• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التوبة.. أبرز مظاهر رحمة الله بعباده

التوبة.. أبرز مظاهر رحمة الله بعباده

◄إنّ من أبرز مظاهر رحمة الله بعباده، أنّه فتح لهم الباب واسعاً للتوبة والعودة إليه مهما كبرت ذنوبهم وكثرت، وفي أيِّ وقتٍ وفي أيِّ مكان. هو حاضرٌ لقبول توبتهم بدون أيِّ واسطة، بل هو سبحانه حتى لم يسمح لهم باليأس والقنوط من رحمته، إذ أمر رسوله أن يبلِّغ الناس: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الحجر/ 49)، (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) (الزّمر/ 53).

وقد ورد في حديثٍ قدسيّ: «يابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثمّ استغفرتني غفرت لك. يابن آدم، لو لقيتني بتراب الأرض خطايا، ثمّ لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لأتيتك بترابها مغفرة». ولا تقف حدود كرم الله عند ذلك، بل أعلن سبحانه أنّه لا يكتفي بغفران الذنوب، بل هو يحبُّ التوّابين ويحبُّ المتطهّرين.

وفي موضوع التوبة، ربما يسأل البعض: ألا يستدعي تشريع التوبة والدعوة إليها، إغراءً للعبد بالمعصية، لكون الإنسان إذا أيقن أنّ الله سبحانه وتعالى يقبل توبته رغم اقترافه المعاصي، فسيزيد ذلك من جرأته على ارتكاب المحرَّمات والانهماك في الذنوب، وسيدفعه ذلك إلى التمادي في المعاصي.. طبعاً الأمر وارد أن يتصرّف ضعاف النفوس ومن غرّتهم الدُّنيا بهذه الطريقة، لكنّ لعبتهم ستكون مكشوفة، فالأُمور مرهونة عند الله بالنيّات وليس بالأقوال. وأذكر هنا ونحن في شهر محرَّم، نموذجاً لهذه اللُّعبة المكشوفة، لُعبة المجرم عمر بن سعد الذي حاول استغلال فكرة التوبة كي يشرعن لنفسه وللآخرين خياره الدَّموي، قائلاً يومها بعد أن عرض عليه ابن زياد قيادة الجيش لمقاتلة ابن بنت رسول الله:

أأترك ملك الرّي والرّي منيتي        أم أرجع مأثوماً بقتل حسين

وإنّ إله العرش يغفر زلّتي            ولو كنت فيها أظلم الثقلين

يقولون إنّ الله خالق جنّةٍ             ونار وتعذيب وغلّ يدين

فإن صدقوا فيما يقولون فإنّني       أتوب إلى الرحمن من سنتين

 هنا الحجَّة واهية، ولم يكن هذا الطاغية في موقع مَن يتوب الله عليه.

علينا أن ننظر إلى مفهوم التوبة في سياق الرحمة الإلهيّة، فالغفران والصَّفح عن الذنوب لا يحصلان إلّا لأنّ رحمة الله وسعت كلّ شيء، وهو الذي سبقت رحمته غضبه.

إنّها رحمة خالصة بالعبد، وهي حماية له، على عكس ممّا يتصوَّر البعض. الباب المفتوح من الله يعطي أملاً للعاصي كي يتوب ويتراجع. أمّا الباب الموصد، فإنّه يدفع العاصي إلى التمادي.. فكم وكم من الشباب عادوا إلى رحاب الله لاعتقادهم وإيمانهم بأنّ الله يقبل توبتهم مهما عظمت وكبرت!

وهذا ما تُشير إليه الآية: (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا) (النِّساء/ 27).. إذاً التوبة تمثِّل علاجاً بقدر ما تمثِّل إسقاطاً للماضي.

كيف تتحقّق التوبة؟!

ولكن كيف تتحقّق التوبة؛ هل يكتفي الله من عباده بأن يعلنوا التوبة حتى يحظوا بها؟ نعم، باب التوبة مفتوح لمن يريد، لكنّ لذلك مقدّمات ذاتيّة.

أوّلها الاعتراف وترك المكابرة، بأن يؤكِّد المرء لنفسه أنّه عصى الله، وأنّه أساء في علاقته معه، ثمّ يندم ويستنكر فعلته، ويشعر بأنّه ما كان ينبغي أن يُبادل الله بالعصيان.

وبعدها، عليه أن يصلح ما بدر منه وما اقترفته يداه تجاه الخالق وتجاه المخلوق.

وهنا نذكر حديثاً ورد عن الإمام عليّ (ع)، عندما سَمِع رجلاً بحضرته يتحدَّث عن التوبة، فحدَّد له الإمام آليّات التوبة:

1ـ  الندم على ما مضى.

2ـ  العزم على ترك العود إليه أبداً.

3ـ أن تؤدِّي إلى المخلوقين حقّهم حتى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة.

4ـ أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها فتؤدِّي حقّها.

5ـ أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية.

والتوبة حتى تكون شاملةً، لابدّ من أن لا تقف عند حدود الذنوب المتعارفة ممّا اعتدناه من ترك الواجبات والإتيان بالمحرَّمات، بل تشمل أيضاً التقصير في أداء المسؤوليات العامّة.. ومن النماذج، ما ورد عن الإمام زين العابدين (ع) في دعائه: «اللّهُمّ إنّي أعتذِرُ إليك من مظلومٍ ظُلِمَ بِحَضرَتِي فلم أنَصُرهُ، ومن مُسيءٍ اعتَذَرَ إليَّ فلم أعذِرهُ، ومن ذي فاقَةٍ سَألَنِي فلم أوُثِرهُ، ومن حقِّ ذي حقٍّ لَزِمَنِي لِمؤمنٍ فلم أُوَفِّرهُ، ومن عَيبِ مؤمنٍ ظَهَرَ لي فلم أَستُرهُ».

دعاء يُسلِّحك بحساسية مفرطة تجاه الذنوب والمعاصي، ويتجاوز موضوع الفرائض والعبادات إلى المعاملات.

المسارعة إلى التوبة

إنّنا اليوم أحوج ما نكون إلى هذه المراجعة الدائمة لمسار حياتنا، إذ تواجهنا التحدّيات من كلِّ حدبٍ وصوب: أوّلها من  أنفُسنا الأمَّارة بالسوء تستمدّ قوّتها من شيطان خبيث، وتتغذَّى من كلّ الأجواء التي تحيط بنا وتغرينا بمعصية الله. ولهذا، علينا أن نكون واعين، وأن لا نكفّ عن استعمال سلاح التوبة الذي منحه الله لنا، فهو سلاح قادر على أن يغلق ملفّ المعصية ويمحو آثارها. انظروا إلى هذا الحديث الذي يفيض رحمةً، قال أمير المؤمنين (ع): «مَن تاب.. تاب الله عليه، وأمر جوارحه أن تستر عليه، وبقاع الأرض أن تكتم عليه، وأنسيت الحفظة ما كانت تكتبه عليه».

فلنفتح قلوبنا على الله بعد أن فتح الله أبوابه لنا، ولنلج التوبة من بابها الواسع، فلا نغلقه على أنفُسنا، ولنسارع إليها، فالله وعدَ الذين يسارعون إليه بالتوبة، فيما لن يقبل أُولئك الذين ينتظرون مجيء الموت وتباشيره حتى يتذكَّروا أن يتوبوا، هؤلاء لن يحظوا بذلك. لقد قالها الله تعالى صريحةً: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (النِّساء/ 17-18).

فما دام في العمر بقيّة، فلنبادر ولنغتنم الفرصة (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة/ 222).►

ارسال التعليق

Top