ينعكس واقع الأُمّة بما يحتويه من عادات وتقاليد وقيم ومفاهيم، وبما تعيشه الأُمّة من أحوال اقتصادية وسياسية واجتماعية على أفعالها وعلاقاتها ومسيرتها عبر تأريخ البشرية الطويل، ويأتي التأريخ ليفسر لنا الأحداث على ضوء ذلك الواقع فإن كانت الأُمّة تعيش حالة يائسة خانعة، فإنها تفسر موقف أبطالها من خلال مرآة واقعها، فالشجاعة والإقدام وتحطيم قدسية الطغاة بكلمة تهز بها أركان أولئك المتكبرين، يعتبر في قاموسها صرفاً من الجنون ورمياً إلى التهلكة، وتبحث في ضوء قيمها ومفاهيمها على ما يؤيد رأيها ويعطيها دعماً مزيفاً. وهكذا تعتبر الأُمّة الثوار بأنهم خارجون عن سنة الحياة، والثورة على أنّها موقف شاذ لا يأتي كنتيجة مطلوبة لأحداث مأساوية تتعرض لها الأُمّة. وهكذا فسّر الجيل السابق أحداث البطولة لدى الطليعة المؤمنة بقيادة الحسين (ع) على أنّها قضاء الله وقدره، فكان قدر الحسين (ع) أن يكون قتيلاً تحت أسنة الرماح الأموية، وكان قضاءً أن تسبى عائلة الحسين (الشهيد)، وتتعرض لأصناف العذاب والهوان. وأصبح عاشوراء موعداً لتمديد الحزن على الحسين والمأساة، من دون تفاعل بعاشوراء كقضية يعيشها الإنسان في كلّ لحظة. فجسموا الثورة في أُطر لا تتعدى حروف الكلمات وأشعار الرثاء وقصائد البكاء، فكان أن تخلفت الأُمّة عن واقع عاشورائها وحسينها، فأصبحت على ما هي عليه. في صراع الحياة المستمر من أجل احتلال مركز القيادة وتوجيه الشعب، تتصارع قوتان: قوة تريد الحياة لها فقط، فالأموال في قبضة يدها، وقدرات الجماهير تحت سيطرتها، فتعطل وتجمد تيار الحياة المتدفق من عطاء الأُمّة وإبداعها، وتضرب بيد من حديد على جماهير الأُمّة فتخنق حريات الناس، وتمارس الحكم الدكتاتوري حيث تعتبر نفسها فرضاً على الكلّ، والوريثة الشرعية لقيادة الأُمّة وتوجيهها وتسلط سيفها على الناس فتخنعهم وتستعبدهم، وتستنزف ثروات الأُمّة وتعبث بمبادئهم ورسالتهم، وتظل تقتل المعارضين الذين يقفون بدمائهم ليسجلوا موقفاً عنيداً ضد تلك السلطة الدكتاتورية، ويبعثون بدمائهم فجراً جديداً للأُمّة تخلع فيه عن نفسها لباس الذل والسكوت والخنوع. والآن يبرز سؤال يقول: ما هو الارتباط بين واقع الأُمّة كقضية وواقعة كربلاء كقضية؟ إنّ الحسين بن عليّ، ليس مجرّد رجل يحمل اسم «حسين» مع لقب «أبو عبدالله»، إنّ الجسد الذي كان يحمل هذا الاسم، وذلك اللقب ولد قبل أربعة عشر قرناً، وقتل قبل أربعة عشر قرناً، وحاجتنا إليه لم تولد حتى تنتهي، فنحن لا نعبد الأسماء ولا نعبد الأجساد. أما الذي نحتاج إليه من الحسين لعلاج واقعنا المزري، فهو عمل الحسين، وفكر الإمام الحسين وقيم الإمام الحسين وحاجتنا إلى ذلك كلّه تزداد يوماً بعد يوم، ولا يمكن أن تنتهي في أي يوم انّ الحسين هو إمام في الفكر، كما هو إمام في الجهاد ومواقفه في ذلك تعني لنا طاقة فكرية إلى جانب طاقة جهادية. والإنسان في الحياة بحاجة إلى الفكر ليكتشف به المجهول، وبحاجة إلى الجهاد ليدافع عن الفكر، وهو لذلك بحاجة إلى تعميق فكره، وشحذ جهاده أكثر من حاجته إلى الخبز والماء. فما قيمة الخبز؟ وما قيمة الماء؟ إذ لم يكن الإنسان يفهم مصالحه من مفاسده؟ ولم يستطع أن يدافع عن ذلك؟ ما قيمة الإنسان البهيمة: همه علفه؟ وما أشرف الإنسان المجاهد حتى فيما لو لم يملك الماء والخبز؟ ولأننا لا نعبد الأجساد، فليس اهتمامنا بالإمام الحسين لأي اعتبار جسدي، وإنما لاعتبارات نضالية وأيديولوجية. فلا يجوز أن يقال لنا: لقد قتل الحسين بن عليّ مرة واحدة، فلماذا تهتمون بمقتله كلّ سنة؟ ذلك لأنّ الذي قتل من الإمام الحسين كان هو جسده الطاهر. أما الذي بقي منه فهو نوره وفكره وطريقة حياته وجهاده. كلّ ذلك لم يمت من الإمام ولن يموت، بل يزداد يوماً بعد يوم وتزداد الحاجة إليه يوماً بعد يوم أيضاً. ونحن إذ نشعل كلّ عام في أعماقنا شموع الحزن عليه، فليس لأجل أن تخلد مأساته، وإنما لأجل أن نتعرف -في ضوء شموع الحزن- على طريقة حياته ونوعية جهاده وكيفية تضحيته من أجل عقيدته. الحسين يعني استمرار الجهاد من أجل كنس مآسي البشرية، وكلما ازدادت هذه المآسي كلما اشتدت الحاجة إلى الحسين. فهل انتهت مآسي البشرية؟ وهل انتهت سيطرت المال والقوة والسلطان؟ هل همدت الحروب التي تشعلها المصالح والأحقاد؟ هل تبخرت القيم الجاهلية من رؤوس الناس؟ إنّ البشرية تزداد -كلّ يوم- سحقاً تحت حوافز الجهل والحرب والحقّ. كلّ عام يمرّ يزداد الإنسان ابتعاداً عن قيم الله، ومن ثمّ يزداد مأساة على مأساة، ولذلك تزداد حاجته إلى تفجير قضاياه من أجل تغيير واقعه، والإمام الحسين كتجربة رائدة في هذا المجال يزداد تألقاً ونمواً، لأنّه ليس ذاتاً مجرّدة، وإنما قضية مقدسة تطرح نفسها كلّ يوم، وليس فقط كلّ عام. وتأريخ الحسين، لي مجرّد حكايات وقصص رائعة من البطولات، وإنما هو مشعل على درب النضال من أجل الله. وكلّ إحياء للتأريخ النضالي -من أجل الله- هو إحياء للضمائر، وتأكيد لقيم الله في مواجهة القيم الجاهلية التي تزيد من مآسي الإنسان. وما دامت الضمائر تزداد موتاً كلّ عام، وما دامت القيم الجاهلية تزداد انتشاراً واطراداً، فإنّ الحاجة إلى تقمص قيم الحسين تزداد وتطرد. إنّ الكثيرين يظنون أنّ الحسين قد انتهى، ودليلهم في ذلك أن يزيد قد انتهى. فبحكم المقابلة بين يزيد والحسين، لا يمكن أن نحكم ببقاء الحسين. ومن الطبيعي أنّنا إذا فسّرنا يزيد كرجل كان يعيش قبل ألف عام، ومات قبل ألف عام. فإنّ يزيد قد انتهى. وكذلك إذا فسرنا الحسين. أما إذا فسرنا يزيد كخط للحياة، يمكن أن ينخرط فيه ألف إنسان في ألف عصر، فإنّ يزيد لم يمت بدليل أنّ خطه لا يزال يمتص الآلاف من أصحاب العقليات الملحدة في كلّ أنحاء العالم. أنّ يزيد كنموذج خاص في الحياة لم يمت، وكذلك الإمام الحسين أنّه نموذج خاص في الحياة، ويمثل خطاً يمكن أن ينخرط فيه ألف إنسان في ألف عصر. لهذا فهو لم يمت. والمعركة التي نشبت في كربلاء بين أنصار خط يزيد، وأنصار خط الحسين لا تزال تستقر في كلّ مكان وفي كلّ زمان. ومن هنا كان «كلّ يوم عاشوراء وكلّ أرض كربلاء» وماذا عنا الآن؟ نحن إذا أحيينا الحسين -بأي شكل مشروع- فذلك يعني أنّنا قمنا برش النور على خطه، كما انّ إحياء خلافة يزيد -بأي شكل كان- يعني إحياء نفسياته وأهدافه من خلال رش الضوء على خطه الخبيث في الحياة. إذا آمنا أنّ الحسين لم يكن إمام عصره فقط، وأنّ ثورته المعطاة لم تتفجر في صحراء كربلاء لمقاومة يزيد ذلك العصر. وإذا آمنا أيضاً أنّ تضحيات الحسين لا توقف لزمان غير زمان، وإنما فتوحه أمام كلّ جيل وكلّ عصر وكلّ أرض. وإذا آمنا أنّ ثورة الحسين كذلك، فالسؤال الذي يصرخ فينا مستغيثاً، هو: إن لم تكن شهادة البطولة الحسينية لزمانها فقط، فلأي زمان هي؟ وإن لم يكن عاشوراء الثورة لأرض كربلاء فقط، فلأي أرض هو؟ إنّ إيماننا بالحسين كجبهة حقّ ثأر ضد جبهة الباطل يزيد قبل أكثر من ثلاثة عشر قرناً من الزمان، وفي أرض تسمى كربلاء، لا تعني أنّ تلك الثورة اقتصرت على ذلك الظرفين من الزمان والمكان، وإنما كلّ أرض هي أرض خصبة لزرع بذور الثورة. وإن كان زمان هو ميلاد للثورة، لماذا؟ لأنّ صراع الحقّ والباطل هو صراع على مرّ الأجيال وفي كلّ مكان. ولذلك أصبحت كلّ أرض كربلاء وكلّ يوم عاشوراء، ويبقى الصراع بين الحسينيين واليزيديين مستمراً حاضراً ومستقبلاً. صحيح انّ الحسين حارب يزيد وقاتل يزيد وأسقط الشرعية المزيفة في الحكم الأموي الدموي. ولكن الأصح أنّ الحسين حارب باطل زمانه وناهض فساد زمانه وقاوم ظلم زمانه وحارب استهتار زمانه قاتل المتلاعبين بأموال الشعب في زمانه. فيزيد أصبح وصمة الباطل أبداً، إذ كان يمثل الباطل في أعماله والفساد في أقواله والاستهتار في حكمه والظلم في الشعب والتلاعب بمقدراته أبان حكمه الجائر. أما الحسين فأصبح رمز الحقّ أبداً، إذ كان يمثل الحقّ والعدل والحرّية والمسؤولية التي حملها في زمانه.
لا فرق فمنبعهم واحد: لما جاء دور الحسين في التحمل القيادي لأوضاع الأُمّة، رأى أنّ حقوق الشعب مساوية، والطبقات العاملة تزرح تحت نير ظلم لا يرحم، وأصلاب الحرية ترفع على قرابين بشرية بريئة. فوقف الحسين ضد هذه الأوضاع رافضاً التسليم للواقع. وهكذا يجب أن يكون كلّ مؤمن رسالي يحمل رسالة الحسين وهو دورنا نحن في تحمل الدور القيادي. فلنسأل الحسين عن دورنا في مثل هذه الأوضاع؟ بالطبع ستكون إجابته بوضع علامة الثورة على هذه الأوضاع، بالطبع سيكون حديثه مغناً «ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقاً»، بالطبع سيلقى بيان الثورة إيذاناً بالبدء في التحرك، انطلاقاً من قول الرسول الكريم -صلى الله عليه وآله وسلم- : «مَن رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهده مخالفاً لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير ما عليه بفعل أو قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله»، فإذا لم تتحرك الأُمّة نحو تغيير أوضاع فاسدة ناشرة كهذه، ووضعت التبريرات الخائنة أمامها وسكنت وهادنت واستسلمت للواقع، فلا تنتظر من ثائر كالإمام الحسين إن سكت على ذلك، انّه سيخاطبها وبلغه الأحرار الثائرين: «تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً حين استصرختمونا والهين، فاصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في إيمانكم، وحششتم عليناً ناراً أوقدناها على عدونا وعدوكم، فأصبحتم الباً على أوليائكم ويداً عليهم لأعدائكم بغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيه إلّا الحرام من الدنيا أنالوكم وخسيس عيش طمعتم فيه»، فإن من لم يكن في جبهة الحسين يناضل في سبيل المبدأ، فإنّه وبلا أدنى تردد سيكون في جبهة يزيد، ذلك لأنّه يهادن أوضاعاً مميتة وحكاماً طغاة من غير عدل أفشوه في الأُمّة، ولا أمل فيهم لإصلاح أوضاع الأُمّة بهم. وفي وضع وظروف كهذه ثار الإمام الحسين وأعلن أمام الجماهير المحتشدة في صحراء القادسيات عن منطلق ثورته، فأومىء بالإشارة في خطابه الجماهيري إلى حكومة الأمويين قائلاً: ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء واحلوا حرام الله وحرموا حلال، ها هي تنطلق الثورة من حنجرة الإمام الحسين فيسقط على صحراء كربلاء لتنبت من دمائه الثائرة أغصان جديدة، هم اليوم طلائع الأُمّة التي تغير الفساد، ويحتل الإنسان إلى واقع العدل والحرّية والتفاني المخلص في إصلاح المجتمع وحل مشاكل الأُمّة، ومن ذلك المنطلق تثور، وتثور لتحطيم قلاع الظلم أينما تواجد ومتى وجد. وفي حالة السكوت والتخلف والقبول بالأمر الواقع، ترتطم القوى المسؤولة عن التغيير بمواقف شتى من قِبَل الناس، حينما تريد تلك القوى تفجير موقف ما أو إعلان ثورة أو تصحيح مسار أو المطالبة بحقّ. والذين يقفون ضد التغيير والتصحيح، تتمثل مواقفهم كالتالي:
-الموقف المصلحي: وهؤلاء الذين يربطون الأحداث بالنظرة المصلحية الذاتية، فيتقبلون في مواقفهم ويلبسون ألواناً مختلفة حسب ما تقتضيه المصلحة، وهم مع الحكام حتى ولو كانوا ظلمة يظهرون الفساد، وهم معهم وعلى تأييد مطلق اسم، يسدلون الستار عليهم فيعبثون في الأرض فساداً واستهتاراً، لا يهمهم أن حبست الكلمة من أن تنطلق من أفواه المحرومين، أو أن يرموا الجائعين بحجر، وهم الذين يدورون في محيط «الأنا»، ويعتقلون أنفسهم إلى سجن الذات فيكونون عن الشعب ومطالبة أبعد. ولأنّ هذه الطبقة تبيع ضميرها للباطل، فلا يهمها مطلقاً أن تدوس على القيم والمبادئ أو تتآمر على الأبرياء فهي قد فقدت إنسانيتها وباعت ضميرها، فما الذي يردعها عن ارتكاب الجريمة؟ هكذا كانت الطبقة المصلحية متمثلة في يزيد وأذنابه الساقطين وراء بريق الدنانير متمثلة في سمرة بن جندب الذي يفك دماء ثمانية آلاف بريئاً من أهل البصرة، وحينما يسأله زياد: هل تخاف أن تكون قد قتلت بريئاً؟ فكان جوابه وبكلّ وقاحة لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت؟! فعلى أكتاف هؤلاء المارقين ترتفع قواعد الظلم وتعلوا رايات الإلحاد، هؤلاء الذين ينتشرون في كلّ زمان ومكان ليكونوا الصخرة التي لابدّ أن تتحطم بفأس الثورة.
- موقف الخنوع والقبول بالواقع: وهؤلاء هم الذين ارتضوا لأنفسهم موقف المتفرج وترديد عبارة: «مالنا والدخول بين السلاطين»، ارتضوا لأنفسهم موقف الخنوع والخضوع للواقع، وبذلك فهم يشكلون عبئاً ثقيلاً على الثورة أن تتجاوزه، وليس غريباً أن يقول الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- : «الساكت عن الحقّ شيطان أخرس»، وهم يدرؤون مواقفهم هذه بأسباب عجيبة تبين عدم إدراكهم لواقعهم وحياتهم بل ومبادئهم، أنّهم يخطأون الدين حين يحصرونه في بوتقة العبادات فقط، وينظرون إلى الإسلام على أنّه دين آخرة، وليس دين حياة، جاء ليسعد البشرية.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق