تشهد الساحة الإعلامية انتعاشاً مثيراً لخبراء الاقتصاد، كما يدعون في العادة، من المختصين أو غير المختصين بالعلوم الاقتصادية. ورغم أنّ انتشار الثقافة الاقتصادية ميزة حميدة للشعوب المتطوّرة، إلّا أنّ الخوض في السياسات الاقتصادية والتحليل الاقتصادي بخطابات شعبوية متخمة بالأوهام والتسطيح الساذج يزيد المشهد ضبابية ويضعف من رصانة المعرفة الاقتصادية، خصوصاً حين تتسلل تلك الاتجاهات والتيارات الفكرية الشعبوية إلى المؤسّسات الأكاديمية وتُناقش أكاديمياً كحقائق اقتصادية مطلقة.
في هذا السياق، راج على وسائل التواصل الاجتماعي مؤخراً مقال بعنوان «مزاد بيع العملة في العراق تدمير لاقتصاد العراق وإنعاش لاقتصاد إيران». وحقيقة الأمر فإنّ المضمون الفكري للمقال المذكور طرح مراراً وتكراراً إعلامياً وفي مناسبات اقتصادية متعدّدة مخلِّفاً قناعات راسخة بالدور السلبي الذي يمارسه سعر الصرف على الاقتصاد العراقي ودوره الإيجابي في إنعاش وتنمية الاقتصاد الإيراني (حصراً). وهو ما يزيد الضبابية والالتباس حول الاستقلالية الفعلية للبنك المركزي، ليس عن الحكومة العراقية فحسب، وإنّما عن المصالح الاقتصادية لدول الجوار.
حقيقة الأمر كان لردود الفعل والنقاشات التي دارت حول إدارة سعر صرف الدينار العراقي وارتباطه الديناميكي بالاقتصاد الإيراني حافزاً لكتابة هذا المقال، في محاولة بسيطة لإزالة الغموض والالتباس بشكل علمي محايد (ومتواضع) وعلى شكل المحاور الأتية.
1- تم تغيير اسم مزاد العملة الأجنبية إلى نافذة العملة الأجنبية، ولا تمثّل النافذة إحدى أدوات السياسة النقدية وإنّما هي إجراء إداري الغرض منه تحقيق الاستقرار في مستويات الأسعار.
2- لا تعد نافذة العملة أداةً مُثلى لإدارة سعر الصرف في العراق لكن بسبب ريعية الاقتصاد وعمق الاختلالات الهيكلية وضعف الإنتاج الوطني في تلبية الطلب المحلي المتزايد على السلع والخدمات كان لابدّ من تحقيق الاستقرار في سعر الصرف عبر تغذية الطلب على المستوردات بدولارات نفطية، خصوصاً وإنّ البنك المركزي العارض الرئيس للدولار في سوق الصرف الأجنبي.
3- إنّ المبالغة في تقييم سعر صرف الدينار تعمل فعلاً على استنزاف الاحتياطي الدولاري لدى البنك المركزي (على افتراض الثبات النسبي للإيرادات النفطية) نظراً للعلاقة الطردية بين المعروض من الدولار وسعر صرف الدينار، لكن هذه مهمّة الاحتياطي الأجنبي، على الأقل في الوضع الاستثنائي الذي يعيشه البلد.
4- لماذا تم تقييم سعر صرف الدينار العراقي بهذا المقدار؟؟؟ حجة البنك المركزي (والمدعومة من لدن صندوق النقد الدولي) هي رفع المستوى المعيشي للمواطنين نظراً لأنّ مكونات السلة الاستهلاكية للمواطن مستوردة بالكامل. بالإضافة إلى هدف دفع المصارف صوب ممارسة دورها الاقتصادي المنشود كجسور لتمويل الاستثمار والنمو الاقتصادي في البلد بدلاً من الانخراط المحموم في مزاد (نافذة) العملة الأجنبية لأجل الاستفادة من الفروقات السعرية بين سعر الصرف الرسمي والسعر السوقي.
5- يرى الكثيرون أنّ رفع المستوى المعيشي للمواطن كانت على حساب النهوض بالمنتج المحلي، الذي لا يستطيع منافسة المنتج الأجنبي (الإيراني والتركي والصيني) كون تكاليف الإنتاج عالية في العراق. هل يعني ذلك بأنّ تخفيض قيمة الدينار العراقي (1500 دينار مثلاً للدولار الواحد بدلاً من 1200 دينار) سيدعم الصناعة ويزيد معدلات الإنتاج؟؟؟
الجواب كلا... لأنّ هناك متطلبات كثيرة بحاجة لتأمين حتى ينهض المنتج الوطني وبالتالي فإنّ سياسة خفض سعر الصرف الدينار قد تكون ساندة لكن بعد توفر متطلبات أُخرى منها (توفير البنية التحتية وتسهيل التشريعات الحكومية الساندة للاستثمار وتفعيل الضرائب الكمركية ودعم المنتج الوطني... وغيرها).
6- أخيراً يرد السؤال: هل أنّ سعر الصرف المغالي مناسب لإنعاش اقتصاد إيران حصراً؟؟؟
الجواب كلا... لأنّ سعر الصرف المغالى فيه ينعش كافة الاستيرادات ومن مختلف الدول (الصين وتركيا ومصر والأردن والخليج والعديد من الدول الآسيوية) كونه يمنح هذه الدول ميزة نسبية في تسويق منتجاتها إلى العراق نظراً لارتفاع الطلب المحلي غير المشبع والمدعوم بقوّة شرائية عالية. وعلى مستوى السياحة أيضاً فإنّ قوّة الدينار العراقي تزيد من وفود السائحين العراقيين إلى مختلف بلدان العالم، وليس إيران فقط، نظراً للقوّة النسبية (غير الحقيقية) للدينار العراقي.
ختاماً نود الإشارة إلى أنّ دول الجوار، ومنها إيران، لا تعول كثيراً على سعر صرف الدينار العراقي في رفع معدلات الصادرات وتحقيق النمو الاقتصادي لعدة أسباب منها:
1- تشير تجربة السنوات الأخيرة إلى تأرجح القرار السياسي والاقتصادي في العراق بشكل غير قابل للتنبؤ وبعيداً عن الانتظام.
2- يرتبط سعر صرف الدينار العراقي بالاحتياطي الدولاري لدى البنك المركزي والمرتبط أساساً بإيرادات الحكومة العراقية من صادرات النفط، وهذه الأخيرة دالة للتقلب المتكرر لأسعار النفط في أسواق الطاقة العالمية.
3- بدل التعويل على سعر صرف الدينار العراقي المغالى فيه، ينخرط الشركاء التجاريون للعراق (الصين وتركيا وإيران والأردن وغيرها من الدول)، منذ سنوات، في منافسة شرسة للاستحواذ على السوق العراقي عبر خفض التكاليف والأسعار أو رفع جودة المنتج أو خفض أسعار العملات الوطنية لتحقيق الميزة النسبية لمنتجاتها الوطنية.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق