◄قد تتساءل بينك وبين نفسك عن أفضل الوسائل التي تستطيع بواسطتها أن تجعل لشخصيتك وزناً كبيراً في المجتمع الذي تعيش فيه. ولقد تحار في الإجابة عن هذا التساؤل. ذلك أنّك قد تقول لنفسك إنّه لكي تكون لك قيمة كبيرة في أنظار الناس فلابدّ لك من إحراز قدر كبير من المال فتصير واحداً من الأغنياء الذين يشار إليهم بالبنان. ولكنك سرعان ما تشك في هذه الإجابة عندما تتذكر بعض الأشخاص من معارفك حازوا ثروات ضخمة، ولكنهم مع ذلك لم يحظوا بالوزن الكبير لشخصياتهم في المجتمع. فهم أغنياء ولكنهم محتقرون من غيرهم أو لا يشار إليهم بالبنان. وبناء على هذا فإنّك ترفض هذه الإجابة عن تساؤلك مؤكداً لنفسك أنّ امتلاك المال الوفير ليس كفيلاً بنوطك بالقيمة العالية بين أهلك وذويك.
إذن، عليك بالبحث عن إجابة أخرى لتساؤلك عن أفضل الوسائل التي تجعل لك وزناً كبيراً ووضعاً مرموقاً في المجتمع. إنّك في هذه المرة تبحث عن شيء آخر غير المال.
إنّك تقع على شيء جديد هو السلطة. فالرئاسة أو السلطة مرشحتان في هذه المرة لكي تشكلا الوسيلة الناجعة التي تجعل لك قيمة كبيرة في أنظار الناس. من ذلك مثلاً أن تكون مديراً أو رئيس مجلس إدارة منهم صفر على الشمال برغم احتلاله لمنصبه من الناحية الرسمية. فالسلطة الحقيقية تكون في يد أحد المرؤوسين. ومن ناحية أخرى فإنّ الرئاسة في العمل إنما هي توكيل مؤقت من الدولة أو الشركة. فبعد أن تزول الصفة الرسمية للمدير أو رئيس مجلس الإدارة أو الوزير، فإنّ كلّ شيء يزول من قبضته. إذن، فالرئاسة أو السلطان شيء مؤقت لا يرتبط بصميم الشخصية. إنّه إعارة سرعان ما ينتهي أجلها. وبالتالي فإنّ ما توفره للمرء من قيمة، إنما هو شيء مؤقت. ومعنى هذا أنّ الوزن أو القيمة التي تحصل عليها نتيجة إحرازك للرئاسة أو السلطان، إنما هي قيمة مؤقتة سرعان ما تتبخر أمام عينيك، وعندئذ تصاب بالإحباط وخيبة الأمل. فمن كانوا يطأطئون لك الرأس وينحنون في خضوع وخشوع أمامك تجدهم بعد أن تفقد كرسي الرئاسة والسلطان وقد أخذوا يلوون أعناقهم عليك وينظرون إليك بغير اكتراث وبلامبالاة مؤذية لمشاعرك.
فأنت إذن ترفض أيضاً هذه الإجابة الأخيرة عن تساؤلك عن أفضل وسيلة تجعل لشخصيتك قيمة في أنظار الناس بعد أن رفضت الوسيلة الأولى وهي إحراز الثروة الطائلة. فماذا يمكن أن تتناوله بعد هذا لكي تختبره لتستبين مدى صلاحيته لكي يكون وسيلة ناجعة لمنحك قيمة كبيرة ووزناً عظيماً في المجتمع؟
فلنجرب هذه المرة وسيلة معنوية هي الحصول على العلم تشحن به رأسك. فلتفكر في مسألة الحصول على المؤهلات الدراسية العالية. قد يكون الحصول على الدكتوراه مثلاً كفيلاً بأن تصير شخصية عظيمة ولها وزنها في المجتمع. فما رأيك في هذه الفكرة؟ إنّك ستقول لي "انتظر لحظة حتى استعرض أمام ذاكرتي مجموعة من الأفراد الذين حازوا أعلى الدرجات العلمية لكي أتأكد من أنّهم جميعاً قد حظوا بالمكانة الرفيعة في أنظار الناس من حولهم. آه... إني لاحظت في أثناء تذكري لتلك الشخصيات أنّ بعضهم لم يكونوا حائزين على تقدير الناس فحسب، بل كان ينظر إليهم باحتقار واستخفاف.
وهكذا نجد أنّك لم تقتنع أيضاً بأنّ الحصول على المؤهلات الدراسية العليا كفيل بأن يجعلك عظيماً في أنظار الناس من حولك. إذن فإنّ عليك أن تبحث عن إجابة أخرى غير الإجابات الثلاث السابقة التي رفضتها جميعاً. إذن فما الذي سوف يقع عليه اختيارك هذه المرة؟
نقترح عليك بأن تتخذ من مبدأ التكيف أو التواؤم مع مطالب المجتمع ديدنا لك. فلربما يكون اتباعك لهذا المبدأ كفيلاً بأن يعزز مكانتك في المجتمع الذي تتعامل معه وتعيش في نطاقة. ولكن لعلك تتساءل "أليس التكيف أو التواؤم مع مطالب المجتمع لا يعدو أن يكون مبدأً سلبياً، بمعنى أنّه لا يكون للمرء أي دور يلعبه سوى الخضوع والخنوع لتلك المطالب الاجتماعية؟ أليس المنافق أو المرائي أو صاحب الوجهين أو الوجوه الكثيرة، أو الشخص الحربائي الذي يتلون مع كلّ لون يصادفه هو أيضاً شخص متكيف ومتوائم مع المجتمع الذي يوجد فيه. إذن كيف تقدم إليَّ هذا المبدأ التوافقي التواؤمي لكي أتبعه؟ وما قولك في الزعماء والعلماء والمصلحين والعباقرة والأنبياء وكلّ الذين أتوا بجديد مخالفين بذلك عما سبق أن سلكه أبناء مجتمعهم، فلقوا من أجل ذلك ألواناً عديدة من الاضطهاد والتنكيل والمجافاة والنبذ؟ أليس هؤلاء جميعاً قد ضربوا صفحاً عن ذلك المبدأ، واتخذوا لأنفسهم في الحياة مبدأ مبايناً أو حتى مبدأ مضاداً للمبدأ التوافقي التواؤمي؟".
نحن لا يسعنا أمام هذه الحجج الدامغة التي قدمتها إلينا إلّا أن نوافقك على نقضك لرأينا وعدم أخذك باقتراحنا بأن تنهج وفق المبدأ التوافقي التكيفي، ولا يسعنا إذن إلّا أن نبحث لك عن مبدأ خامس بعد أن رفضت المقترحات أو المبادئ الأربعة السابقة التي اقتراحناها عليك. إذن ما عسى أن يكون ذلك المبدأ الخامس الذي نقترحه عليك لكي تتخذه ديدنا لك تنهجه في حياتك؟
إنّنا نقترح عليك – وهذا هو آخر ما في جعبتنا من مبادئ نقترحها عليك – المبدأ الذي جعلناه عنواناً لمقالنا هذا، ألا وهو "بقدر تأثير شخصيتك تتحدد قيمتك". فنحن نعتقد أنّ قدرة شخصيتك على التأثير في الآخرين تحدد قيمتك في الحياة وفي المجتمع من حولك. صحيح إنّ هناك بعض الأشخاص يؤثرون في المجتمع من حولهم بتأثير سيِّئ، فهل لهؤلاء الأشخاص قيمة؟ نعم لهم قيمة، ولكن قيمتهم سلبية. ومعنى هذا أنّ للإنسان قيمتين أو نوعين من القيم: نوع إيجابي ونوع آخر سلبي. فالمهندس الذي يخطط لمشروع معماري ناجح يكون له تأثير إيجابي. وعلى العكس من هذا فإنّ المختلس يؤثر تأثيراً في الاقتصاد القومي أو في حقوق المواطنين الاقتصادية وله قيمة سلبية.
ومن الطبيعي أن نحضك على أن يكون لك تأثير إيجابي في حياتك. وأكثر من هذا فإنّنا نشجعك على أن تنتقي أفضل أنواع التأثير لكي تستعين بها في علاقاتك الاجتماعية. ولعلنا نلخص أنواع التأثير التي يمكن أن تستحدثها في المحيطين بك على النحو التالي:
أوّلاً: التأثير في الخامات بما تكتسبه من مهارات يدوية متباينة. والواقع أنّ تأثيرك في الخامات يمكن أن يكون مباشراً بيديك، كما أنّه يمكن أن يكون بطريقة غير مباشرة بأن تكلف غيرك من أصحاب المهارات اليديوية بأن يحدثوا ذلك التأثير. فأنت تقول "أنا فصّلت بدلة" مع أنّ الواقع أنّ الترزي هو الذي قام بتفصيلها. ولكن حيث إنّك دفعت له ثمن التفصيل فإنّ ذلك النشاط يعود إليك لأنّك سددت ثمنه.
ثانياً: التأثير بالاختراعات، وذلك بأن تستخدم العلوم التطبيقية فتقدم إلى المجتمع أشياء جديدة تساعد على زيادة الرخاء أو السعادة. وهنا أيضاً نقول إنّك قد لا تكون المخترع الحقيقي، ولكنك تكون قد اشتريت الشيء الذي تم اختراعه. فعندما تشتري جهاز تليفزيون لأسرتك، فإنّك تكون بذلك قد أضفت عاملاً مؤثراً في حياتهم وسعادتهم وثقافتهم مع أنّك لم تخترع التليفزيون بل اشتريته فحسب.
ثالثاً: التأثير الاقتصادي. فأنت عندما تصير رب أسرة وتنفق من دخلك على زوجتك وأبنائك، فإنّك تكون بذلك عاملاً هاماً مؤثراً في حياتهم ومستقبلهم، وقد تكون مسؤوليتك الاقتصادية أوسع من أسرتك بحيث تضم إحدى الشركات أو قد تمتد لتشمل وطنك كلّه، فيزداد تأثيرك في قطاع أكبر من الناس.
رابعاً: التأثير المعرفي التنويري. فإذا كنت معلماً، أو أحد المتطوعين لمحو الأمية، أو عندما تكون مهتماً بأبنائك أو بأخوتك الصغار فتقوم بتوجيههم أو مساعدتهم على فهم دروسهم، فإنّك تكون عاملاً مؤثراً فيهم من الناحية الثقافية المعرفية. وإذا أسعدك الحظ بأن تكون كاتباً أو مفكراً أو فيلسوفاً، فإنّ قدرتك على التأثير المعرفي تزداد قوة واتساعاً. فعندما تشيع المعرفة والوعي من حولك فإنّك بذلك تؤكد قدرتك على التأثير في الآخرين. والواقع أنّ الأشخاص الذين يستطيعون التأثير في عقول الآخرين وفي النهوض بهم معرفياً وتنويرياً إنما يكونون بذلك قد ساهموا في بناء شخصياتهم، بل ويكونون قد ساهموا في الارتفاع بمستوى وطنهم، لأنّ تنوير العقول يعد من أهم العوامل في رقي الشعوب وتقدم الأوطان.
خامساً: التأثير الإعلامي. وهذا النوع من التأثير يخص رجال الإعلام بالدرجة الأولى كما يخص في نفس الوقت رجال التربية الذين يشيعون الاتجاهات المرغوب فيها في الناشئة. فرجال الإعلام والتربية لا يقتصرون على بث المعرفة والتنوير في العقول، بل إنّهم يستميلون العقول والقلوب معاً نحو الأخذ بأساليب معيشية معينة في الحياة اليومية وفي الحياة السياسية.
سادساً: التأثير الوجداني. وهذا النوع من التأثير يتعلق بإشاعة السعادة والطمأنينة وراحة البال وإزاحة التوترات والمخاوف من القلوب وأنت تستطيع أن تساهم في هذا النوع من التأثير بسهم وافر، وذلك بأن تكون عامل سعادة وطمأنينة في قلوب المتعاملين معك. ناهيك عن أنّ المعالجين النفسيين – وأنت تستطيع أن تكون واحداً منهم – يعملون على التخفيف من المخاوف والتوترات التي خيمت على شخصيات الأفراد. فحتى بغير أن تتلقى تدريباً في التوجيه النفسي، فإنّك تستطيع أن تلعب دوراً ذا بال في هذا الميدان بإزاء من تتعامل معهم وتحتك بهم وترعاهم. فكن عامل سعادة في قلوب المحيطين بك، وبذا تكون معالجاً لآلامهم النفسية بغير أن تكون طبيباً نفسياً.
سابعاً: التأثير الجمالي. وهذا النوع من التأثير يتأتى لك إذا كنت أنت أوّلاً من متذوقي الجمال في حياتك.. وتذوق الجمال ينصب على جوانب عديدة. حبذا لو كنت متذوقاً الجمال في كلّ شيء: في ترتيب الأشياء، وفي الكلام وأنغامه، وفي حركاتك وإشاراتك، وفي ملابسك التي تختارها من حيث شكلها وألوانها. إنّك إذا كنت متذوقاً للجمال في الشكل واللون والنغمة والحركة، فإنّك تكون بذلك عاملاً مؤثراً في نقل تذوقك للجمال إلى المحيطين بك والمتعاملين معك.
ثامناً: التأثير الأخلاقي. والواقع أنّ التأثير بالسلوك يرتبط أيضاً بتذوق الجمال. فالأخلاق الطيبة جميلة أيضاً. لا تظن أنّ الفضيلة يمكن أن تنسلخ عن الجمال. اعلم أنّ القبح منافٍ للأخلاق الحميدة وحتى إذا أنت اتبعت الأخلاق التي تظن أنّها سليمة ولكنها أخلاق خالية من الجمال، فإنّ سلوكك يكون عندئذٍ سلوكاً قشرياً يكتفي بالغلاف دون اللب. فالفضيلة الخليقة بالاتباع هي الفضيلة المتجسدة في سلوك جميل. ففضيلة بغير جمال فارغة من المضمون إذا صح لنا أن نصفها بأنّها فضيلة.
والخلاصة أنّ تأثيرك في الآخرين بعوامل التأثير التي ذكرناها تتحدد قيمة شخصيتك في نظر نفسك وفي نظر الآخرين في نفس الوقت. ►
المصدر: كتاب شخصيتك بين يديك
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق