• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

القلق.. فكرة

د. لطفي الشربيني

القلق.. فكرة

◄أوحت إلى قراءة أبيات من الشعر نظمها شاعر المهجر "إيليا أبو ماضي" تحت عنوان "الغبطة فكرة" بأنّ ما يذكره ينطبق أيضاً على القلق، فهو يؤكد أنّ الغبطة أي انفعال السعادة والسرور إنما هي مجرد فكرة تنبع من داخلنا ولا ترتبط كثيراً بالظروف الخارجية المحيطة بنا، ويدلل على ذلك بأنّ شخصاً فقيراً لا يملك أي شيء ويسكن في أحد الأكواخ قد يشعر بالسعادة نتيجة الرضا عن نفسه وعن حياته، بينما قد يفتقد ساكنو القصور الشامخة هذا الشعور ليحل محله أجواء من القلق والكآبة رغم ما لديهم من ممتلكات.

إنّ القلق أيضاً قد يكون في أصله فكرة سلبية تسللت إلى داخلنا وبدأت في السيطرة علينا، فقد وجد أنّ أي واحد منا يمكن أن يثير نفسه انفعالياً في اتجاه السرور، أو القلق، أو الاكتئاب تبعاً لما يردده بينه وبين نفسه من أفكار، فعلى سبيل المثال يمكن لنا حين نقول لأنفسنا: "الحمد لله، فالأحوال ممتازة، والمستقبل مشرق بالأمل" فإنّ هذه العبارة يكون لها تأثير نفسي سار ومنشط يظهر علينا، بينما عبارة أخرى نرددها مع أنفسنا تقول: "الحياة كلّها مشكلات ومتاعب لا حل لها" يمكن أن تثير في نفوسنا مشاعر القلق والاضطراب والتوتر وهذا ينطبق حتى على ما يدر في نفوسنا من مشاهد وتخيلات حيث نشعر بالهدوء والارتياح عند التفكير في موقف رومانسي جميل هادئ، بينما نشعر بالقلق والإثارة عند تخيل مشهد حادث أو عنف أو إثارة جنسية.

 

الأبيض والأسود... والرمادي:

مصدر التعب والتوتر والقلق لكثير من الناس هو أنّهم لا يستطيعون قبول "الحال المايل" فهم ينشدون الكمال ويريدون أن تكون كلّ أمور الحياة من حولهم في حالة من المثالية والانضباط وواقع الحال أنّ شيئاً واحداً في كلّ ما يحيط بنا لا يسير بأسلوب مثالي متكامل يخلو من العيوب والنقائص وتلك إحدى سنن الحياة في مجتمعات العالم المختلفة في عصرنا الحاضر ومن هنا تأتي متاعب أولئك الأشخاص الذين يريدون أن تكون الأشياء أما بيضاء أو سوداء أي إيجابية أو سلبية ولا مجال للأمور الوسط في اعتقادهم أو بمعنى آخر اللون "الرمادي" الذي هو خليط بين الأبيض والأسود معاً.

وإذا نظرنا حولنا سنجد أنّ كثير من الأشياء يختلط فيها الحسن بالسيء أو الخير والشر معاً والبعض منا لا يستطيعون التسليم بأنّ علينا أن نقبل الحياة بجوانبها الطيبة والسلبية معاً عادة ما يصطدمون بالواقع في مواقف كثيرة فالشيء الذي يبدو لنا سيئاً قد تكون فيه بعض المميزات لكن البعض منا تكون طريقته في التفكير وتناول الأمور هي التركيز على الجوانب السلبية وتجاهل الإيجابيات ويرتبط ذلك الأسلوب في التفكير بالتعصب وعدم التوافق والقلق ويوضح ذلك قول الشاعر:

"عين الرضا عن كلّ عيب كليلة كما أنّ عين السخط تبدي المساويا"

ومن قبيل الفكرة التي قد تؤدي إلى القلق والاضطراب ما يطلق عليه في علم النفس "التعميم" حيث يميل البعض منا إلى تكوين فكرة وموقف تجاه شيء معين بعد تجربة واحدة برغم أنّ ذلك لا يكفي ليكون حكماً موضوعياً مثال ذلك الشخص الذي يخبرك بأنّ كلّ سكان بلد ما هم من النصابين لأنّه تعرض لواقعة نصب من أحد الأفراد من هذا البلد وفي هذا خطأ واضح ففي كلّ بلد يوجد أناس طيبون بجانب بعض من الأشرار.

ومن أمثلة ذلك أيضاً ما نلاحظه من أنّ بعض الناس لديهم آراء محددة في بعض المسائل لا يحيدون عنها كما لو كانت مبادئ يعتنقونها قال لي أحد الشباب منفعلاً "لا تثق بأي امرأة" ومن الحوار معه أتضح أنّه خاض تجربة عاطفية فاشلة فقد تركته خطيبته بعد قصة حب استمرت لسنوات لتتزوج برجل ثري، وفي جلسة للعلاج النفسي قالت لي إحدى السيدات وكانت مطلقة منذ فترة طويلة حين سألتها عن عدم محاولتها بدء تجربة جديدة من الزواج: "كلّ الرجال مثل بعضهم لا يختلفون" وكانت تقصد أنّ المشكلات التي أدت إلى طلاقها من الزوج الأوّل يمكن أن تتكرر في أي تجربة زواج أخرى والسؤال الآن هو:

كيف تؤدي هذه الطريقة في التفكير إلى الاضطراب النفسي؟

لا شك أنّ التفكير الخاطئ يؤدي إلى أخطاء في الحكم والاستنتاج كما رأينا في الأمثلة السابقة ويترتب على ذلك سوء التوافق والاضطراب النفسي المرضي فالشخص الذي يعتقد أنّه فاشل وعاجز عن تحقيق أهدافه قد يصاب بالاكتئاب رغم أنّ وضعه لا يختلف عن كثير من الناس لهم مثل ظروفه ويعيشون حياتهم بصورة طبيعية والشخص الذي يتوقع دائماً أن يحدث له مكروه أن يكون لديه انطباع أنّ الحياة مليئة بالمفاجآت والمواقف الصعبة غالباً ما يدفعه هذا الاعتقاد والأسلوب في التفكير إلى فقدان الأمن فيظل دائماً في حالة قلق دائم ليس لها ما يبررها.

 

مواجهة فكرة القلق:

من ملاحظتنا عن المرضى الذين يعانون من بعض الاضطرابات النفسية من خلال العمل في العيادة النفسية ومن الملاحظ أيضاً على بعض الناس الذين يتصفون بصلابة الرأي أنّهم عادة ما يستخدمون في عباراتهم عند الحديث عن أي شيء كلمات مثل: "من المستحيل"، "إطلاقاً"، "بالمرة"، "دائماً" وهذه الكلمات التي يميل المرضى وبعض الناس استخدامها باستمرار تدل على خصائص معينة في تفكيرهم ترتبط بالقلق والاضطراب النفسي حيث أنّ تفكيرهم في الأشياء يتميز بالمبالغة في كلّ الأمور والتعميم الخاطئ الذي يؤدي إلى سوء التوافق.

وفي علاج هؤلاء المرضى يجب أن يؤكد المعالج النفسي لمريضه أنّ الحياة لا توجد بها أشياء مؤكدة تماماً والأمور هي في الغالب نسبية وحتى الأشياء التي نراها سيئة ومريرة إذا نظرنا إليها بإمعان واقتربنا منها سنجد بها بعض الجوانب الإيجابية ولتوضيح ذلك اذكر أنّ أحد مرضاي قال لي بانفعال أثناء المقابلة الأولى: "حياتي لا يمكن أن يقبلها أحد أنّني أتعرض إلى ظلم كبير في هذه الدنيا إنّه عالم مليء بالقسوة أنّني دائماً أواجه الحظ العاثر في كلّ منابة ولا فائدة على الإطلاق في أن اتخلص من متاعبي...".

وفي الجلسات المتتالية للعلاج وعند الحوار معه في الأمور التي يرى أنّها مصدر لهمومه أمكن فيما بعد تعديل طريقته في التفكير بمناقشته في هذه الأفكار التي كانت ترتبط بحالة القلق والاكتئاب التي يشعر بها وأمكن له أن يرى بعض الأشياء الإيجابية في حياته بدلاً من تعميم رؤيته السلبية لكلّ شيء وقد صاحب ذلك التعديل في مفاهيمه تعديل فكرته السابقة عن نفسه وعن الحياة من حوله ومن ثم تحسنت حالته النفسية بصفة عامة.

 

طريقتنا في التفكير... وأثرها في حياتنا:

من الأشياء التي تشغل بال الكثير منا من مختلف المهن تحقيق النجاح والتفوق في مجال عملنا وينظر بعضنا إلى النجاح في الحياة على أنّه التغلب على الآخرين في منافسة تسبب له القلق وقد تطول وتتسع مجالاتها لتفسد عليه حياته كلّ هذا وهو يتوقع أن يتخطى العقبات التي يضع نفسه في مواجهتها بهدف الوصول إلى النجاح وقد يصل إلى تحقيق بعض أهدافه في الحياة بالفعل لكن ذلك لا يعني تحقيق السعادة والإشباع بل قد يفتح الباب لعقبات أخرى تسبب له المزيد من القلق والتعاسة كلّ ذلك نتيجة تبني أهداف غير واقعية وغير معقولة أنّها مقياس النجاح إذا تحققت لكن الواقع أنّ النجاح مسألة نسبية وقد يكون ما حققه أوناسيس المليونير المعروف في جمع ثروة هائلة مما يعد نجاحاً متميزاً أقل بكثير مما تحقق لأبي المزارع البسيط من ريف مصر من نجاح إذا أخذنا في الاعتبار ما يجب أن يصاحب النجاح راحة وسعادة وإشباع.

ومن الآثار الهامة لطريقتنا في التفكير على حياتنا بصفة عامة ما يلاحظ من أثر وسائل الإعلام في تغيير اتجاهات الناس والتأثير في الرأي العام حيث تؤثر على طريقتهم في التفكير في المجالات المختلفة ويستخدم ذلك الأسلوب في الدعاية والإعلان أيضاً.

ويمكن من خلال الإقناع أيضاً تغيير طريقة التفكير التي تؤدي إلى التعصب والاتجاهات العنصرية لدى جماعات كبيرة من الناس ويلاحظ أنّ المعلومات التي تتوفر لدينا عن موضوع معين تسهم في تكوين اتجاه فكري موضوعي نحو هذا الشيء مثال ذلك ما حدث في الولايات المتحدة حين قامت حملة كبيرة في المدارس تهدف إلى زيادة المعلومات والمعرفة فيما يختص بالأقليات المختلفة التي تعيش في المجتمع هناك وقد أسهم ذلك في تقليل العدوان والكراهية لتلك الأقليات أي أنّ المعرفة قد انعكست على طرق التفكير وعلى المشاعر فتم تغيير الأفكار القديمة الغير مرغوبة أو الخاطئة بأخرى صحيحة إيجابية وبنّائة.

والخلاصة.. بعد أن تأكد لنا ارتباط الفكرة التي تدور في ذهن أي منا بحالته الانفعالية فإنّ عليك – عزيزي القارئ – إذا ساورك القلق أن تحاول التخلص منه عن طريق محاولة الرجوع إلى الفكرة التي دارت بخاطرك وتسببت في النهاية في شعورك بالقلق وليس ذلك بالأمر الصعب فإنّك ستلاحظ أنّ بإمكانك ضبط انفعال القلق والوصول إلى الهدوء النفسي إذا قمت بمناقشة نفسك بطريقة موضوعية فيما تفكر فيه فإذا استطعت تغيير تفكيرك فسوف تتخلص من سبب الانفعال والقلق وإذا لم يكن ذلك سهلاً بالنسبة إليك فعليك مناقشة ما يدور بعقلك مع صديق أو شخص له بعض الخبرة أو طبيب نفسي وسيكون بوسعك في النهاية وضع حد لفكرة القلق وتحقيق الاتزان النفسي.►

 

المصدر: كتاب عصر القلق.. الأسباب والعلاج

ارسال التعليق

Top