عُرف البشر منذ القدم بإقبالهم على القيام بكل ما يدخل السعادة على قلوبهم، ويمكنهم من العيش في مرح وبهجة، ومن أقدم الحكايات التي تصور لنا مظاهر ولع الناس بالحفلات والرقص والغناء والتمتع بأوقات الفراغ تلك التي سجلتها كتب الآثاريين وعلماء المصريات الأجانب، نقلاً عن مئات الجداريات، والرسوم، والنقوش، التي تركها قدماء المصريين على جدران مقابرهم ومعابدهم القديمة.
تحكي لنا كتب الآثاريين وعلماء المصريات، عن أن شعب مصر القديمة كان من أكثر شعوب العالم حرصًا على تحويل أوقات الفراغ إلى أوقات للسعادة والمرح بعد كل يوم من الكدّ والعمل الجاد في الزراعة والصيد، ووصل الأمر إلى حدّ أن جعل قدماء المصريين للسعادة أربابًا وآلهة تُعبد، وكانوا يمارسون طقوس مرحهم داخل المعابد.
وليس أكثر دهشة من أن مظاهر الحياة اليومية، التي سجلتها الجداريات والنقوش والرسوم التي تركها قدماء المصريين داخل مقابرهم ومعابدهم، وبخاصة مقابر النبلاء والصناع والتجار والزراع، نقلت لنا تفاصيل ذلك الصراع بين القط والفأر، والذي استلهمت منه قصص تومي وجيري، وهو صراع أزلي عرفته مصر القديمة وسجلته نصوصهم ورسومهم القديمة قبل آلاف السنين.
وقد عُثر في منطقة دير المدينة، التي كانت سكناً للعمال والفنانين الذين عملوا في تشييد مقابر ومعابد ملوك وملكات ونبلاء ونبيلات مصر القديمة، في جبانة طيبة القديمة بالبر الغربي لمدينة الأقصر التاريخية بصعيد مصر، على قطع أثرية مرسومة تُعرف في الأوساط الأثرية باسم «الأوستراكا»، وعلى أوراق من نبات البردي، وقد رُسمت عليها صور لذلك الصراع الضاحك بين القط والفأر.
وبحسب النصوص المصرية القديمة، فإن «القطة تصبح عبدة لدى السيِّدة فارة».. وعلى الجانب الآخر «يقوم قطيع من الفئران بهجوم منظم على مجموعة من القطط» يصفها النص المصري القديمة بـ «المسكينة والمحبوسة داخل إحدى القلاع».
وقد وصل تطور سعي قدماء المصريين خلف كل ما يجلب لهم السعادة، إلى توظيفهم تلك الرسوم التي تصور ذلك الصراع الأزلي بين القط والفأر في انتقاد أوضاعهم الاجتماعية وتوجيه رسائل ساخرة لحكامهم، حيث عرفوا النقد التهكمي وجعلوا منه مصدرًا لسعادتهم.
وكما تعددت لديهم وسائل السعادة، والربة والأرباب الذين ارتبطوا بصنع البهجة في حياتهم مثل حتحور إلهة الحب والسعادة، و«بس» إله المرح، و«رع نينت» إلهة الحظ، فقد تعددت الأعياد لديهم وكان أغلب أيام المصريين أعيادًا موزعة على كل مقاطعة ومدينة وقرية.
ومن طريف ما يروى عن قدماء المصريين، أنهم كانوا يعتقدون بأن الكون والروح خُلِقا من الضحك، وأن الإله الأكبر حين أراد أن يخلق العالم أطلق ضحكة قوية فخلق أرجاء العالم السبعة، ثم ضحك أخرى فخلق النور، وفي الضحكة السابعة خلق الروح.
الضحك في الثقافة العربية
وتحتل السعادة والضحك والظرف والظرفاء مساحة كبيرة في الثقافة والكتابات العربية والتراث الأدبي العربي.
وقد عرف العرب الكثير من أسماء الكتاب والمؤلفين القدامى والمعاصرين الذين اشتهروا بكتاباتهم الضاحكة التي تهدف إلى إدخال السعادة على القلوب، حتى إن البعض ذهب إلى وصف العرب بأنّهم «من أقدم الأمم الظريفة الضاحكة».
ومن الأسماء العربية التي يُنسب إليها الكثير من المؤلفات والكتابات الظريفة، والذين يُطلقُ عليهم الأدباء الظرفاء: الجاحظ، وأبو حيان التوحيدي، وبديع الزمان الهمذاني، وابن الجوزي، وبشار بن برد، وأبو نواس، وأبو دلامة وغيرهم.
وقد ظهرت النكتة في الأدب العربي خلال عصر الدولة الأموية، لكنها صارت ظاهرة أدبية في عصر العباسيين، حيث ظهرت الفكاهة في الشعر والنثر والحكايات التي تزخر بها كتب الأدب العربي.
ونشير هنا أيضًا إلى أن الإمام أبا حامد الغزالي ألف كتاباً باللغة الفارسية حمل عنوان «كيمياي سعادت»، ثم ترجم منه ملخصًا باللغة العربية من أربعة كراريس حملت عنوان «كيمياء السعادة».
وليس بغريب أن بعض الأسماء الكبرى في تاريخ الشعر العربي قد عُرفت بخفّة الظل وحضور النكتة، وقد تركت نتاجًا كبيرًا من النصوص الشعرية الضاحكة، مثل أمير الشعراء أحمد شوقي، وشاعر النيل حافظ إبراهيم، الذي يُعد من ظرفاء عصره، رغم نشأته الفقيرة التعيسة البائسة، والشاعرين أحمد الصافي النجفي وعبدالحميد الديب، وبيرم التونسي، وحسين شفيق المصري، ومن الكتاب الظرفاء عبدالعزيز البشري وعبدالله النديم.
كما عرف العرب الصحافة الضاحكة، حيث صدرت في مصر قبل أكثر من قرن من الزمان صحف ومجلات فكاهية وساخرة، مثل: أبو نظارة، والكشكول، وحمارة منيتى، وخيال الظل، والتنكيت والتبكيت، وغيرها.
وفى البلدان العربية كان هناك «المضحك المبكي»، و«الدومري» في سورية، و«الدبور» في لبنان، و«الصريح» في تونس، و«الصح آفة» في الجزائر، و«الفكاهة» في الكويت، و«مرقعة الهندي» و«حبزبور» في العراق.
متاحف السعادة
ومن اللافت أن بعض الدول اهتمت بإقامة متاحف للسعادة، ففي المملكة العربية السعودية أقيم أول متحف للسعادة بالبلاد، ويوفر متحف السعادة بالمملكة مساحات للاسترخاء والتسلية، وبرامج ممتعة للزوار مليئة بالفرح واللحظات السعيدة.
وفي غرب روسيا أقيم في أحد أبراج قلعة سمو لينسك التاريخية متحف للسعادة أيضاً، وفي مدينة كوبنهاجن شيدت الدنمارك متحفًا يرمز إلى السعادة الهادئة والمستقرة، ويُعرف المتحف الزوّار على زوايا السعادة تاريخيًا وسياسياً وعلمياً.
غاية البشر القصوى
يقول الفلاسفة وخبراء علم النفس وأساتذة الاجتماع، إن السعادة هي غاية البشر القصوى، وبحسب النخب العالمية، فإن السعادة بمختلف مظاهرها لم تعُد مجرد إضافة سارة إلى العمل الأهم وهو جني المال، بل ينظر إليها الآن بوصفها «كيانات مرئية يمكن قياسها وتحسينها». وقد ذهب خبراء في منتدى دافوس الاقتصادي العالمي، الذي يُعد قلعة إدارة اقتصاد العالم، إلى القول بأن «مستقبل الرأسمالية الناجحة يتوقف على قدرتنا على التصدي للضغوط النفسية، والبؤس، والمرض، ووضع الاسترخاء والسعادة والصحة بالمكانة اللائقة».
وطرح خبراء منتدى دافوس مشروعاً عرف طريقه إلى النور في الكثير من الدول والشركات الكبرى، وهو مشروع يقوم على رصد التقلبات التي تطرأ على عقولنا ومشاعرنا وأدمغتنا وتوقعها ومعالجتها وتصورها والتنبؤ بها، من أجل جعل البشر أكثر سعادة، وتحسين المجتمعات من خلال فهم علمي.
ولم يكن العالم العربي ببعيد عن تلك الأفكار التي تُعبد الطريق لصناعة السعادة، فقد أنشأت بعض الحكومات العربية وزارات للسعادة وهيئات متخصصة للترفيه عن مواطنيها، وربما يصبّ ذلك في مصلحة الرؤية القائلة بأن «السعادة هي المتعة»، وهي واحدة من أكثر التفسيرات المقبولة على نطاق واسع لدى الفلاسفة وخبراء علم النفس، وعلماء الاجتماع، لمعنى السعادة.
فلاسفة السعادة
لعل الضحك، إلى جانب الفكاهة أو التفكه، ليست ببعيدة عن السعادة، والمظاهر الدالة عليها، والمؤدية إليها، ومن المعروف أن الفكاهة، أو التفكه، من الجوانب المميزة للسلوك الإنساني، وأما الضحك فهو التعبير الجسمي، أو الفسيولوجي عن هذا الجانب. ويرى البعض أن الفكاهة هي رسالة اجتماعية مقصود منها «إنتاج الضحك أو الابتسام».
وللسعادة والفكاهة والضحك تاريخ طويل في الثقافة الإنسانية، وقد اهتم بها فلاسفة كثيرون صاروا يعرَفون بفلاسفة السعادة. ومن بين الفلاسفة الذين قدموا الكثير من النظريات بشأن السعادة، وما يرتبط بها كالفكاهة والتفكه والضحك وغير ذلك: أفلاطون، وكانط، وأرسطو، وهوبز، وبرجسون، وشوبنهور، وغيرهم، إلى جانب أدباء كبار من أمثال بودلير، وجورج إليوت، وامبرتو رايكو.
وبكل ما جاء بشأن السعادة في الثقافتين العربية والعالمية، نجد أنها مرتبطة بالضحك، الذي ربما يعد علامة من علامات شعور الإنسان بالسعادة.
وقد وضع أبو منصور الثعالبي في كتابه «فقه اللغة وسر العربية» مراتب للضحك. وبحسب الثعالبي، فإن التبسم هو أولي مراتب الضحك، ثم الإهلاس وهو إخفاؤه، ثم الافترار والانكلال، وهما الضحك الحسن، ثم الكتكتة أشد منها، ثم القهقهة، ثم الكركرة، ثم الاستغراب، ثم الطخطخة، وهي أن يقول: طيخ طيخ، أي يضحك المرء مصدراً أصواتاً من فمه وأنفه، ثم الإهزاق، والزهزقة، وهي أن يذهب الضحك به كل مذهب.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق