قيل الكثير عن عوامل نجاح فرق العمل، وكتب الكثير في ذلك أيضاً، لكنّنا نشير أو نؤشر على أهمّها، مستوحين ذلك من روح ديننا الإسلامي الذي يلتقي في جوهره مع مبادئ العمل الجمعي أو الجماعي في آخر ما توصلت إليه تقنياته وتقنيناته من كفالات وضمانات للنجاح:
1- الوحدة الداخلية في مواجهة التحديات:
حينما أراد القرآن الكريم أن يصف المجتمع الإسلامي في روحه الأولى (روح الفريق) كان أفضل ما وصف به الملتفين حول النبيّ 6 التفاف السوار حول المعصم، قوله سبحانه: ﴿مُحمَّدٌ رَّسُول اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ (الفتح/ 29).
ويمكن أن نستفيد من وحي الآية أهم عناصر نجاح الحركة التي تريد أن تحقق انتصاراً في الواقع:
1- الهدف: الله -تعالى- قدّم النبيّ محمّداً 6 بصفته الرسالية لا الشخصية، ليبقى الهدف حتى مع رحيل القائد.
2- القدوة: فالنبيّ القائد 6 هو الأُسوة الحسنة التي تتجّه سُفن العاملين المبحرة في عُبَاب[1] بحر الحياة نحو مناره، وهكذا يُفترض بكلّ قائدٍ في أي موقع.
3- الالتفاف حول القيادة الصالحة: ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ في الفوز والخسارة، والرخاء والشدّة، أي انّ أعضاء الفريق يحملون روحاً وثابة هي روح الثبات على المبدأ في مختلف الظروف والأحوال.
4- القيادة لا تلغي دور القاعدة، وكما أنّ للقيادة أو الرأس دوره الكبير في بناء وإنجاح (روح الفريق) فإنّ للفريق دوره في التكامل مع القيادة أو القبطان للوصول بالسفينة لا إلى ساحل النجاة فقط، بل إلى السواحل البعيدة التي تتطلبها الحركة وتستدعيها أهداف الفريق.
5- الفريق تسوده الرحمة الداخلية بين أعضائه (قيادة وقاعدة)، والرحمة لها تفريعاتها من (الاحترام) و(التعاطف) و(التسامح) و(التباذل) و(التعاون) و(التواصي بالصبر) و(التواصي بالحقّ).. إلخ. وهو بمثابة رجل واحد وقوة متراصة في وجه التحديات التي تعترضه.
لقد عُرف عنه 6 أنّه كان يكره كلمة (أنا) التي يُشمّ منها رائحة الأنانية، لأنّه تربية القرآن الذي يتحدث عن صيغ الجمع في كلّ الخصال الحميدة التي يُثني عليها، فهو يطالب بـ(الصف) المرصوص الذي زيّن به عنوان أحد سوره العظيمة. اليوم وفي عصر فِرَق العمل وروح العمل الجماعية تتأكد أهمية هذه الروح. في كتابه (قواعد العمل) يقول (ريتشارد تمبلر): «تحدّث بلهجة (نحن) وتجنّب الكلام بـ(أنا)». ص 172. معتبراً ذلك قاعدة مهمّة من قواعد العمل الذي يرنو إلى النجاح ويتطلع إلى المزيد من التوفيق، وكم هو جميلٌ أن ترى مكتشفة اليورانيوم (السيدة كوري) حينما كانت تعمل في مخبر واحد مع زوجها، وكانت تصدر بحوثها موقّعةً بـ(نحن) الذين اكتشفنا هذا، لتعلّم العاملين، كيف يقدّر بعضهم البعض الآخر، حتى ولو كانت نسبة مساهمته أو حصة البعض منهم في العمل أقل، واعتباره شريكاً مساهماً في العمل: ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾!!
2- وعي الأهداف:
لم يقصر القرآن الوعي في إطار القيادة فحسب، بل وسّع دائرته لتشمل القواعد أيضاً (أي فريق العمل كلّه) قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (يوسف/ 108). و(البصيرة) تقابل (الوعي) وهي شرط مشترك مطلوب من الاثنين معاً: (الرأس) و(الفريق). وكلّما كان الوعي بالأهداف أكبر، كان الوصول إليها أيسر، فالهدف مفرداً أو مجموعة أهداف هو الذي يعطي الحياة معنى.
يقول الشاعر مصوّباً عينه نحو هدفه:
قف دون رأيك في الحياة مجاهداً *** إنّ الحياةَ عقيدةٌ وجهادُ
وكما يقال في الأمثال، فإنّه ليس هناك ريحٌ تخدمُ مَن لم يوجّه رحلته إلى ميناء معيّن.
وكلّما كان الهدف واضحاً ومحدداً وكبيراً التحمت الهمم كلّها من أجل بلوغه، وإنّ ما يوقع في الفشل أو الخسارة هو الانشغال بـ(الثانوي) عن (الرئيسي)[2]. وصدق مَن قال: إذا ركضت وراء أرنبين سوف لن تمسك أي شيء. ولهذا تجد القادة العسكريين مهتمين جدّاً بهذه القاعدة، فلا ينشغلون إلّا بأهدافهم المحددة.
3- المشورة والتشاور:
عقلٌ واحدٌ لا يكفي حتى لو كان جبّاراً. النبيّ 6 على عظمته كان يستشير أصحابه، نعم، بحسب روح الفريق، المشاورة والمداولة والنقاش، كلّ ذلك مطلوب قبل ساعة الصفر أو الحسم، فإذا دقت الساعة، فالكلمة الفصل للقيادة ﴿وَشاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ﴾ (آل عمران/ 159)، ولغة الجمع الموافقة لروح الفريق حاضرة دائماً في مبدأ الشورى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ﴾ (الشورى/ 38). والدلالة واضحة لأنّ مَن شاور الناس شاركها عقولها، كما يقول الإمام عليّ 7. وما خاب مَن استشار، لأنّ المستشار يمحضك النصيحة، ولذلك قيل: نصّف رأيك مع أخيك فاستشره، كما قيل المشورة حصنٌ من الندامة، وأمانٌ من الملامة، ذلك أنّ مَن قلّب وجوه الآراء عرف مواطن الخطأ والخلل والنقص والفشل.
يقول الشاعر:
إنْ سرٍّ عليك التوى *** فشاور حكيماً ولا تعصهِ
وتبقى وصيته 6 نبراساً لكلّ فريق عمل يطمح إلى النجاح «ما تشاور قومٌ إلّا هُدوا الله لأرشد أمرهم»[3]!
4- النظرة العملية للمقترحات:
ما يجعل اقتراحات القيادة، أو أي الفريق، أو أي عضو فيه قابلة للتنفيذ هو الاستعداد للمشاركة في إنزالها منزل التطبيق. (ذو القرنين والمدينة المستضعفة التي كانت تتعرض لغارات وهجمات البرابرة، نموذجاً).
وقد تؤجّل بعض الاقتراحات لأنّ الوقت غير مناسب، أو الامكانات غير متاحة، أو انّ الشروط غير متوفرة، أو انّ غيرها متقدّمٌ عليها بحسب سلّم الأولويات، لكن ذلك لا يمنع المتقدّم باقتراح للنهضة أو لتطوير العمل وتحسين الأداء للإحباط والتوقف عن تقديم الاقتراحات، ولا يعني أنّ مجرد استعداد صاحب الاقتراح كافٍ لتنفيذه، فقد لا التفت إلى الجوانب والزوايا الأخرى التي يراها الفريق، وبالمحصلة، فإنّ الاقتراح الجدير بالإجراء والتنفيذ لابدّ أن يَلقى عند الفريق روحاً إيجابية في الاستعداد لإدخاله في حيز التنفيذ عن أي من أعضاء الفريق صدر، طالما أنّ فيه مصلحة الفريق ككلّ. لقد عانى الإمام عليّ 7 أثناء خلافته من هذه المشكلة، وهي إنّ اقتراحاته (وهي هنا ليست شخصية وإنّما يُراد بها مصلحة الإسلام العليا) كانت تُقابل بالصدود والجحود والاصطدام بعقبةٍ صخريةٍ صلدةٍ. وكان 7 يعبّر عن ذلك بمرارة فيقول تارة: «أفسدتم عليَّ رأيي» ويقول تارة: «لا رأي لمَن لا يُطاع» ويصف تارة ثالثة الحجج التي يتذرّع بها فريق العمل بأنّها واهية، ممّا يعني أنّ القيادة، حتى وإن كانت حائزة على أعلى مراتب الكفاءة والدراية والعلم والخبرة، لا تستطيع لوحدها أن تنجز مقترحاتها أو خططها، ومشاريعها إذا كان فريق العمل غير متفاعل معها، ولقد كان له 7 رأي مغاير في معركة صفين لكن فريق أو طاقم العمل معه كان له رأيٌ مخالف، وكان هؤلاء يشكّلون الأغلبية، فانصاع لرأيهم بعدما رفضوا الاستجابة لأمره.
5- التعلّم من الأخطاء:
فريق العمل العسكري الذي شارك مع النبيّ 6 في معركة أُحد، فشل في حسم المعركة لصالحه، نتيجة عدم الالتزام بالتعليمات الصادرة عن القيادة العليا ممثلةً بالرسول 6 الذي حذّر من التفاف العدو عليهم إذا تركوا مواقعهم التي وضعهم فيها. خسر المسلمون المعركة لكنّهم ربحوا درساً وتجربةً قاسيةً لا تُنسى.
وما من فريق عمل في التأريخ كلّه، كانت كلّ أعماله ناجحة، وطريقه مفروشة بالورود، ويحقّق الانتصارات على طول الخط، وعلى الرغم من أنّ النبيّ 6 لم يشكّل مجلساً للتحقيق في الخطأ. لأنّه شخّصه، ولم يعاقب المخالفين لأنّهم عاقبوا أنفسهم بأنفسهم عندما عرفوا أنّهم السبب في الخسارة أو الهزيمة، إلّا أنّ منهج القرآن في التربية والتعليم، هوالاستفادة من الخطأ الفادح والتجربة المرّة: ﴿لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ (النور/ 11). على أنّ ذكرى الخطأ يجب أن تبقى ماثلةً للأعيان حاضرة في الأذهان، لأنّنا -كفريق عمل- سنخسر واحدة من التجارب التي يمكن أن نستقوي بمعاكستها في تجاربنا اللّاحقة، أي إنّ السؤال بعد الخطأ: كيف نعمل وبقدر أقل من الأخطاء، وأن لا نعيد أو نكرر الخطأ ذاته الذي دفعنا بسببه ضريبة باهضة، ولذلك قال العقلاء: إن (تعثر) هو ليس أن (تسقط)، وإذا كان مَن تزلّ قدمه، يدلّ الكثيرين على الطريق، فالأجدر به أن يكون هو عبرةً لنفسه قبل أن يكون عبرةً لمن يعتبر، ولهذا من الأفضل أن تُخطئ في البداية مِن أن تُخطئ في النهاية.
إنّ الدفاع عن الأخطاء ليس من شيم الفرق القوية التي تستفيد من أخطائها لمزيد من القوة، فلا هي تنكرها ولا هي تبررها، بل تضعها في الرصيد آخذة بعين الاعتبار إنّ مَن لا يعترف بخطأه مصممٌ على القيام بأخطاء أخرى.
كما أنّ اتهام أفراد الفريق لبعضهم البعض -في حال الفشل والخسارة أو (إلقاء) اللوم على بعضهم- انّه هو السبب في الخسارة. لا يقي الفريق من النتيجة المؤسفة، وإنّما تقف الفرق التي تستوعب هزائمها موقفاً شجاعاً من أخطائها معترفةً أنّ الخسارة يتحملها الجميع، كما أنّ النصر أو الفوز أو الربح يناله الجميع. نعم، الذين يتعمدون الأخطاء ويتسببون في إلحاق الضرر أو الهزيمة، هؤلاء يعترفون ضمناً أنّهم لم يعودوا مؤهلين أو صالحين للبقاء ضمن إطار الفريق الذي يستطيع أن يتحمل (الخسارة) لكنه لم ولن يستطيع أن يتحمل (الخيانة).
6- الحفاظ على السمعة:
كلّما حظي فريق العمل -في أي موقع من مواقع الخدمة الإنسانية- بشهرة واسعة، زاد ذلك في العبء والمسؤولية عليه، فالفريق الناجح ليس هو الذي ينام على وسادة المجد، بل الذي يبقى ساعياً للحفاظ على سمعته من خلال: أدائه الجيد والمتميز، وأخلاقيته التي سجّلت له مكانة في القلوب، وبالتالي فإنّ سمعة الفريق هي مِن حسن تصرّف أعضائه، كما أنّها تُحصد وتُرصد عبر خدماته الجليلة، وانتصاراته المتلاحقة. وبالنظر إلى أهمية هذا العامل، فإنّ الحفاظ على سلامة السمعة ونقائها وتألقها أشدّ وأصعب من اكتسابها.
غير انّ الشهرة أو السمعة لا تُطلب لذاتها، ولا هي هدف بحدّ ذاتها، وإنّما هي تأتي لتكلّل العمل المخلص والجدّ والمثابرة واختيار العناصر النزيهة والكفوءة. إنّ شهرة العسل الذي فيه شفاء للناس، والشمع المستحصل من خلايا النحل للإفادة، ليس هو الذي يجعل النحل في عمل دؤوب لصناعة هذا وإنتاج ذاك، فهو يعمل بعيداً عن الأضواء، ما يهمّه أداء مهمّته بالإخلاص، والتشريف والتكريم والمدح والثناء يأتي من غير بحث عنه. وبناءً على ذلك، فإنّ شعار كلّ فريق يسعى إلى النجاح على الطريقة النحلية هو: النجاح ليس كلّ شيء، إنّما القيام بالجهد لتربح!!
[1]- عُباب البحر: مَوْجُه.
[2]- في المفاهيم الفقهية أو ما يسمّى بـ(علم الوصول) هناك قاعدة رئيسية مهمّة من الضروري مراعاتها في كلّ فريق عمل وهي (قاعدة التزاحم) فإذا كان هناك (مهم) و(أهم) فالأهم هو الذي يقدّم، وهذا ما يعبّر عنه في قواعد العمل اليوم بـ(سلّم الأولويات).
[3]- بحار الأنوار، ج75، ص105، ح4.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق