قد يكون من الغريب الحديث عن فنون داخل السجون، خاصة أن دولة الاحتلال وإدارة مصلحة السجون تحارب الأسرى في لقمة عيشهم ودواءهم واحتياجاتهم الأساسية والإنسانية، واعتقد أنه من الإبداع الحديث عن فنون في السجون تعزل الأسرى وتمنعهم من الزيارات وتنقلهم من السجون وتفرض عليهم الغرامات العالية بسبب إحياء ليلة تخللتها الأناشيد والزجل والأغاني الوطنية في وداع أسير محرر بعد ثلاثين عاماً من الاعتقال، أو في استقبال أسير بعد عملية فدائية تاريخية في أعقاب حالة صمود أسطورية في التحقيق والزنازين، وفي إحياء انطلاقات الفصائل الوطنية والإسلامية، وكان المعتقلون ينظمون حفلات غنائية، مرة واحدة أسبوعياً، وتكون حفلات ممتعة وشيقة للجميع رغم أنف السجان وأشكال عقابه وعوائقه.
أذكر حينما نقلت من سجن عسقلان إلى سجن نفحة الصحراوي في العام 1994 وإذا بآلة "العود" الواحدة والوحيدة التي رأيتها كآلة موسيقية في كل السجون، فسألت عن قصتها، فأجابني الأسرى أنه في العام 1985م صنع الفنان الأسير المرحوم عوني الخروبي الذي تواجد في سجن غزة وعسقلان ونفحة آلة الكمان الموسيقية، من طاولة الزهر، وكانت إدارة السجون تصادرها، ويقوم بإعادة صناعتها، وطالب الأسرى بإدخال الأدوات الموسيقية للسجون، فسمحت فقط بإدخال الكمان في سجن غزة، والعود في سجن فقط في نفحة لهذا الأسير الفنان، الذي علم بعض الأسرى ممن تنافسوا فيما بينهم على تعلم العزف، وقام المرحوم الفنان الخروبي بتلحين أشعار الأسرى التي كتبوها داخل الاعتقال وتم ترديدها في المناسبات والاحتفالات الوطنية في السجون وفي الخارج من قبل الأسرى المحررين، وهنالك من كتب القصيدة المغناة في السجن.
وفي السجون تم كتابة القصائد الشعرية، وتلحين عدد كبير من الأغاني الوطنية، ونشيدها بشكل تراثي وزجلي وشعبي، ولا يخلو قسم من عدد من المنشدين المبدعين ممن أحيوا الحفلات والمناسبات والمسابقات والانطلاقات في السجون.
ويقول الأستاذ الدكتور جهاد البطش أن العام 1984م أخذت الاحتفالات في السجون شكلاً جديداً، فقد تضمنت الفقرات أغاني ودبكات شعبية ورفع للأعلام الفلسطينية، وغلب اللون الحزين على الأغاني والمواويل ليعكس الحجم المذهل المختزن في أعماق الأسرى، ويعكس توجعاً إنسانياً من الظلم الاجتماعي والقمع الاحتلالي، والحرمانات اللانهائية، وكثيراً ما كنت تجد الأغنية والنشيد الوطني يتبع الموال الحزين في جدلية مميزة، كان الأسير يفتح جرحه ثم يداويه، غالباً ما كان المغني الأسير يؤدي ما هو موجود من أغاني ومووايل، لكنه أداء يحمل بصماته الخاصة، وبعضهم ألّف الأغنيات ذات الطابع الشعبي، وبدرجة أكبر المووايل.
ويؤكد مركز أبو جهاد لشؤون الحركة الأسيرة أن المعتقلين أوجدوا لأنفسهم فضاءات جديدة، فعلى صعيد الموسيقى سادت موسيقى الشبابة، والمجوز، والأرغول، باعتبارها الأدوات الموسيقية الوحيدة التي كان يمكن للمعتقلين صنعها من أنابيب التمديدات الكهربائية المنتزعة من الجدران، كم كان عذباً صوت شبابة أبو علي الديراوى، ومجوز أبو سلطان، ودبكة أبو حامد الرفاتي، وأغاني محمود البرغوثي وغيرهم كثر من أبناء الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق