• ٣ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العبادة والذكر في القرآن الكريم

أسرة البلاغ

العبادة والذكر في القرآن الكريم

الذكر، من مدارج الإيمان العالية، فهو بمثابة الروح في جسد العبودية وإصلاح الإنسان، ومكانته في المعارف الإلهية من الأهمية بمكان، إلى درجة أنّ القرآن الكريم جعله هدفاً لتشريع الصلاة: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (طه/ 14)، وعندما يقول إنّ الصلاة عامل مانع من ارتكاب الفحشاء فهو يؤكد على أنّ الذكر أعلى رتبة: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) (العنكبوت/ 44)، وليس في ذلك إقلال من شأن الصلاة التي هي "عمود الدين" وبدونها لا قيمة لجميع الأعمال، بل من أجل التذكير بأنّ الصلاة هي أيضاً من أجل ذكر الله ويجب إقامة الصلاة لذكر الله. وإذا كانت الصلاة فقيرة بالذكر فإنّها سوف تكون بلا روح، ولن يكون لها الأثر المطلوب.

من البديهي أنّ ذكر الله ليس منحصراً في حال الصلاة، ويجب على المؤمن أن يكون دائماً منشغلاً بذكر الحقّ وأن يحيي قلبه وينوره بذكر الله.

يقول أمير المؤمنين (ع): "مداومة الذكر قوت لأرواح ومفتاح الصلاة"، وفي رواية أخرى يقول: "لا تذكر الله سبحانه ساهياً ولا تنسه لاهياً واذكره ذكراً كاملاً يوافق فيه قلبك لسانك ويطابق إضمارك إعلانك ولن تذكره حقيقة الذكر حتى تنسى نفسك في ذكرك وتفقدها في أمرك".

حقيقة الذكر وآثاره: الذكر هو عبارة عن انتباه القلب بوعي إلى مبدأ الوجود وتذكر رحمته ونعمته وعزته وقدرته وجماله وجلاله، وسوف تكون نتيجة ذلك الذكر محبة عارفة ودعاء خالص وإطاعة وتسليم أمام الإرادة النافذة والحكيمة لله عزّ وجلّ.

إنّ أجمل حالة للإنسان هي أن يكون ذاكراً لله ويرى نفسه دائماً في حضرته، ولا يتصور أنّه يوجد حائل بينه وبين الله. إنّ الإنسان الذي يشاهد بعين القلب النور المحض والكمال المطلق وعلم وقدرة وجمال وجلال الحقّ ويستأنس به، سوف تكون صورة قلبه هي صورة الحقّ وسوف تتجلى وتظهر آثار الإيمان من كلّ وجوده، ولا يخطر في باله شيء سوى رضى الله عزّ وجلّ.

الذكر عامل طمأنينة وهدوء للنفس (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرّعد/ 28)، وعندما يصل القلب إلى السكينة ويستقر ويهدأ بأنسه بمحبوبه الحقيقي، فإنّه سوف يصل إلى غرضه وينال كلّ أمنياته ولن يحس بعد ذلك بأي فراغ داخلي ولن يتعلق قلبه بالميول الحيوانية الذئبية. وكلما ذكر الإنسان المؤمن الله فإنّه يطمئن بعفوه ورحمته، وإذا ما تذكر عظمته وانتقامه، فإنّه يرتجف من الوحشة والخوف، وعندما يستمع إلى آيات الحقّ فإنّ إيمانه سوف يقوى ويزداد: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الأنفال/ 2)، وهذه الحالة هي التي عبرت عنها الروايات بحالة "الخوف والرجاء"، فقد روي عن عليّ (ع): "الذكر هو نور العقول وهداية القلوب ومفتاح الأنس ومجالسة المحبوب ولذة المحبين، من ذكر الله سبحانه أحيا قلبه ونوّر عقله ولبّه".

إنّ الذين حصلوا على عزة العبودية ولذة الذكر، ووصلوا إلى الاستغناء الروحي برصيد الإيمان، وعشقوا جمال المحبوب، وفاضت معنوياتهم وتلبسوا بكاملهم بالحقيقة، أولئك لن يروا طريقاً إلى الوقوع في الذنب والمعصية ولن يتلوثوا بالمعاصي. فقد وجدوا علو قدرهم وشرفهم وشخصيتهم وقدرتهم وعزتهم في الطاعة والعبودية لله ووصلوا إلى كامل هدفهم.

إنّ ارتكاب الذنب الذي يكون منشأه حب النفس والتعلق بالدنيا إنما هو تعبير عن الخواء الروحي، وهو نتيجة الغفلة والابتعاد عن الله. والذين يرتكبون الذنوب لا يملكون في الحقيقة رصيداً إيمانياً وقيماً إنسانية، ولم يذوقوا عزة العبودية واللذة المعنوية، وهم يتلافون نقائصهم الروحية وخواءهم المعنوي بالأمور الدنيوية واللذات الجسمانية والزينة الخارجية. وكلّ ذلك نتيجة الغفلة عن الله والإطاعة للشيطان الذي يلازم نسيان النفس ويصبح عامل فسق وفجور وسقوط.

ومن الملفت للنظر هنا أنّه ورد في رواياتنا أنّ الباعث على ارتكاب الذنب هو العوامل النفسية والخواء الروحي. يعتبر عليّ (ع) أنّ الغيبة هي سعي الضعفاء من الأفراد من أجل اكتساب قوة في الشخصية: "الغيبة جهد العاجز"، ويعتبر (ع) انّ اتباع هوى النفس دليل فقدان الشخصية وعامل مذلتها "من اتبع هواه أردى نفسه"، وأنّ الطمع فقر ومسكنة "الطمع فقر حاضر"، وأنّ الحسد غضب على القدر "الحسود غضبان على القدر".

والحاصل أنّ العبادة من أجل ذكر الله، وذكر الله هو عامل طمأنينة النفس والغنى الروحي للإنسان، وكلما وصل الإنسان إلى هذه المرحلة من الكمال النفساني فإنّه لن يميل أبداً إلى الرذائل. بهذا نلمس دور الذكر وضرورة دوامه في تهذيب النفس والصراع مع الرذائل النفسانية.

ولعل من الضروري أن نورد الكلام التالي: كما أنّ الإيمان بالله فطري عند الإنسان، كذلك الذكر، فإنّه مقتضى الفطرة، ومن أجل حفظ هذه العلاقة القلبية بين العبد وربه فقد أوصي بالعناصر التي هي مصاديق للذكر مثل الصلاة وسائر العبادات، وتلاوة القرآن، والتأمل والتفكّر، والعبرة والتنبه والاحتراز من عوامل الغرور والغفلة وارتكاب الذنب والغرق في الدنيا والجلوس مع الغافلين واتباع الميول النفسية.

ارسال التعليق

Top