حين وصلت باريس في اليوم الثاني من السنة الجديدة، على متن القطار المنطلق من لييج البلجيكية مرورا ببروكسل، كانت وسائل الإعلام قد ذكرت إنّها تعيش حالة من التوتر، والتحفز، والاستنفار الأمني تحسّباً لوقوع هجمات إرهابيّة، لذلك لم أفاجأ، عندما وجدت نفسي أقف في طابور طويل، في رصيف المحطّة إلى جانب الكثير من زوار العاصمة الفرنسية من العرب، والأجانب، لاستكمال إجراءات تفتيش لم أعهدها من قبل في المحطّة نفسها، وحين اقتربت من الشرطي شاهراً "دليل إدانتي " وأعني جواز سفري، متوقعاً أن يصرخ: وجدته، كما صرخ عالم الرياضيات أرخميدس حين اكتشف قانون الإزاحة "الماء المزاح يساوي وزن الأجسام المغمورة"، لكنّ الشرطي لم يفعل شيئاً من هذا، بل ابتسم بوجهي، فاسحاً الطريق لي للسير في عاصمة النور، والجمال التي كانت قد طوت قبل ليلة آخر صفحة في دفتر عام، مرّ ثقيلاً عليها، إذ شهدت خلاله حادثين الأوّل كان في مثل هذه الأيام، من العام الماضي، تمثّل بالهجوم على صحيفة "تشارلي إبدو"، والثاني وقع بعد أن فتح إرهابيون النار على مرتادي عدّة أماكن ليخلّفوا مجزرة، لكنني بعد أن قمت بجولة في شوارعها وجدت باريس، كما رأيتها من قبل، تضجّ بالحياة، والجمال، وتعزّز هذا الشعور في الأمسية التي اشتركت بها مع صديقي الشاعر عدنان الصائغ، في فضاء لامارتان بالحي اللاتيني، إذ حضر جمهور ملأ القاعة، واللافت للنظر أنّ الكثير من الحضور كان من الفرنسيين، فقامت المغربية فاطمة بلحاح بالترجمة الفورية، وكذلك احتفت بنا وسائل الإعلام الفرنسية بأقسامها العربية، كتلفزيون فرانس24، وراديو مونت كارلو، وإذاعتي الشرق، والشمس، وكان السؤال الذي تكرّر علينا هو: كيف رأيتما باريس؟
وكأنّ باريس فتاة جميلة تريد أن تتأكّد، بعد تعرّضها لوعكة، من أنّ الوعكة عابرة، فلم تمسّ أناقتها، وجمالها.
هكذا رأينا باريس، جميلة، وأنيقة، تقف بصلابة برجها "ايفل"، تغمر زوّرها بالمحبّة، ومثلما تعاطت مع حادثة صحيفة "شارلي إبدو" بحكمة، تعاملت مع "الاعتداءات" بروح إيجابيّة، ليقينها أنّ الإرهاب "لا دين له"، ولو ألقينا نظرة على المصلّين بمسجد باريس الكبير، لعرفنا مدى احترام فرنسا للأديان، وهو أمر ذكره نابليون بونابرت في رسالة وجّهها إلى كليبر الجنرال الذي عيّنه خلفا له، بعد أن عاد إلى باريس سنة 1700 م، وكانت وصيّته له "إذا أردت أن تحكم مصر طويلا، فعليك أن تحترم عقائد الناس الدينيّة".
لقد نجح نابليون في كسب ودّ المصريين، عندما ارتدى الملابس الشرقيّة، والجلباب، ووضع على رأسه العمامة، وأسمى نفسه "بوانابردي" باشا، فيما أطلق عليه المسلمون "علي نابليون بونابرت"، ورغم أنّ الباحثين يرون أنّ تلك الإجراءات كانت جزءاً من سياسة اتّبعها، لضمان ولائهم له، لكنّ الثابت إنّه نجح في هذا إلى حدّ ما، حتى لو ظلّت قضيّة اعتناقه للإسلام، ولبسه العمامة، كما ظهر في بعض الصور، تثير شكوكهم .
لقد أدرك نابليون الذي جلب مع جيشه فريقاً من العلماء، والمهندسين، والجغرافيين، ومطبعة خاصة، أنّ مداعبة مشاعر العرب الدينيّة، كفيلة باستمالة عواطفهم، وبالتالي تقبّلهم له، وفي كلّ هذا ظلّت تلك المشاعر خطّاً أحمرلا يمكن تجاوزه، وفرنسا الدولة العلمانيّة، كما تنصّ الفقرة الثانية من دستورها، تحترم الأديان كافة، ويتراوح عدد المسلمين فيها بين 5- 6 ملايين تبعا لإحصائيّة نشرت العام 2014، وبناء على ذلك، فالدين الإسلامي هو الدين الثاني فيها، وعلى امتداد سنوات طويلة نظرتْ إلى الشعائر الدينية نظرة تقدير، فسمحت بإنشاء مساجد عديدة يؤمّها المصلّون، ووفّرت الحكومة الفرنسيّة مساحات من أراضٍ لبناء المساجد عليها، لتسير طبقاً لوصيّة نابليون بونابرت، لذا ظلّت عمامته تؤكّد أنّ المساس بعقائد الناس عواقبه وخيمة، ولن يجلب سوى الكراهيّة، والعنف، والفتن، والصراعات التي حين تنشب، فإنّ نيرانها ستظلّ تستعر، فتجاوزت الحادثتين، بخاصّة أنّ مفاصل الدولة الفرنسيّة بيد فرنسيين من أصول جزائرية، ومغاربية، ويكفي أنّ أحد الذين قتلوا في مذبحة "تشالي إبدو" كان اسمه "مصطفى " وآخر اسمه "محمد"!!
لقد اختارت فرنسا الطريق الأسلم، وأبقت على عمامة بونابرت جزءاً من تراث أمّة تحترم الأديان رغم علمانيّتها، لذا لم أتردّد عندما حان وقت صلاة الظهر، وكنت في الحديقة المجاورة لكنيسة "نوتردام" أن أقف بين يدي الله، بعد أن توضّأت بالنور، وسط المارّة الذين كان البعض منهم ينظر باتجاهي، ثم يواصل سيره في مدينة مفتوحة لكلّ الأديان، الشعائر، والأفكار، والنظريّات، لأنّ النور عنوانها.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق