◄تتجه صناعة الصورة المرئية نحو تكوين مجموعة من المفاهيم، وتوليد منظومة من الإرساليات تقدم إمكانيات للتخاطب عبر متوالية مرئية لها القدرة على تشكيل إدراكات جديدة حول ظاهرة معيّنة، أو تكوين فكرة حول قضية مخصوصة. ويعتمد الشكل الخطابي للصورة المرئية على تحقيق وظائف تسهم في تقديم التجسيد المرئي للإرساليات المتعددة التي تمثلت بصيغ مشهدية، وصور متراكبة يظهر عليها التتابع المنطقي للدلالة، لكنها تشتمل على صيغ التفكك المتعلق بميزة كلّ صورة وخصوصيتها. ويمكن تحديد تلك الوظائف بـ(الانتقائية، والسلطوية، والتأثيرية، والحركية، والتوالد الكثيف، فضلاً عن الدلالات التواصلية). لقد تحوّل الشكل اللفظي البطيء مع الصورة التقليدية إلى شكل خطابي مرئي متسارع مع الصورة الحديثة، إنّها صور ذات فاعلية في الإنتاج والتأثير، ولذلك فإنّ مستقبل الخطاب الثقافي سيكون مرهوناً بما تقدمه هذه الصور، وسيبقى منفعلاً في أُطر ما تحدده في ميدان المعروض من النتاج المرئي.
نلاحظ أنّ التواصل الثقافي من خلال نموذج الصورة المرئية التي أحدثت إنقلاباً في مسار التأثير الإدراكي، وأوجدت قاعدة مهمة من البيانات القصدية لتوجيه الرائي في مسار مخصوص، وقدمت معالجاتها ومعطياتها من خلال صور متتابعة ومتوالية، تحمل بطاقات منوعة من الدلالات مثلّت بمجملها نشاطاً إنسانياً ينتمي إلى فلسفة وبيئة مخصوصتين.
حملت الصورة المرئية على عاتقها مهم كسر الحواجز الثقافية ابتداء، وتمثيل المسكوت عنه في أبجديات العالم الإنساني، إنّه عصر الصورة بلا منازع، عصر يحيل السواد ضياء، ويمنح التفتيت عمراناً، إنّها سلطة تواصلية يعكف على صياغة مشهدها لفيف من خبراء التواصل والتقنية معاً، ليتم تقديم مشاهد إبلاغية إرسالية تحفظ الوجود وتغيره حسب ما تراه مناسباً في عصر غدت الغاية فيه مرئية، والصيغ التعبيرية مرئية، والنسق الثقافي مرهون بعملية إنتاج مرئي، وبذلك عُدت الصورة نشاطاً إنسانياً وجودياً.
إنّ الخطاب الذي تشكله الصورة المرئية هو خطاب متحرك يتعلق بقدرة العين الباصرة على تحليل مكونات هذا الخطاب وتصور غاياته، لذا فإنّ الوظائف الإنتاجية لهذه الصورة مرتبطة بما تكتسبه العين من مشاهد متوالية بلا توقف، وعليه فإنّ للمدرك الحسي العياني وظيفتين:
- المهمة الأولى: تتعلق بتلقي رموز الصورة وإيصالها إلى الدماغ لتفسيرها وإعطاء دلالاتها.
- المهمة الثانية: إدراك ما يناسب من الصور الكثيرة والمتوالية التي تم الاقتناع بمحتواها.
ويشكل هذا الإدراك سلاح ذو حدين فهو تعطيل وتفعيل، فقد تقبل العين إدراك المنتج الصوري بكلّ أبعاده وتفصيلاته وبشكل مباشر دون تمحيص أو وقفة تأمل، أو قد تدرك غائبات هذه الصور فتبدأ بملاحقة رموزها، وكشف ما خفي من دلالاتها.
وجدير بالذكر أنّ الصورة المرئية تكتسب خصيصة مهمة وهي سمة الإيقاع المتسارع في عملية تقليب المشاهد، إذ لو غابت العين الباصرة عن مشهد لفقدت جزءاً قد يكون مهماً لتفسير حدث أو فهم حركةٍ لشخصية ما، وعليه فإننا نتجه بالقول إلى أنّ هذه الحركة تؤسس لفرضية المعرفة المجزأة من جهة، وتحقق سمة الاكتفاء بالطرح العلمي والثقافي في هذه المشاهد – تحديداً – من جهة أخرى، وبذلك تسهم الصورة في تحجيم الحقل العلمي، وتقنين المكتسب المعرفي، وحصر المعلومة، والتدخل في كمية المعلومات المعطاة للمتلقين، ويساعدها في ذلك السمات الإخراجية، والعناصر الفنية، وتقنيات الحاسوب، وحركات المكان وتغيُّرات الزمان، وفنية الضوء والظلال... إلخ.
ينظر اليوم إلى الصورة على أنّها مملكة ثقافية تحمل في طياتها منظومة إرساليات موجهة بقصدية وتحيز، إذ لا براءة في صناعة الصورة ولا فنية خالصة في صياغتها، وقد استثمرت هذه القضية في تقديم ثقافات الشعوب وطرائق تفكيرها، وبيان نظم عيشها وشرح أبعاد معتقداتها ونشر لغاتها وتفسير تبنيها لقضية معيّنة ورفضها لأخرى، فضلاً عن الجانب الإشهاري لهذا البلد أو ذاك، وعليه فقد حاولت كثير من الدول استغلال هذه القضية وتوجيهها بما يتناسب مع القضايا الوطنية والقومية.►
المصدر: كتاب قضايا النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق
الكاتب عميد في كلية اللغات/ جامعة المدجينة العالمية – ماليزيا
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق