• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العرفان بالجميل.. هل أصبح عملة نادرة؟

تحقيق: ثناء عبدالعظيم

العرفان بالجميل.. هل أصبح عملة نادرة؟
◄في زمن سيطرة المصالح وضياع القيم العرفان بالجميل هو نوع من التقدير، والاعتراف بما قدمه لنا الآخرن مع معروف مادي أو معنوي. ونكران الجميل هو جحود ونسيان لذلك المعروف، الذي ما كان ينبغي له أن يُنسى طوال العمر. وهذا ما نسلّط عليه الضوء في هذا التحقيق. د. إياد عبدالمجيد: قيم المعروف مازالت موجودة في حياتنا وباب المعروف مازال مفتوحاً على مصراعيه وأنّ الخيرين يتبارون في ميدان الجميل والمعروف بصوره العديدة. ربما يكون المعروف فعلاً أو عملاً. وربما يكون قولاً كنصيحة أو مشورة والمعروف ربما يكلف صاحبه وقتاً أو جهداً أو مالاً، وأحياناً أخرى لا يكلفه شيئاً من ذلك. ولكن، في جميع الأحوال، يبقى المعروف بمثابة عمل خير أسداه أحد أصحاب القلوب الطيبة إلى آخر من دون انتظار جزاء ولا شكر. ويظل السؤال هو: هل يُقدّر الناس المعروف ويحفظونه؟ وكيف؟ أم تراهم ينسونه بسرعة كما ينسون صاحبه؟ وهل بات العرفان بالجميل بمثابة عملة نادرة في زمن ضاعت فيه القيم؟   -        جَميل لن أنساه: "يجب ألا ننسى أبداً المعروف الذي أسداه الآخرون لنا"، تقول إيرين سلامة (ربة بيت) في سياق تعليقها على الموضع. تضيف: "هناك مواقف لا يمكن نسيانها لأنها تظل محفورة في أعماقنا، وتجعلنا ندين بالإمتنان لأصحابها طوال عمرنا". تتابع: "أنا مثلاً، لا أنسى موقف صديقتي عندما كُسرت ساقي تطلّب علاجي أن تبقى داخل جبيرة الجبس لمدة 3 أشهر، وطوال تلك الفترة كانت صديقتي هذه تأتي يومياً لزيارتي، وتقوم بخدمتي لساعات طويلة"، مؤكدة "أن وقوف صديقتي إلى جواري وقت مرضي هو بمثابة جميل لن أنساه لها حتى نهاية العمر".   -        نكران الجميل: وانطلاقاً من مشاعر امتنان مماثلة، تتحدث رجاء الجنابي (موظفة) قائلة: "على الرغم من التغيرات التي طرأت على سلوكيات الناس وأساليب تفكيرهم، إلا أنّ الدنيا لازالت بخير، والناس ما زالوا يميلون إلى مد يد العون والمعروف". وتستشهد الجنابي بموقف شخصي مرت به، تقول: "منذ فترة، تسببت في حادث مروري بسيارتي أدى إلى إصابة أحد الأشخاص، حدث ذلك في فترة كنت أمر فيها بضائقة شديدة، بلا مصدر دخل وبلا عمل. وعندما أصدر القاضي عليّ حكماً بدفع غرامة مالية قدرها 3 آلاف درهم كتعويض، ومنحني مهلة يومين لتدبير المبلغ، شعرت حينها وكأنّ الدنيا قد أغلقت أبوابها في وجهي، إذ لا بديل عن الدفع إلا السجن". وتضيف: "كنت أسير مهمومة وأنا أبكي وأفكر من أين سآتي بهذا المبلغ، وفجأة، توقفت أمامي سيارة ونزل منها شخص سألني عن سبب بكائي فحكيت له الموضوع، وإذا به يُخرج المبلغ من جيبه قائلاً: "خذي هذا المبلغ وسددي غرامتك"، ثمّ انصرف قبل أن أستوعب ما حدث وحتى قبل أن أشكره. ولا شك في أن هذا الموقف النبيل لذلك الشخص لن أنساه أبداً، ودائماً أتذكره بالخير والدعاء".   -        موقف نبيل: "المعروف هو دين يظل في رقبة صاحبه ومن الصعب أن يُنسى". هذا ما تراه عبير غنيم (موظفة)، مؤكدة "أنّ ألوان المعروف تتعدد وتتنوع، وأنّه يمكن أن يكون عملاً بسيطاً في حد ذاته، إلا أن أثره في مُتلقيه يكون عظيماً". وتتابع: "أنا أعتبر أن صاحب العمل الذي أتاح لي الفرصة وفتح أمامي باباً للرزق، هو صاحب معروف عظيم عليّ وعلى أسرتي".   -        مروءة وشهامة: من ناحيته، يرى سامي الركابي (مهندس) "أن أجمل شيء في الحياة هو مساعدة الناس قدر الإمكان". ويقول: "إنّ مساعدة الآخرين شيمة من شيم الكرام وعمل نبيل يدل على المروءة". ويضيف: "ولكن، في زمننا هذا، فإنّ بعض الناس يفعلون المعروف لوجه الله، والبعض الآخر يطالب بالمقابل، أو على الأقل يظل يُذكّر الطرف الآخر بأنّه صاحب فضل عليه". ويتابع: "شخصياً، عندما أقدم الجميل يجب أن أنساه ولا أفكر فيه حتى لو قوبل بالنكران". ويقول: "لا أنسى موقف زميلي في العمل الذي وقف بجانبي، وساعدني عندما ادعى عليّ أحد الأشخاص زوراً، ولفق لي قضية بغرض الابتزاز المادي، ولكن صديقي تدخل في الأمر حتى تمكن من حل المشكلة، وهو معروف لن أنساه له ما حييت".   -        دافع ذاتي: من ناحيتها، تقول الدكتورة جنان رفعت (صيدلانية): "مَن يقدم معروفاً لا يصح أن يتوقع مقابلاً لما قام به، فالمعروف لا يكون معروفاً إذا كان بدافع شخصي ورغبة خالصة في مساعدة الناس ومن دون انتظار مقابل". وتتابع قائلة: "عندما أقدم معروفاً لأحد الناس فإنني أشعر بسعادة غامرة، ويكفيني هذا الشعور، إلى جانب قناعتي التامة بأن من يُقدم الخير للآخرين فإنّ الله يجازيه بأفضل مما قدم".   -        قلوب رحيمة: بدوره، يرى مصطفى كريم (مهندس) "أن هناك إنساناً يرد الجميل كأحسن ما يكون، وهناك من ينكره ولا يعير فاعله اهتماماً إذا طلب منه مساعدة في يوم من الأيام". ويضيف: "الناس أصبحوا ينظرون إلى مصلحتهم فقط، ولا يفعلون المعروف إلا بمقابل مادي، فقد نسوا قيمة صنائع المعروف التي يحثنا عليها ديننا الحنيف". ويشير إلى أن "على الآباء والمؤسسات التربوية أن يسهموا في إحياء هذه القيمة، وأن يعملوا على زرع معنى "الجَميل" وحب مساعدة الآخرين في نفوس أبنائنا، حتى ينشأ لدينا جيل معطاء يتحلى بالشهامة والنبل".   -        النوايا الطيبة: "مساعدة الناس تعتمد على أخلاق الشخص الذي يقدمها، وبيئته التي نشأ فيها"، هذا ما تقوله ليلى العطافي (سيدة أعمال)، لافتة إلى أنّه "إذا تربى الإنسان على العطاء، فإن فعل الخير يصبح أمراً معتاداً عليه يفعله لوجه الله. وغذا تربى في بيئة لا تعرف القيم، فإنّه يفكر دائماً في النفع الذي سيعود عليه". وتضيف: "لو أن الدنيا خلت من الخير لخربت، فلا زال عمل الخير موجوداً في حياتنا ومجتمعنا، وفي نواينا الطيبة، لكن غالباً ما يتكتم عليه فاعله. وعلى الرغم من ذلك يُعبر عن نفسه بوضوح على ألسنة الأشخاص الذين أفادوا من هذا المعروف، وفي قلوبهم وسلوكهم أيضاً".   -        عداوة: على صعيد آخر، ترى نانسي إيليا (ربة بيت) أنّه "أصبح من النادر في هذا الزمن فعل الخير، لأنّ الناس باتوا ينكرونه ولا يعترفون بالجميل". تتابع: "إن أكثر العداوات تأتي من صنائع المعروف، فمن يسدي لك نصيحة ينتظر الأخذ بها، فإذا حدث عكس ذلك غضب وندم على ما فعل". وتؤكد "أن كثيرين من أهل المعروف يجنون العداوة والبغضاء من الآخرين بسبب حقدهم وغيرتهم منهم، وهناك من يتهمهم بأنهم يقدمون ما يقدمونه رياءً وطلباً للسمعة".   -        اتّقِ شر من أحسنت إليه: وتقول فينوس حسن (موظفة): "نحن في زمن ضاعت فيه القيم، ومن النادر أن نلقى بين الناس مَن يقدّر قيمة المعروف، فكل إنسان يفكر في مصلحته أوّلاً، ولا يفكر في الآخرين خشية أن يفعل المعروف ويندم عليه". وتضيف: "البعض ينال مصلحته الشخصية، وبعدها ربما يقطع علاقته بالشخص الذي ساعده حتى لا يتذكر معروفه". وترى فينوس "أن من الأفضل أن نطبق المثل القائل: اتقِ شرَّ من أحسنت إليه"، لافتة إلى أنها لا تقبل خدمة من أحد. وتقول: "لا أخدم أحداً، حتى لا أندم وأنال جزاء خدمتي له، وبدلاً من أن يعترف بجميلي ينقلب عليّ ويؤذيني في عملي أو حياتي".   -        موروث قيمي: وفي بيان مكانة المعروف ضمن الموروث العربي، يقول الدكتور إياد عبدالمجيد (أستاذ الأدب العربي في "جامعة الحصن"): "لدينا موروث زاخر بالصور المعبرة عن الجميل، يُخبرنا بأنّ المعروف هو عطاء أو ضيافة أو مواساة أو إعانة أو خدمة أو نجدة". ويشير إلى أن "كل ذلك وغيره له طعمه ومذاقه في نفس فاعله ومتلقيه، الذي لا شك في أنّ هذه المبادرة تسعده وربما تنقذه وتخلصه من مأزق"، لافتاً إلى أن "تلك هي الشهامة العربية، فمن يفعل المعروف لا ينتظر الشكر من الناس، فالله هو الذي يثيب على العمل". ويؤكد د. عبدالمجيد "أن قيم المعروف مازالت موجودة في حياتنا، وباب المعروف مازال مفتوحاً على مصراعيه، وأنّ الخيرين يتبارون في ميدان الجميل والمعروف بصوره العديدة". ويتابع موضحاً: "إنّ المعروف هو سلوك مُكتسب يتعلمه الشخص بالتجربة في الحياة منذ طفولته، سواء في البيت أم المدرسة فيعتاد عليه، ويفعله ويشكر الناس عليه". ويضيف: "إنّ أوّل مَن يتكفل برعاية هذه القيم في نفوس الناشئة، هي الأم التي تقوم بزرعها في نفوس أبنائها وتحثهم على خدمة الناس وشكرهم، فتعلّم ابنها كيف يمسك بيد مكفوف وكيف يساعد صديقه المحتاج"، لافتاً إلى أنّ السلوك الإنساني نتاج احتكاك اجتماعي. قديماً قال حكيم العرب الأحنف بن قيس: ما ترك الآباء للأبناء مثل تطويق أعناق الآخرين بالمعروف". وفي ما يتعلق بردود أفعال الآخرين تجاه من يسدي إليهم معروفاً، يوضح د. إياد عبدالمجيد "أنّ الناس صنفان: كريم ولئيم، فالكريم يملكه المعروف واللئيم متمرد حتى على ذاته، حيث يقول الشاعر "إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا"، والواجب هو العمل بقول رسولنا الكريم: "من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تستطيعوا أن تكافئوه فادعوا له حتى تظنوا أنكم قد كافأتموه، ومن قال لك جزاك الله خيراً فقد بالغ في الثناء". أما في ما يتعلق بنُكران الجميل فيقول د. إياد عبدالمجيد: "نحن في حاجة إلى تطوير الذات في مواجهة الأنماط السيئة، بالشهامة والانتصار الذاتي عليها، وبأن نبقى أوفياء لمن قدم لنا الجميل في الحياة حتى لو بدت منه أخطاء أو هنات، ونبقى دائماً مرتبطين به وبمعاني المعروف ولجميل صنعته. ويَحسن بصانع المعروف أيضاً أن يجعله في أهله ممن يستحقون، إذ يقول الشاعر: ومن يصنع المعروف في غير أهله يكن حمده ذماً عليه ويندم".   -        صانع المعروف: وعن الجميل وردّه أيضاً، يقول الدكتور يوسف شراب (الخبير التربوي): "إنّ الجميل له صور مختلفة، فهو إما أن يكون في صورة نصيحة، أو تقديم مساعدة، أو تحذير من الوقوع في خطر أو إنقاذ إنسان من مأزق". ويضيف مؤكداً: "إن رد الجميل هو من القيم النبيلة التي يجب الحفاظ عليها ونشرها في المجتمع، والتواصل مع كل من قدم لنا الجميل وتستمر علاقتنا به. فليس من المقبول أن يقضوا حاجاتنا وأن نحصل منهم على ما نريد ثمّ ننهي علاقتنا بهم". ويذكر د. يوسف شراب "أن وسائل وأساليب رد الجميل عديدة". ويسوق مثالاً من حياته الشخصية قائلاً: "لقد سميت ابني "سامي" على اسم شقيقي الأكبر امتناناً له وتقديراً لمعروفه، المتمثل في تضحيته من أجلنا أنا وإخوتي، فقد ترك دراسته صغيراً وراح يعمل من أجلنا حتى أوصلنا إلى الجامعات وحصلنا على الدكتوراه، وذلك على الرغم من أنّه لا يقل عنا ذكاءً ولا موهبةً". ويختم مؤكداً "أنّ الوفاء ورد الجميل نوع من الأصالة الاجتماعية التي يجدر التمسك بها".   -        المصلحة الشخصية أوّلاً: وفي سياق متصل، يقول الدكتور أحمد فلاح العموش (أستاذ الاجتماع في "جامعة الشارقة"): "إنّ المعروف هو قيمة من قيم المجتمع العربي، انفرد بها الإنسان في تحقيق فكرة العطاء"، موضحاً "أنّ العلاقة بين الناس تبعية، إذ يقدم الجار لجاره، أو الصديق لصديقه عطاء أو خدمة في وقت معيّن وظرف معيّن". ويضيف: "ولكن، مع تغير الحياة والأحوال المعيشية، تبدلت المفاهيم، وأصبحت المصالح الفردية تغلب على المعروف أو الجميل، فإذا قدم الإنسان خدمة معينة فإنها لابدّ أن تكون مرتبطة بمصلحة ما". ويشير د. أحمد فلاح العموش إلى أنّ "الجَميل أصبح نادراً ومحدوداً في وقتنا الحاضر، وموجّهاً إلى المصالح الفردية الذاتية، فتحول إلى خدمة وليس إلى عطاء، أو نوع من النفاق. فقد كان العطاء عبارة عن عمل يقوم به الإنسان في الخفاء وبشكل غير متوقع". ويؤكد "أنّ الإنسان الآن يبحث عن أهدافه في تحقيق نجاحاته وطموحاته بالاستفادة من خدمة الآخرين، ويفكر في إنجازاته، فالآخر بالنسبة إليه ليس هو محور اهتمامه، فإذا قدم الخدمة لا يقدمها بشكل عفوي وإنما بغرض تحقيق هدف معين أو مكسب شخصي من ورائها".►

ارسال التعليق

Top