• ٢٦ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

جدي دافنشي

د.ماجدة غضبان المشلب

جدي دافنشي
                         انفق جدي وقتاً طويلاً..

لا ريب في ذلك..

الغرفة بما فيها من قطع أثاث وكُتُب غطيت بنسيج عنكبوت متداخل لا أوّل له ولا آخر..

واللون الوحيد الذي طغى على المكان كلّه.. الجدران والسقف مع طلاء إطار النوافذ والستائر البالية هو اللون الرمادي.. حتى بعد تنظيفها من الغبار، وإزالة كلّ نتاج العناكب لسنوات طويلة..

نظارة جدي في مكانها، كما وضعها قبل أربعين عاماً، قلمه مع زجاجة حبر تحوّل ما فيها إلى قطعة من الحجر لم يحظ بلون مختلف ولا الحبر أيضاً..

الأوراق رغم اهترائها واصفرارها حملت ذات اللون..

الأثاث كلّه رمادي كسحابة لم تجهضها الرعود..

صُوره القديمة، ملابسه مع العث..

ليت أبي ترك لي شيئاً سوى المفتاح مع الوصية..

شيئاً ما يُفسِّر حبّ جدي للون كئيب ومحير كهذا اللون، ألم يدخلها مطلقاً؟.

هنالك ما هو واضح حقّاً: إنّ جدي قد عاش عمراً طويلاً هنا، بين هذه الجدران الرمادية والأثاث والحبر والأوراق، يكتب دون توقف..

مخطوطات ضخمة على المكتب العتيق، مخطوطات على الأرض والرفوف..

قبل أن يجرفني فضولي للكشف عن سر رمادية غرفة جدي، لم أشعر بحماس شديد لفتح مجلداته وقراءة ما كتب..

جلست أرضاً خشية أن يتهاوى الكرسي أو المكتب، ووضعت في حجري أقرب مجلد إليَّ..

ظنّنت أنّ الصفحات فارغة للوهلة الأولى، لكنّي حين اقتربت من النافذة، لمحت تحت الغبار لوناً باهتاً لكلمات حائلة اللون..

بُـهـِث..، الورق رمادي.. والسطور بلون مماثل؟؟؟.

لولا الغبار لما تبيّنت خشونة الحبر على الورق الذي لامسته أصابعي معتلياً الكلمات الشبحية هنا وهناك..

مسحت الورق بأكمامي..

لا شك في انتظام سطور باهتة يصعب أن تقرأ..

ولا أُبالغ إن قلت إنّ مجرد محاولة قراءتها هي الجنون بعينه، وإنّ العثور على طريقة ما لرؤيتها كما يجب تُعدّ ضرباً من الخيال..

تناولت مجلداً آخر..

السطور الرمادية ذاتها.. والكلمات مشفرة بزمنها.. بلونها، وباختيار جدي للون أحمق..

فتحت المجلدات التي على المكتب وعلى الرفوف..

كلّها متماثلة..

هل غيّرت السنون ألوان هذه الغرفة المدهشة؟؟..

أم إنّ جدي كان مولعاً بهذا اللون؟؟..

ماذا عن أبي؟؟..

هل احتار حيرتي ثمّ شعر باليأس وغادر عاجزاً.. ثمّ لم يعد أبداً.. أو يأتي على ذكر لغز جدي لا في حياته ولا في وصيته؟؟.

تجمعنا في الغرفة جميعاً الأحفاد وزوجات الأحفاد وأولادهم..

فتحنا كلّ المجلدات..

عبثاً حاولنا قراءة سطر واحد..

أحد أولادي عرَّض إحدى الصفحات لبعض الحرارة عسى أن يسود سطر فتتضح الكلمات..

صبغنا صفحة أخرى بألوان مختلفة..

اتصلت بعالم آثار علّ هنالك طريقة نجهلها للكشف عن محتويات مجلدات الجد الغامضة..

في النهاية، وبعد شهور من المحاولات المستمية لفك شفرة جدي الدافنشية، افترقنا وفي صدورنا حسرة وألم، أن تتحوّل أربعون عاماً من الزمن إلى جبل شاهق بيننا وبين كلّ ما جرى يوماً في هذه الغرفة.. كلّ ما أنفق جدي عمره فيه.. كلّ ما حوته المجلدات.. كلّ ما أصبح الآن مجهولاً أبداً لا أمل في الكشف عنه في المستقبل القريب.. كما أظن..

ارسال التعليق

Top