، ينعكس إيجاباً على الحالة النفسية. وفي هذا فائدة مزدوجة للصوم.
7- إنّ الصوم بما يتطلبه من تنظيم للوجبات وبما يوفره من حمية غذائية يشكل الأساس لحماية وحفظ المعدة والجهاز الهضمي من الإضطرابات والآفات والتلبك، وهو حافظ للجسم من العلل الناشئة عن امتلاء المعدة وإفراط الطعام. ككثافة الدم والإحتقانات الدموية في الرئتين والكبد والمفاصل خاصة.
"فالمعدة بيت الداء، والحمية أصل الدواء"، كما يقول الحديث النبوي الشريف.
8- إنّ الإنسان الحديث، أكثر حاجة، من وجهة طبية صحية إلى الصوم الدوري نظراً لإنتشار الإضطرابات الهضمية والنفسية وإنتشار الأمراض والآفات وكثرة إستعمال الأدوية والأغذية الكيمياوية المصنعة، حيث يساعد الصوم الجسم في التخلص من هذه الآفات وآثارها وترسباتها.
إنّ هذه الفوائد الصحية الجلّة للصوم، كانت سبباً لإنشاء مصحات عديدة في العالم يقوم العلاج فيها على الصوم كعلاج رئيسي. ولعل أشهر مصحة في العالم الآن هي مصحة الدكتور هيزيج لاهمان في درسون بسكسونيا يقوم العلاج فيها بالصوم، وكذلك مصحة الدكتور برشر بذ والدكتور مولر وغيرهما، ويكون ذلك العلاج غالباً فيه الشفاء من إضطرابات الهضم والبدانة وأمراض القلب والكبد والكلى والبول السكري وإرتفاع ضغط الدم.
وللصوم أيضاً قواعد وأصول يجب إحترامها حتى تتحقق الأغراض المرجوة منه. ولحسن الإستفادة من الفوائد الصحية للصوم، فإنّه ينصح بالتقيد بالإرشادات التالية:
1- عدم تنويع طعام الإفطار بشكل كثيف ويكتفي بنوع واحد أو اثنين، حتى لا يحدث إرتباك في المعدة والجهاز الهضمي.
2- الإفطار على شيء بسيط وخفيف والإنتظار قليلاً ثمّ إستكمال الطعام وعدم تناول وجبات الإفطار دفعة واحدة.
من المعروف طبياً أنّ الأمعاء تمتص الماء المحلى بالسكر في أقل من خمس دقائق فيرتوي الجسم وتزول أعراض نقص السكر والماء فيه. في حين أنّ الصائم الذي يملأ معدته مباشرة بالطعام أو الشراب يحتاج إلى ثلاث أو أربع ساعات حتى تمتص أمعاؤه ما يكون في إفطاره من سكر، وعلى هذا تبقى عنده أعراض ذلك النقص ويكون حتى بعد أن يشبع كمن لا يزال يواصل صومه.
وهذا يكشف لنا حكمة التوجيه النبوي الكريم في الإفطار على التمر أو الماء حين قال:
"إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإنّه بركة، فإن لم يجد فالماء فانّه طهور".
3- تناول أطعمة سائلة كالشوربة مثلاً مع وجبة الإفطار.
4- أن تتضمن وجبة الإفطار أنواعاً من الخضار لأنّها تفيد في تليين وترطيب المعدة.
5- عدم تناول السوائل (كالمرطبات والعصير) قبل مرور ساعة على إنتهاء الإفطار، لمنع أيّة إعاقات لعملية الهضم.
6- الإبتعاد عن التخمة لضررها الشديد.
7- المشي قليلاً بعد الإفطار.
8- وجبة السحور: ينصح بأن تكون وجبة السحور من المأكولات الخفيفة. كذلك فلا ينصح بالنوم بعد تناول السحور مباشرة، ويفضل قضاء فترة لا تقل عن الساعة بعده قبل المباشرة بالنوم.
9- ومنعاً للعطش الذي يشتد في أيام الحر ينصح بالإبتعاد عن الموالح والمقالي والحوامض وخاصة في السحور. وينصح بتناول الشاي مثلاً وبعض الأشربة المنشطة كالتمر الهندي والجلاب والسوس وشراب قمر الدين، لأنّها تخفف العطش كثيراً.
10- ينصح بتطبيق ما جاء في الحديث الشريف: "نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع" لفائدته الكبيرة خاصة في شهر رمضان.
تبقى هناك مسألة نود الإشارة إليها، وهي إمتناع الكثيرين عن الصوم في شهر رمضان المبارك بحجة الإصابة بمرض ما، وأنّ الطبيب أشار عليهم بذلك، اننا نرشد هؤلاء لأهمية معرفة هذه الفوائد الكبيرة للصوم من الناحية الصحية وتأثيره المباشر على الشفاء والتخلص والوقاية من أمراض وآفات كثيرة، فلا يجب الإكتفاء والحالة هذه "بنصيحة" مجرّد طبيب.
لا يفقه من أمر الصيام الشيء المهم، ولا يلغي هذا أمراضاً لا يلائمها الصوم، فالقرآن الكريم يشير إلى حالات المرض التي تستوجب الإفطار شرط القضاء أو الكفارة.
ولنحفظ جيّدا قول الرسول الكريم (ص) "ما ملأ الإنسان وعاء شرّا من بطنه".
ارسال التعليق