دراسة: د. أحمد أبوزيد*
هل تستمر الهجرة من الريف؟ وهل يظل الإنسان ساعياً نحو إقامة المدن العملاقة مع كل ما تحدثه من مشاكل اقتصادية واجتماعية؟ وهل أصبحت الزراعة التي كانت سبب الحضارة البشرية شيئاً من مخلفات الماضي؟
عاش الإنسان خلال معظم فترات التاريخ في تجمعات ذات طابع ريفي تعتمد على الجمع والالتقاط أو الصيد أو القنص أو الرعي والزراعة المتنقلة، وذلك قبل أن يظهر أسلوب الحياة الذي يقوم على ممارسة الزراعة الكثيفة المستقرة التي تتطلب الارتباط بالأرض بصفة دائمة مع رعايتها والمحافظة على خصوبتها، بل وتجديد هذه الخصوبة حين يحتاج الأمر إلى ذلك. وتعتبر هذه المرحلة الأخيرة خطوة ممهدة لظهور المدن والمجتمعات الحضرية بكل تنظيماتها وعلاقاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المترابطة والمتكاملة، والتي بلغت ذروة التماسك والتعقيد بالتحول إلى الصناعية وقيام المجتمع الصناعي في أواخر القرن الثامن عشر. ومنذ ذلك الحين لم تتوقف أساليب الحياة الحضرية عن الزحف الحثيث بسرعة ومثابرة لكي تحل محل أشكال الحياة والإقامة والعمل الأخرى، وإن لم تفلح في القضاء عليها تماماً. وتذهب بعض التقديرات – التي يجب أن تؤخذ بكثير من التحفظ والحذر – إلى أنّ السكان الحضريين أو سكان المدن عام 1800 كانوا لا يزيدون عن 3% من مجموع سكان العالم في ذلك الحين، وأنّ هذه النسبة ارتفعت عام 1900 – أي بعد قرن كامل – لتصبح 14% عام 1950 ثمّ ارتفعت مرة أخرى لتصبح 47% عام 2000 وأنّ المتوقع أن تصل إلى 60% عام 2030، وهذه كلها مؤشرات على نوع الاتجاه العام الذي يسود المجتمع ككل نحو التحضر، والحياة الحضرية التي تتمثل في المدن التي يزيد عدد سكانها عن المليون نسمة، فضلاً عن المدن الأخرى الصغيرة التي قد لا تتوافر فيها كل شروط ومتطلبات الحياة الحضرية، وبخاصة في العالم اللاغربي. والملاحظ على أي حال أنّ الاتجاه نحو التحضر يتم الآن بمعدلات أعلى في المجتمعات الأقل تطوراً عنه في الدول الأكثر تقدما وهو أمر منطقي نظراً لانعدام الخدمات الإنسانية والاجتماعية والصحية في المناطق الريفية من تلك المجتمعات. كذلك يلاحظ أنّ التزايد السكاني فيما يعرف باسم المدن العملاقة قد توقف نسبياً، على العكس من كل ما كانت تذهب إليه توقعات العلماء. فقد كان من المتوقع أن يرتفع باطراد عدد السكان في بعض هذه المدن مثل نيومكسيكو وكلكتا، بحيث قد يصل إلى ثلاثين أو أربعين مليون نسمة، ولم يتحقق ذلك مما قد يعتبر مؤشراً على أنّ المستقبل لن يشهد ظهور مزيد من هذه المدن العملاقة، التي كان يخشى أن تسيطر على اتجاهات البناء الحضري في العالم بشكل عام.
تضييق الفجوة:
والمهم هنا هو أنّ العالم يدلف الآن – ومنذ بعض الوقت وبسرعة فائقة – نحو حقبة تاريخية جديدة تسيطر عليها أنماط حديثة من الحياة الحضرية والإقامة والعمل في مدن ذات تكوين خاص يتناسب مع مستجدات الحياة وبخاصة فيما يتعلق بالتقدم التكنولوجي وسهولة عمليات الاتصال والتواصل على نطاق واسع، وبشكل غير مسبوق، ويتأثر سير الحياة والعلاقات فيها باتجاهات العولمة، التي سوف تتيح الفرصة لانتشار الأفكار المتحررة إلى جانب تدفق السلع والخدمات ورؤوس الأموال، وأنّ هذه التأثيرات سوف تنعكس بشكل أو بآخر في المناطق الريفية مما يساعد على تضييق الفجوة بين الريف والحضر. وبذلك قد يمكن القول إن مستقبل المجتمع الإنساني هو بالضرورة (مستقبل حضري) إن صح التعبير وقد بدأت بوادر هذا التغيير تظهر بالفعل في العالم المتقدم وتثير اهتمام بعض المنظمات الدولية حول مدن المستقبل ونوعية الحياة فيها، كما حدث مثلا بالنسبة لمؤتمر جنوا عن (مستقبل المدن الأوربية: دور العلم والتكنولوجيا) الذي أعقبه مؤتمر (المدن في المجتمع الكوكبي: مدن القرن الحادي والعشرين) الذي عقد في الولايات المتحدة، كما كان هذا الاهتمام وراء توجه مجلس الاتصالات في سان دييجو بأمريكا نحو بحث أوضاع ومشكلات مدن المستقبل، وعقد عدد من الندوات والمؤتمرات عام 2001 بالتعاون مع وكالة كاليفورنيا لتكنولوجيا المعلومات وبعض الأجهزة الرسمية الأمريكية الأخرى، وكان الهدف الأساسي من هذه المؤتمرات هو تحديد مدلول ومعنى التحضر في مختلف المجتمعات والثقافات ونوع العلاقات والتنظيمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والأنماط الإيكولوجية والأساليب الثقافية السائدة في المدن في الوقت الحالي، وما ينبغي أن تكون عليه هذه العلاقات والتنظيمات والأساليب في مدن الغد على مستوى العالم ككل وليس فقط على مستوى الدول الغربية والمجتمعات الصناعية الحديثة، وكذلك البحث عن أسباب تنوع واختلاف هذه التنظيمات في الوقت الحالي، وما قد يطرأ عليها من تغيرات في المستقبل وكيف يمكن الإفادة منها لإثراء الحياة فيالمجتمع (الكوكبي) المفتوح، وبخاصة فيما يتعلق بتحويل مدن المستقبل إلى مراكز ومناطق لإنتاج المعرفة وتصديرها.
مدينة ما بعد الصناعة:
وقد يكون من السهل نسبياً التنبؤ بمستقبل المدينة بعد الصناعية، خاصة أن لدينا معلومات كافية عن تطور ونمو المجتمع الصناعي، وظهور مجتمع ما بعد الصناعة الذي تقوم الحياة فيه على ركائز قوية من الخدمات المتنوعة، وما ينشأ عنها من تغيرات جذرية، وبخاصة في سوق العمل، إذ تتضاءل فرص العمل التقليدي المرتبطة بالتنظيم الصناعي، بينما تظهر في الوقت ذاته تخصصات مهنية أخرى تحتاج إلى مهارات خاصة لها اتصال وثيق ومباشر بمجالات المعلومات والاتصال والإدارة والتخطيط وإنتاج المعرفة وتسويقها، على ما يقول كنوت إريك سولم Knut Eric solem أستاذ الاجتماع والعلوم السياسية بجامعة العلم والتكنولوجيا في النرويج.. ولكن سوف تظهر في الوقت ذاته وعلى الجانب الآخر مواقف واتجاهات وتيارات جديدة مضادة قد يصعب التنبؤ بها بدقة، لأنّها تبزغ على السطح نتيجة للتغيرات التي سوف تتعرض لها منظومة القيم الأساسية التي يؤمن بها المجتمع الآن، ونشوء متطلبات جديدة ناجمة عن ارتفاع مستوى التعليم ونوعيته واتساع آفاق المعرفة وسهولة الاتصال بكل أنحاء العالم وتدفق المعلومات حتى بالنسبة للمجتمعات الأقل تطوراً. وقد يصاحب ذلك – كما يرى بعض المفكرين – حدوث تحولات في الامتداد الفيزيقي أو الجغرافي للمدن بالمعنى المتعارف عليه الآن لهذه الكلمة، إذ من المنتظر أن تتمدد أطراف بعض المدن إلى مناطق شاسعة تتناثر فيها التجمعات السكانية على مسافات متباعدة بعضها عن بعض، بحيث تكاد المدينة الواحدة تؤلف إقليماً متكاملاً يضم مناطق خضراء تفصل بين هذه التجمعات السكانية التي تقطنها العائلات التي تفضل الابتعاد عن الاكتظاظ السكاني والهروب من البيئة الخانقة التي تتميز بها المدن الحالية. وسوف يساع على ذلك الهروب والانتشار التقدم الهائل في تكنولوجيا الاتصال والتواصل الإلكتروني مما يوفر على السكان مشقة التحرك والانتقال، لدرجة أنّه سوف يتاح للمرء أن يؤدي عمله بكفاءة في منزله دون الحاجة إلى الانتقال إلى مكان العمل. وليس من شك في أنّ هذه الأوضاع الجديدة سوف تؤدي إلى ظهور مشكلات اجتماعية خطيرة نتيجة لتراجع الاتصال المباشر والتعامل (وجهاً لوجه) بين أعضاء المجتمع. وهذه أمور تشغل بال الكثيرين من المفكرين وتثير لديهم قدراً كبيراً من القلق.
المدينة/ الإقليم:
وتنشأ المدينة/ الإقليم الآن (وهي غير المدينة العملاقة التي تتميز بكثافة سكانية عالية) بطريقة تلقائية بل وقد تكون عشوائية نتيجة لانتشار السكان دون تخطيط مسبق إلى الأطراف البعيدة الهادئة. وسوف يشهد القرن الواحد والعشرون – كما ترى بعض التوقعات – قيام عدد كبير من هذا النمط من المدن (المدينة/ الإقليم) في كثير من أنحاء العالم كنوع من رد الفعل المباشر ضد الكثافة السكانية الهائلة في المدن الكبرى والأوضاع الإيكولوجية السيئة التي تعانيها هذه المدن وبخاصة تلوث البيئة بكل أشكاله ولذا فإنّ التحدي الذي سيتعين على المشتغلين بالتخطيط هو كيف يتحكمون في انتشار هذا النمط الذي يبدو أن لا مفر منه وكيف يحافظون على استمرار العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بين هذه التجمعات المتفرقة بعضها وبعض من ناحية وبين (المركز) من الناحية الأخرى، بحيث لا تصبح هذه التجمعات المتباعدة مناطق منعزلة ووحدات مستقلة ومتمايزة ومغلقة على ذاتها أو يزداد ارتباطها اقتصادياً واجتماعياً – وإن لم يكن سياسياً – بدول أخرى مجاورة غير الدولة/ الوطن كما هو الشأن في بعض الحالات التي تنشأ فيها المدينة/ الإقليم على الحدود السياسية للدولة/ الأُمّة، بحيث تتجاوز في تعاملاتها تلك الحدود كما هو الواقع الآن فعلاً بالنسبة لسنغافورة في امتداد تفاعلها مع ماليزيا وإندونيسيا. ولكن فيما عدا هذا الخطر الذي يبحث المفكرون على أفضل الأساليب والوسائل لتفاديه أو التقليل من آثاره السلبية فإنّ المدينة/ الإقليم سوف يتوفر فيها بغير شك إمكانات هائلة تضمن لها الاستمرار في الوجود والتفوق في مختلف المجالات، وبخاصة المجالات العلمية والتكنولوجية (وسنغافورة مثال على ذلك) وحتى تكون مصدر إشعاع وتأثير سياسي واقتصادي وثقافي، ومراكز جذب للأيدي العاملة الوافدة من الخارج. وسوف تفلح بعض هذه المدن في إقرار مكانتها المتميزة على مختلف الأصعدة والمستويات، بحيث تستحق أن يطلق عليها اسم (المدينة المتميزة) أو (المدينة السوبر Super City) وهو الاصطلاح المستخدم الآن في كثير من الكتابات، في الإشارة إلى هذه الفئة من المدينة/ الإقليم. وتذهب بعض تقديرات هيئة الأُمم المتحدة إلى أنّه بحلول عام 2015 – أي بعد عقد واحد فقط من الزمن، سوف يصل عدد هذه المدن إلى أكثر من خمسمائة مدينة وسوف يحظى جنوب غرب آسيا بعدد كبير من هذه المدن. وظهور المدينة الإقليم على هذا النطاق الواسع خارج العالم الغربي وبالذات خارج أمريكا سوف يقلل من هيمنة الغرب على العالم وهي الهيمنة التي تختفي وراء الدعوة إلى العولمة، وبذلك تساعد هذه المدن بكل ما تمثله من عناصر قوة وتأثير على إحداث نوع من التوازن بين الغرب والدول اللاغربية الناهضة، كما أنّه سيؤدي إلى ظهور مراكز عديدة للتنوع والتبادل والتقارب والتفاهم الثقافي على مستوى العالم وهو ما لا يتوافر الآن إلا في عدد قليل من المدن الرئيسية المعروفة.
ضد الامتداد الحضري:
ومع ذلك فإنّ هذا الميل إلى التمدد أو الانتشار المكاني للمدن يجد كثيراً من الاعتراض والرفض والتشكك في جدواه نظراً للآثار السلبية التي تترتب على تباعد التجمعات السكانية من تفكك في العلاقات الإنسانية، وصعوبة التحكم السياسي في الأطراف المتباعدة والأضرار التي تلحق بالبيئة فضلاً عن الصعوبات التي سوف يعانيها المواطن، وبخاصة المتقدمون في السن في الانتقال من منطقة سكنية إلى منطقة أخرى أو الانتقال إلى (وسط) المدينة. وتجد هذه الاعتضارات قدراً من الاستجابة في بعض الدول الأوربية، التي بدأت تحد من حركة الامتداد الحضري للإبقاء بقدر الإمكان على الصورة المتعارف عليها عن تنظيم المدن ووظيفتها في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمحافظة على هذه (الصورة) من بعض الأفكار (التقدمية) المتطرفة التي تذهب إلى حد الدعوة إلى بناء المساكن في مدن المستقبل من مواد صلبة، ولكن يمكن تغييرها حسب الرغبة أو إصلاحها حين يصيبها التلف أو إعادة تشكيل هيكل المسكن أو حتى نقله بأكمله من مكان لآخر وذلك تحت دعوى تحقيق أفضل مستوى لمفهوم ما يطلق عليه اسم المدينة الصالحة للعيش والإقامة فيها Liveable City.
ويثير تعبير (المدينة الصالحة للعيش والإقامة) في الذهن والخيال كثيراً من الأفكار الزاهية البراقة عن الحياة الرغدة السعيدة والجيرة الطيبة، ولكن تحقيق هذه الأفكار على أرض الواقع يتطلب مراعاة عدد من الأمور المتعلقة بنوعية الخدمات والمستويات الاقتصادية والقدرة على مواجهة التحديات الصعبة، وبخاصة فيما يتعلق بإعداد الشباب لأوضاع الحياة ومتغيراتها وتوفير الاعمال لهم في المجالات الجديدة، التي تتفق مع مستجدات ومتطلبات العصر وتنمية الوعي بأهمية مبدأ قبول الآخر وفهم أبعاده على النحو الصحيح وتفهم أخلاقيات وقيم ومبادئ الثقافات المختلفة، وتربية إرادة التعاون مع الوافدين من الخارج والتسامح مع الاختلافات العرقية والدينية واللغوية، والنظر إلى التنوع السكاني على أنّه عامل قوة وليس ذريعة للصراع وغير ذلك من المبادئ التي تكفل للجميع العيش في أمن وسلام.
حلم البيئة النظيفة:
وفي دراسة نشرها "معهد الأولويات The Priorities Institute" بولاية كاليفورنيا عن (المدن الصالحة للعيش والإقامة في القرن العشرين) يتساءل مدير المعهد لوجان بركنز Logan Perkins عن معايير نوعية الحياة التي يمكن توفيرها في مدن المستقبل، بحيث تصبح مناطق جاذبة للسكان وتشجع على الإقامة فيها والعوامل السلبية التي يمكن أن تعوق تحقيق هذه المعايير على أرض الواقع. ويخصص بركنز جانباً كبيراً من هذه الدراسة لمشكلة ازدياد الاعتماد على السيارة في الانتقال كأحد العوامل السلبية ويأخذ على الناس عدم إدراكهم لخطورة الآثار الناجمة عن الزيادة المطردة في أعداد السيارات المستخدمة في الحياة اليومية، ويتساءل عما إذا كان في الإمكان أن يتوصل الإنسان في المستقبل القريب إلى إيجاد نموذج أفضل للسكنى تتوافر فيه البيئة النظيفة والاكتفاء الاقتصادي وخدمات المجتمع المدني باعتبارها كلها معايير وشروطا أساسية للإقامة الطيبة السعيدة. ففي عالم يزداد سكانه بمعدل مليونين ونصف المليون نسمة في السنة الواحدة يصبح من المحتم البحث عن نموذج من المدن تتوفر فيه كل عناصر ومتطلبات ومعايير نوعية الحياة الراقية المستقرة، بحيث يحيط بالتجمعات السكانية في هذه المدن حزام من الخضرة وترتبط بعضها ببعض بالطرق الحديدية، ولا تدخلها السيارات التي يمكن تركها في (جراجات) عامة خارج تلك المناطق السكنية، وبحيث يحترم السكان الأرض ويعملون على تحسينها وتنميتها، بل وأن يتركوا دون استخدام مساحات واسعة خالية تماماً وبغير رصف أو تعبيد حتى تحتفظ بكل خصائصها ومقوماتها وعناصرها الطبيعية وثروتها الحيوية. وهذا معناه أن امتداد المدن في المستقبل يجب أن يتم التخطيط له حسب مبادئ وشروط (عقلانية رشيدة) تحرص على عدم الاعتداء على الأراضي الخضراء والمناطق البرية مع الأخذ في الاعتبار الأبعاد الثقافية والاقتصادية والعناية بصحة البشر وصحة البيئة وحيويتها على المدى البعيد، مع الاهتمام بوجه خاص بتوفير الغذاء لسكانها.
والواقع أنّه خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي بدأت بعض المناطق الحضرية في كثير من الدول تهتم بتوفير الطعام لسكانها بجهودها الذاتية بعد أن كانت تتباعد منذ الثورة الصناعية من الأنشطة الزراعية. وقد امتد هذا الاهتمام الحضري بزراعة الغذاء إلى الهيئات والمنظمات الدولية بحيث عقدت خلال السنوات القليلة الماضية عدة اجتماعات (قمة)، للبحث عن أفضل الطرق والأساليب التي تمكن المناطق الحضرية في العالم من توفير كفايتها من الغذاء بنفسها بدلاً من الاعتماد على المناطق الريفية، كما كان عليه الحال دائماً، فعقدت على سبيل المثال قمة الأرض والقمة الاجتماعية وقمة السكان وقمة المرأة وقمة الغذاء أو الطعام وهكذا، وظهر نتيجة لهذا الاهتمام البالغ بعض التعبيرات والمفاهيم الجديدة التي لا تخلو من طرافة مثل (الزراعة الحضرية) و(الطعام الحضري) وغيرهما. ومما له دلالة في هذا الصدد أن بعض الدراسات التي صدرت عن عدد من مراكز البحوث في الولايات المتحدة واليابان وأمريكا الجنوبية، تكشف عن أن معدلات الزيادة في إنتاج الطعام الحضري تفوق معدلات الزيادة في نمو سكان الحضر في كثير من الأحيان. وقد يأتي اليوم الذي تسهم فيه المناطق الحضرية في المحافظة على التنوع الحيوي وزيادته وتنميته بدلاً من أن تعمل على القضاء عليه وإبادته، بل وقد يأتي اليوم الذي تصبح فيه هذه المساحات الزراعية الحضرية مواطن للتجديد الإيكولوجي وتحويل النفايات إلى طعام والمحافظة بالتالي على الموارد القومية والعالمية بدلاً من أن تكون مجرد مناطق مستهلكة للطعام والمنتجات الزراعية الأخرى.
البطالة الحضرية:
ولكن كل هذه التحولات لن تكفي رغم أهميتها في جعل مدن المستقبل أماكن صالحة بالمعنى الدقيق للكلمة للعيش فيها والإقامة، لأن ثمة تنويعات هائلة من المشكلات الاجتماعية تهدد الحياة الهانئة الهادئة السعيدة التي يتخيل الكثيرون إمكان تحقيقها في تلك المدن. فمدن المستقبل مهددة بانتشار ما أصبح يطلق عليه اسم (البطالة الحضرية)، التي سوف تنجم عن التقدم التكنولوجي الهائل الذي يؤدي إلى الاستغناء عن كثير من الأيدي العاملة غير المؤهلة للظروف الجديدة، كما أنّ البيئة التحتية قد لا تتناسب مع التغيرات المعيشية، وهو ما بدأ يظهر بالفعل على كثير من المدن الكبرى في الوقت الراهن مثل شيكاغو وواشنطون، حيث كثيراً ما تتعرض نظم الصرف الصحي فيهما للتوقف والعطل وإن لم يصل بها الحال من السوء ما وصل إليه في كثير من المدن الأخرى الأقل أهمية، فضلا عن مدن العالم الثالث. وسوف تعاني المناطق الحضرية في المستقبل مزيداً من حالات الصراع الاجتماعي وانتشاراّ الجريمة والتشرد وظهور أنواع جديدة من الجريمة وحالات العنف والصراع على فرص العمل المتاحة القليلة، إلى جانب الارتفاع في معدلات الانتحار وبخاصة بين الشباب نتيجة للعجز عن التكيف مع الأوضاع المستجدة كما سوف تزداد أعداد المصابين بالاكتئاب الذي سوف يصبح أقرب إلى الظاهرة الاجتماعية الراسخة لدرجة أن بعض التقديرات تذهب إلى أن عدد المكتئبين في أمريكا يتضاعف كل عشر سنوات وهكذا.
والمهم في هذا كله أنّ التغيير أصبح مسألة لا جدال فيها، أي أنّه أمر محتوم ومحسوم، وأنّ التحدي الذي سوف يواجه المجتمعات الحضرية في المستقبل يكاد ينحصر في كيفية إدارة هذه التغيرات بحكمة وعقلانية حتى يمكن تحقيق أفضل ظروف ممكنة للتكوينات الحضرية الجديدة وللسكان، الذي سوف يتعين عليهم التوافق والتكيف مع هذه الأوضاع والمشاركة في التصدي لذلك التحدي واتخاذ القرار الملائم وتنفيذه. وسوف تتتوافر في المجتمع الحضري المستقبلي درجة عالية من الديمقراطية نتيجة لتقدم وتطور وفاعلية أجهزة المجتمعالمدني، التي ستكون أكثر قدرة على التصرف بعيداً عن تأثير الحكومة المركزية، حتى في مجتمعات العالم الثالث، كنتيجة مباشرة لاتساع رقعة امتداد وانتشار التجمعات السكانية وتدفق المعلومات وانتشار المعرفة، وهذه كلها عوامل من شأنها تهيئة الفرص لاحترام الاختلافات والتنوعات سواء في الثقافات، أم في خصائص ومقومات شخصية المدن المختلفة، كما تهيئ الفرصة أيضاً لمزيد من التجديدات التي تلغي التجديدات السابقة وتحل ملحها. وليس هذا بالأمر المستغرب لأنّ التجديدات وجدت لكي تتغير وإلا استحال التجديد من أساسه، ولم يعد للكلمة مدلول أو معنى. فكل تجديد يحمل في طياته بذور وعناصر وعوامل القضاء عليه، وهذا ما يجعل من الصعب التنبؤ بدقة ويقين عن مستقبل الحياة الحضرية بالرغم من كل الجهود التي يبذلها المفكرون والمهتمون بالتخطيط والنظريات والآراء التي يخرجون بها علينا من حين لآخر.
*عالم انثروبولوجي من مصر
ارسال التعليق