• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

تأملات جمالية تربوية

د. أبو بكر القاضي

تأملات جمالية تربوية

قال تعالى: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) (عبس/ 3).

 

وما يدريك لعله يزكى:

(نحو ترشيد التربية الانتقائية في مجال الدعوة)

تقوم كثير من المدارس التربوية في حقل الدعوة إلى الله على أساس مذهب التربية الانتقائية وهي تعني البحث عن الطاقات المحددة والمواهب المميزة والتركيز عليها لإنتاج كوادر صلبة تقوم عليها الدعوة في كلّ مكان وهذا لا شكّ فيه درب مسلوك وأوّل مَنْ سلكه هو رسول الله (ص) في النظر الثاقب في تربية أصحابه رضوان الله عليهم وإبراز طاقاتهم ومواهبهم المتميزة لخدمة هذا الدين وإخراج قادة يقودون العالم كلّه به وبحره قاصيه ودانيه إلى الله تبارك وتعالى..

ولكن في خضم ذلك التركيز والانتقاء للأفراد قد تقصر النظرات مع متطلبات المراحل المتنوعة في الدعوات على طاقات معينة أمثال الطاقات التي تهدف العمل العلمي والتربوي فقط ويتم تهميش مثلاً الجانب الحركي والاجتماعي والسياسي والدعوي على الناحية الأخرى أو العكس.. بالعكس.. وتتفاقم المشكلة حين يتم تحقير كلّ ما لا يخدم تلك الأهداف قصيرة النظر ويتم تهميشها حتى ولو كانت معروفاً عرفه الشرع وجوباً عينياً أو كفائياً أو ندباً أو إباحة حتى!! لاسيّما في تلك المرحلة التأريخية الحاسمة التي تمرّ بها أُمّتنا في كلّ المجالات فكان لابدّ من هذه التذكرة لتتسع المدارك والآفاق...

في خضم الانتقاء والاختيار على حسب متطلبات لا أقولُ مسجد ولا منطقة بل حتى متطلبات مدينة بأسرها يظلم الكثيرون أرباب طاقات متفاوتة نعم.. ولكن لا تخلو من خير وحب للخير.. قد لا يستطيع أن يخطب.. قد لا يستطيع أن يغوص في أعماق الكتب ليأتي بفرائد الفوائد وعجائب الترجيحات في المسائل العسيرة..

قد لا يستطيع أن يحسن صوته بالقرآن.. وإن كان يحفظه عن ظهر قلب أو حتى لا يحفظه ولكنه حين يتلى عليه القرآن يبكي من خشية الله.. لكنه يستطيع أن ينفق في سبيل الله القليل أو الكثير لبناء مساجد وإعانة طلاب العلم والخطباء...

قد لا يستطيع أن يكون لغوياً بارعاً.. ولكنه يجيد لغة القلوب في دعوتها إلى الله تبارك وتعالى..

قد يستطيع أن يؤذن.. أن يطهر بيت الله.. أن يسعى على اليتامى والأرامل قد يستطيع إلخ.. ما يدخل تحت الحكمة النبوية الأصيلة "لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلق أخاك بوجه طلق".

لُب المشكلة في الحقيقة أنّنا لا نفهم قضية تفاوت القدرات والطاقات ولذلك وبشعور أو لا شعور نهمش بعضها عن بعض ونفضل بدون وجه للمفاضلة بينهما فينتج الإهمال والإعراض الذي قد لا ينفعنا ولا ينفع المتربّى فضلاً أن يضره ويفتنه ويجعله يتساقط مع المتساقطين..!!

في ذلك عاتب الربّ – تبارك وتعالى – نبيه محمّد (ص) حين كان يدعو كبراء قريش وهو يريد عزة ومصلحة هذا الدين في وقت الاستضعاف.. جاءه في تلك اللحظة الذي يعتصر فيها قلبه (ص) من صد هؤلاء الكبراء له ولدعوته وهو الرؤوف الرحيم الحريص الذي كاد يُهلِكَ نَفسَه حزناً عليهم فضلاً أنّهم وجهاء سيزيدون وزن الدعوة في أنظار القبائل والعرب... جاءه في تلك اللحظة رجل لو نظر أحدنا إليه وهو لا يعلمه لقال لن يستطيع أن يخدم الدعوة بشيء ولكن هيهات.. كم في الزوايا خبايا وكم في الناس بقايا!!

وسبحان من لا يعلم أقدار خلقه إلّا هو تبارك وتعالى..

جاء الأعمى عبد الله بن أم مكتوم (رض) يقول له (علمني مما علَّمك الله)!.. الآن؟؟ في ظل ذلك الموقف.. فلم يرده النبيّ (ص) ولم يعنفه ككلامنا نحن ولكنه فقط عبس بوجهه اقتضب (ص) وأزيدك بياناً ألا تنس أنّ عبد الله بن أم مكتوم لم يرَ تلك العبوسة ولم تجرح مشاعره لأنّه لم يَرَها.. ولكن.. الله رآها عزّ وجلّ.:. فأنزل: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى) (عبس/ 1-4).

ميزان السماء مختلف تماماً عن ميزان الأرض.. ميزان الجاهلية مختلف تماماً عن ميزان الإسلام.. فالمرء لا يوزن بجاهه ولا بصورته لا بماله ولا بجسمه ولا بعشيرته إنّما يوزن بقلبه...

"إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ولا أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم".

على قدر ما في قلبك يكون لك عند الله حتى وإن لم يظهر منك شيء لعجزك عن العمل.. حتى وإن لم تظهر ثمرة العمل فكفاك قلبك مؤنة ذلك.

(وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (النساء/ 100).

وإذا لم تصل في الظاهر فقد وصلت في الحقيقة عند الله يبذل الجهد وصدق وإخلاص وتجرد القلب..

نعم عباد الله.. رسالة إلى كلّ مَنْ يتولى تربية أو متابعة لا تحتقر قدرات فرد ولا تهمشها ولا تركن إلى موازين ظاهرة في المال والحسب والنسب حتى ولو كان الفضلاء..

ولا حتى للباقة أو حسن صوت ولا نعني ألا نستغل الطاقات المتوفرة بالعكس إنّما نحن نريد استغلال القليل فضلاً عن الكثير التي تشخص الأبصار إليه ويخطف الانتباه.. إنما ننبه إلى المدفون المغمور.

"ربُّ أشعث أغبر لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره".

يخدم دين ربّه بقلبه وما تحسنه جوارحه أينما كان حسب ما جاءت به النصوص وحسب استطاعته وهو في تلك الاستطاعة التي تراها محدودة هو يسير ويقطع المسافات.

ألا تتسألون لماذا؟؟

لأنّ الأوّل له درهمان هذه طاقته فحين يبذل درهم يعنى ذلك أنّه سيموت إن بذل الآخر جوعاً...!

أما الثاني فطاقته مئات مئات فأخرج مائة واحدة فالأمر نسبي وكلّ على قدر طاقته..

عبد الله بن أم مكتوم خير مَنْ ملء الأرض مِنْ أبي جهل هذا هو ميزان الإسلام وميزان السماء.

ونحن نطبق ذلك على واقعنا ونحن كلّنا مسلمون.. ولكن تتفاوت درجات الإيمان وهذا التفاوت لا يعلمه إلّا الله ولذلك حرّم غمط الناس والسخرية منهم عسى أن يكونوا خيراً منا قد يوجد العالم العابد في الظاهر وهو يريد أن يقال عنه عالم وفي نفس الوقت يوجد طالب العلم الخامل الذِكْرِ.. المخلص وله معراج يعرج فيه قلبه إلى السماء.. وكما قلت هذا التفاوت لا يعلمه إلّا الله لذلك علينا استيعاب طاقات الصالحين كلّها ولا نبخل بجهدنا على إنسان.. أو مكان مهما لَبَّس علينا الشيطان أنّ هذا الإنسان أو المكان لا رجاء فيه.. لا... الرجاء في الله كبير. عليك البذل وهداية البيان وعلى الله هداية التوفيق.

ونحن كما نحتاج للعالم نحتاج للمفكر وكما نحتاج للفقيه نحتاج للمحدث.. والأديب والداعية والمهندس والطبيب وغيره مِنْ أرباب المهن والصنائع والعلوم لبناء حضارة متكاملة الجوانب ذات طابع إسلامي أصيل. هذا ما نسميه باختلاف التنوع الواجب فيه التكامل والتعاون مع انضباط ضوابطه.

ونحن هنا لا نقول أنّ النبيّ (ص) حقّر عبد الله ابن أم مكتوم. (ص) ولكنه اجتهد أنّ دعوة هؤلاء الآن أفضل مِنْ تعليم عبد الله بن أم مكتوم الذي وصلته الدعوة أصلاً فاقتضب وعبس لذلك.

فنحن نستدل بالأدنى على الأعلى فإن كان عوتب (ص) على ذلك وهذا شيء طفيف ولكن في حقّ المصطفى خليل الله ثقيل وعاتبه ربّه في ذلك.

فما بالك بما يقع منا أحياناً مِنْ تحقير وتهميش وانتقاء مع ظلمٍ لكثير مِنْ حقول المواهب والطاقات وندفنها لأنّنا ندعي أنّنا لا نحتاجها.. بل نحتاج كما سبق البيان لإقامة خلافة على منهاج النبوة لسد كلّ الثغرات وتغطية كلّ فروض الكفايات..

ومع ذلك نؤكد أنّ على كلّ مسلم حد أدنى في العلم والعمل والدعوة لا ينفك عنه وجوبه حتى يصلح اعتقاده وعبادته وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر. لأنّ كلّ زمان يحتاج إلى تحديات مختلفة مثل الآن في زماننا تخصصات نحتاجها ولم تكن موجودة قبل ذلك (الكمبيوتر – الترجمة – هندسة الصوت – التنمية البشرية – العمل السياسي وغير ذلك) المهم والخلاصة ألا نبخل بالدعوة ولا بالوقت على مَنْ يرجوه منا، فما أدرانا لعله يزكّى فيخدم دين ربّه أي خدمة ولا يخطر على البال كيفية تلك الخدمة.

 

المصدر: كتاب شلال الروح (تأملات جمالية في كتاب الله)

ارسال التعليق

Top