◄هناك قاعدة أساسية تحكم حالة التعايش بين المجتمع المسلم والمجتمعات الأخرى، وهي قاعدة التعامل مع الواقع الحياتي الذي يفرض وجود قوى أخرى تختلف مع الإسلام في فكره وشريعته ونظام حياته، وتفرض ضرورة التعامل معها، ولو في نطاق المرحلة التي قد تطول وقد تقصر تبعاً لحركة الإسلام في الحياة، ما يجعل من قضية التعايش السلمي قضية حيوية لاستقرار المجتمع الإسلامي وأمنه وواقعيته، لأنّ لقضايا الصراع في كلّ مراحل الحياة – للرسالة وللفكرة – ظروفاً موضوعية قد لا تتّسع للحرب أو للحصول على النتائج العملية الحاسمة المتصلة بحركة العقيدة، أو بحركة الواقع في نطاق المجتمعات الأخرى التي قد نلتقي بها في بعض المبادئ العامّة، وإن اختلفت التفاصيل عمقاً وامتداداً.
وربما نلتقي معها في المصالح العامّة بطبيعة وحدة الأرض التي نعيش عليها أو وحدة الظروف الموضوعية التي تحكم مسيرتنا في الحياة، ولهذا وجدنا خطوات الإسلام العملية تختلف في بداية الدعوة عنها في نهايتها مع المشركين، من المهادنة إلى الحرب إلى الصلح الذي انتهى بفتح مكة الذي أنهى كلّ وجود للمشركين في المنطقة الإسلامية. وهكذا في موقفه من أهل الكتاب وتمييزه بين النصارى واليهود فيما عبّرت عنه الآية الكريمة: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (المائدة/ 82-83).
وقد نلتقي ببعض الآيات القرآنية التي تفرّق بين الفريقين اللذين يختلف حال كلّ منهما مع المسلمين من حيث الموقف العدواني أو السلمي، وذلك هو قوله تعالى: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة/ 7-9).
وبقدر ما نستطيع استيحاء هذه الآية فيما يتعلق بالموقف الإسلامي من المحايدين الكافرين الذين لا يقومون بأي عمل عدواني ضد المسلمين بشكل مباشر أو غير مباشر، فإنّ إيحاء الآية القرآنية بتولي المسلمين لهم لا يتناسب مع اعتبار الحرب أساساً للعلاقة العامّة معهم.. ولابدّ لنا من التأكيد في هذا المجال، على أنّ هذا كلّه خاضع لاعتبارات المصلحة الإسلامية العليا في قضايا السلم والحرب، أو في الخطّة العامّة لحركة الإيمان في مواجهة الكفر.
وخلاصة الفكرة التي نشير إليها هنا أنّ الإسلام يؤمن بالتعايش السلمي مع الأديان الأخرى أو العقائد الأخرى، في نطاق حاجة الواقع بالمستوى الذي لا يمس سعيه الدائب من أجل الوصول إلى سيطرته على نظام الحياة من جهة، ولا يسيء إلى مفاهيمه العامّة من جهة أخرى. وبذلك كانت أساليب التعايش السلمي في التشريع الإسلامي وفي التطبيق العملي في حياة النبيّ محمد (ص) الذي تعتبر سيرته العملية شريعة للمسلمين في واقعهم العملي، مثالاً للمرونة وتجسيداً للحكمة التي اطلقت الدعوة في خطها المستقيم، سواء في ذلك مجال التبليغ أو مجال الواقع المتحرك الذي جاء الإسلام من أجل أن يعلم الناس كيف يتعاملون معه بالحكمة.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق