• ٢٥ آب/أغسطس ٢٠٢٤ | ١٩ صفر ١٤٤٦ هـ
البلاغ

عن العرب والعولَمَة

إبراهيم العجلوني

عن العرب والعولَمَة

إنّ من أعجب العجب أنّ أحكام العولمة الثقافية لا تنطبق أو لا يُراد لها أن تنطبق إلّا على البلدان العربية الإسلامية. أما أوروبا وأميركا فإنّ شعوبها غير معنية بالتنميط الثقافي للعولمة، بل هي مستمسكة بخصوصياتها أشد الاستمساك، معتصمة بخصائصها الثقافية أشد الاعتصام.

إنّه لا أحد يتهم الإنجليز إذا ما أرادوا أن يبقوا إنجليزاً بالانغلاق والتزمت وضيق الأفق. ولا أحد يتهم الفرنسيين، ولا الألمان، ولا الطليان بشيء من ذلك، أنّ هم حافظوا على أصالتهم الثقافية، واهتموا بلغاتهم القومية وآدابهم، وفنونهم الأصيلة، وعقائدهم.

إنّ هذا كلّه غير محظور عليهم بحال، بل هو مما يفخرون به ويُمدحون عليه. ولن نجد شعبا في الأرض إلّا وهو يعلن انتماءه إلى أصوله الحضارية دون أن يخشى أبناؤه أن يوصفوا بالتخلف أو الرجعية أو الماضوية أو ما شئت من هذه المترادفات.

أمّا نحن العرب والمسلمين فنحن مدعوون دون شعوب الأرض إلى ترك قرآننا وعربيتنا وآدابنا وأخلاقنا وكلّ ما يجعلنا عرباً، وإلى أن ننقطع عن تاريخنا وحضارتنا؛ فإن رفضنا هذه الدعوة الخبيثة فإنّ معجماً من التهم المعجبة سوف ينبعث في وجوهنا، ولا سيما من أولئك الذين صُنعوا على أعين دهاقنة العولمة وأُشربوا مفاهيمها وأُرسلوا في مآربها وأُعين أو ذاهلين.

لقد بلغت اليابان من الرقي درجة متقدمة لا يماري فيها عاقل ولا يملك أن يتجاهلها متجاهل، ولعلّهم أن يتفوقوا من قريب على الولايات المتحدة الأميركية التي ضربتهم في هيروشيما ونكازاكي ضربة كفيلة بوأد كلّ متطلع فيهم إلى النهوض مجرد النهوض من كبوتهم، لكن الياباني المعاصر شديد التمسك بقوميته وخصوصية ثقافته وأخلاق آبائه وأجداده، وهو يقتصر على آخذه من الغرب على ما يفيده في نهضته العلمية وعلى ما يجعله مرهون الجانب عزيزاً في موطنه.

كتب سائح غربي زار اليابان قبل خمسة وثمانين عاماً أنّ الماضي لا يزال عند اليابانيين - وفي جميع طبقاتهم - معظماً مقدساً (انظر: لماذا تأخر المسلمون، شكيب أرسلان، ص54) لأنّهم يجدون ما يعزز شعورهم بقيمتهم الحاضرة، فتراهم يكافحون بوسائل المدنية الحديثة التي لا سبيل إلى الحياة بدونها لكي ينبذوا كلّ «تغريب» بمجرد ما يجدون أنفسهم في غنى عنه، ويعودون بعد أكثر استمساكاً بشعورهم القومي الخالص الذي به يعتقدون أنّهم المتميزون.

إنّ المعادلة واضحة في ذهن الياباني المعاصر، فهو حريص على تفوقه العلمي والاقتصادي وحريص في الوقت نفسه على أصالته الحضارية وثقافة أمته، ولا يختلف الأمر مع الفرنسي والإيطالي والروسي والإنجليزي. بل أنّ شخصية يهودية مثل اينشتاين كانت مخلصة للتوراة والتلمود مستمسكة بهما ربما اكثر من استمساكها بالنظرية النسبية العامة والخاصة اللتين ارتبطتا بها في تاريخ العلوم.

إنّها قاعدة مطّردة في الأُمم، إلّا فينا نحن العرب، فإنّ علينا أن ننتزع أنفسنا من إسلامنا وعربيتنا وثقافتنا حتى يُسمح لنا بشرف اللحاق بهذه العولمة التي يبدو إنّها صُممت خصيصاً لإخراجنا من جلودنا، أو لطمس ملامحنا وجعلنا مجرد أرقام في حساباتها..

على أنّنا، وبقدر ما نأسى لانخداع طوائف منا بهذا الكيد المتعاظم، فإنّنا نطمئن إلى حقيقة أنّه لن يقف في وجه هذا الاستعمار الجديد، ولن يدفع أنّه عن البشرية إلّا هذه الأُمّة الوسط الشاهدة على الناس، والتي إنّما تلقى العنت وتجدُ الرَّهق بسبب ذلك.. وكم يستبطنُ ذلك من مبشّرات على ظاهر ما فيه من آلام.

ارسال التعليق

Top