• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

محورية الصدق في الصفات الأخلاقية القرآنية

محورية الصدق في الصفات الأخلاقية القرآنية

الصدق في القرآن الكريم من المفاهيم المحورية في المنظومة القيمية التربوية. وقد حثّ القرآن الكريم على هذه القيمة الرفيعة بأساليب متعدّدة وطُرُق مختلفة، واستهدفها في مناسبات متنوّعة ومتعدّدة. وسنبيّن بعض هذا المقام للصدق والصادقين ضمن الجدول الآتي:

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) (الأحزاب/ 23-24).    

إنّ السبب الحقيقي للمجازاة الإلهيّة لهولاء الرجال هي صدقهم على عهدهم بأن لا يفرّوا إذا لاقوا العدو. فقال: (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ)، والباء للسببية أي ليُجزى المؤمنين الذين صدقوا عهدهم بسبب صدقهم في أقوالهم وأحوالهم، ومعاملتهم مع الله، واستواء ظاهرهم وباطنهم.   

(قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (المائدة/ 119).   

والمراد بهذا الصدق من الصادقين هو صدقهم في الدُّنيا. وقوله: (لَهُمْ جَنَّاتٌ) فهو بيان لجزاء صدقهم عند الله. فالصادقون في الدُّنيا في قولهم وفعلهم ينتفعون يوم القيامة بصدقهم، لهم الجنّات الموعودة وهم الراضون المرضيون الفائزون بعظيم الفوز. على أنّ الصدق في القول يستلزم الصدق في الفعل - بمعنى الصراحة وتنزه العمل عن سمة النفاق - فينتهي به إلى الصلاح.

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) (يونس/ 2).     

(قَدَمَ صِدْقٍ) سابقة ومنزلة رفيعة. سُمّيت قدماً لأنّ السبق والسعي بها، كما سُمّيت النِّعمة يداً، لأنّها تُعطى باليد. وإضافتها إلى الصدق لتحقّقها، والتنبيه على أنّهم إنّما ينالونها بصدق القول والنيّة.

والمراد بقدم الصدق هو المنزلة الصادقة كما يشير إليه قوله: (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (القمر/ 55). فإنّ الإيمان لمّا استتبع الزُّلفى والمنزلة عند الله كان الصدق في الإيمان يستتبع الصدق في المنزلة التي يستتبعها فلهم منزلة الصدق كما أنّ لهم إيمان الصدق.

(وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم/ 50) ، وقال تعالى: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) (الشعراء/ 84).

لسان الصدق: الكلمات والخطابات التي تطابق الحقّ من تعليمات إلهيّة وأحكام حقّة ومعارف دينية تبقى إلى آخر الأزمنة، ويستفيد منها المتأخّرون فيما بعد. فأنبياء الله وأولياؤه متّصفون دائماً بلسان الصدق، ومتكلّمون بالحقّ ولا ينطقون إلّا حقّاً وصدقاً.

(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) (الإسراء/ 80).       

فالأنبياء (ع) يطلبون من الله بإلحاح أن يكون دخولهم وخروجهم في كلّ أمر منعوتاً بالصدق دائماً، وجارياً على الحقيقة من غير أن يخالف ظاهره باطنه أو يضادّ بعض أجزائه بعضاً. كأن يدعو الإنسان بلسانه إلى الله وهو يريد بقلبه أن يسود على الناس، أو أن يخلص في بعض دعوته لله ويشرك في بعضها غيره والعياذ بالله. لذا دعاؤهم دائماً أن يوفّقهم الله ليكونوا من الصادقين حقّاً ظاهراً وباطناً.

أقسام الصدق

للصدق أقسام متعدّدة منها:

1- الصدق مع الله:

قال تعالى: (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) (محمّد/ 21)، وقال تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحشر/ 8).

الآية الأُولى تقول: إنّ هولاء لو صدقوا الله فيما زعموا من الحرص على الجهاد أو الايمان، أو لو صدقوا في إيمانهم وواطأت قلوبهم فيه ألسنتهم (لَكَانَ) الصدق (خَيْرًا لَهُمْ) في دينهم ودنياهم من نفاقهم.

والآية الثانية تقول: إنّ هؤلاء المهاجرين ليسوا من أصحاب الادّعاءات، بل هم رجال حقّ وجهاد، وقد صدقوا الله بإيمانهم وتضحياتهم المستمرّة. وفي مرحلة أُخرى يصفهم سبحانه بالصدق. ومع أنّ الصدق له مفهوم واسع، إلّا أنّ صدق هؤلاء يتجسّد في جميع الأُمور: بالإيمان، وفي محبّة الرسول، وفي التزامهم بمبدأ الحقّ.

2- الصدق في الأحوال، في النيّات:

وهذا يستلزم أن تكون بواعث الأعمال والأقوال كلّها لله عزّوجلّ، وأن يكون ظاهر العبد معبّراً عن باطنه. فالصدق في الأحوال يقتضي الإخلاص، وهو تمحيص النيّة وتخليصها لله، بألّا يكون للإنسان هدف من وراء طاعته وعبادته إلّا رِضا الله والتقرُّب إليه. قال الله تعالى (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (البينة/ 5).

3- الصدق في الأقوال:

الصدق في القول هو الإخبار عن الأشياء على ما هي عليه. وهو يستوجب على المؤمن أن يحفظ لسانه فلا يتكلّم إلّا بصدق ولا ينطق إلّا بحقّ، فأحسن الكلام ما صدق فيه قائله، وانتفع به سامعه. كما ورد عن النبيّ (ص) أنّه قال: «ومَن كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فَليَقُلْ خيراً أو لِيَسكُتْ».

4- الصدق في الأعمال:

يتحقّق الصدق في العمل من خلال ثلاث علامات هي:

أ- مطابقة ظاهر العمل باطنه، من استواء السريرة والعلانية، فيكون الباطن مثل الظاهر، أو خيراً منه، فتكون الأعمال الصالحة الظاهرة التي يقوم بها المُسلِم ترجمة صادقة لما هو مستقرّ في باطنه. بمعنى آخر تكون سريرته وعلانيته واحدة.

ب- إتقان العمل الصالح الذي يقوم به المؤمن، من خلال أداء الأعمال والحقوق كاملة مُوَفّرة، فلا يبخس ولا يغشّ ولا يخادع ولا يظلم.

ج- أن يكون العمل طاعة لله ولأوامره ونواهيه، من خلال الأخذ بكتابه مقتدياً بسنّة رسوله ونهج أهل بيته.

5- الصدق في العزم:

والمقصود بالصدق في العزم أن يكون جازماً وعازماً على الخير دوماً وثابتاً عليه. فإذا عزم على أمر ما كأن يتصدّق إذا خلّصه الله تعالى من بلية ابتلي بها، فإن كان في باطنه جازماً على هذا العزم، ومصمماً على العمل بمقتضاه كان عزمه صادقاً، وكُتُب في الصادقين. وأمّا لو تغلّبت عليه نفسه ولم يفِ بما عزم عليه لم يكن صادقاً ولا مصداقاً لقوله تعالى: (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) (الأحزاب/ 23).

علامات الصادقين

لقد بيّن القرآن في تضاعيف آياته الكريمة علامات الصادقين في العديد من الآيات القرآنية منها قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة/ 177).

وفيما يلي نعدّد العلامات الستّ الأساسية التي ذكرتها الآية الكريمة وهي:

العلامة الأولى: الإيمان بالمبدأ، والمعاد، والملائكة المأمورين من قبل الله، والمنهج الإلهيّ، والنبيّين الدُّعاة إلى هذا المنهج.

العلامة الثانية: الإنفاق بعد الإيمان، وهو قوله: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ).

العلامة الثالثة: إقامة الصلاة. وهي قوله: (وَأَقَامَ الصَّلاةَ).

العلامة الرابعة: أداء الزكاة والحقوق المالية الواجبة: (وَآتَى الزَّكَاةَ).

العلامة الخامسة: الوفاء بالعهد: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا)، فالثقة المتبادلة رأس مال الحياة الاجتماعية. وترك الوفاء بالعهد من الذنوب التي تزلزل الثقة وتوهن عرى العلاقات الاجتماعية، من هنا وجب على المُسلِم أن يلتزم بثلاثة أُمور تجاه المُسلِم والكافر، وإزاء البرّ والفاجر، وهي: الوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، واحترام الوالدين.

العلامة السادسة: الصبر: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ).

ثمّ تؤكّد الآية على أهميّة الأُسس الستّة وعلى عظمة مَن يتحلّى بها، فتقول: (أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).

الملفت للنظر أنّ الصفات الستّ المذكورة تشمل الأُصول الاعتقادية والأخلاقية والمناهج العملية. فتضمّنت الآية كلّ أُسس العقيدة، وكذلك أشارت إلى الإنفاق والصلاة والزكاة بين المناهج العملية، وهي أُسس ارتباط المخلوق بالخالق، والمخلوق بالمخلوق. وفي الحقل الأخلاقي ركّزت الآية على الوفاء بالعهد، وعلى الصبر والاستقامة والثبات، وهي أساس كلّ الصفات الأخلاقية السامية، لتختم الآية مؤكّدة أنّ هذه هي صفات الصادقين.

ارسال التعليق

Top