إنّ الإنسان المسلم إذ يريد الدخول إلى عتبات هذا الشهر الفضيل يجب أن يكون على أهبة الاستعداد، والانخراط في (دورة تدريبية) يتمرن فيها على كيفية تنمية الجانب الإنساني الخالص من حياته. وقد أحيطت هذه الدورة بهالة من التقديس والإجلال، ووضعت فيها أحكام استثنائية كثيرة، وهُيِّئ لها حشد من التنظيمات والتعليمات: فقد بدأ الأمر بدعوة كريمة – وما أعظمها من دعوة – من قبل الله تعالى مالك الكون... وجبار السماوات والأرض... المفيض بكلّ النعم على الجميع... دعوة موجهة إلى العباد الضعفاء الذين هم لا شيء إلى جنب حقيقته اللانهائية، تؤهلهم للدخول إلى ضيافة كريمة... يزداد فيها المدد المقدس.. وينهلّ عليهم النعيم الوفير. ما أروع أن يشعر الإنسان – حقّ الشعور – بذلك... خالقه الرحيم يدعوه إليه في ضيافة كريمة خاصة ينسبها إلى نفسه بالخصوص؛ مع أنّ الموجودات كلّها تعيش في ضيافته ونعمته في كلّ آن وبكلّ معنى كان. ولكنها ضيافة خاصة. فكما أنّ المكان كلّه لله، ولكن الله تعالى نسب بقاعاً مقدّسة إليه بالخصوص ليؤكد على أهميتها.. كذلك فإنّ الزمان كلّه له سبحانه، ولكنه نسب الشهر المبارك إليه بالخصوص فهو – كما يقول (ص): "شهر الله" وهو عند اللهِ أفضَلُ الشهور، وأيّامُهُ أفضَلُ الأيّامِ، ولياليه أفضَلُ الليالي، وساعاتُهُ أفضلُ الساعات. وعلى نفس الأُسلوب نقول بأنّ الأعمال كلّها – وخصوصاً المأمور بها شرعاً، والأعمال العبادية بالأخص – هي لله تعالى خالصة، وانّ الجزاء إنما هو من الله لا غير، إلّا أننا نجد الحديث القدسي يقول: "الصّوم لي وأنا أجزي به". وذلك لإبداء العناية الخاصة بمثل تلك الأزمنة والأمكنة وهذه الأعمال العبادية مما يؤكد وجود الميزات الملحوظة بهذه العناية الخاصة، ويثبت أهمية واحتراماً خاصين في خلد المسلم لهذه اللحظات المقدسة. وتزداد الإيماءات عطاء عندما يوجه الخطاب بالصوم – والاستقبال اللائق لشهر الصوم – إلى الناس، جميع الناس. (أيها الناس إنّه قد أقبل إليكم شهر الله) فأقبِلوا إليه بقلوب ملؤها الأمل، لتكونوا فيه من (أهل كرامة الله). ومع الشعور بالكرامة الإلهية يمتلئ وجود الإنسان المسلم بالأحاسيس الخيّرة. وتقوى العزائم، وتتأصل جذور العمل حين تعلم هذه الأُمّة أنها تؤدي فريضة عظمى وتدخل دورة دخلتها كلّ الأُمم المؤمنة من قبلها: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (البقرة/ 183). فهي إذن حلقة مشرقة من حلقات يضمها ويشدها هدف واحد في مسيرة واحدة في طريق الكمال، ترعاها عناية الله، ويسدّدها توفيقه، وتُصنعُ على عينه، وتهدى بشرائعه الغرّاء. بكلّ هذه الأحاسيس تقترب المسيرة البشرية من أبواب الشهر المبارك، فترتسم لمخيلتها الصور المتواثبة البكر، وتسبح في عالمٍ من الرحمة والبركة... ويتوضح المشهد... هناك على الأبواب يحلق الطهر، وترفّ الانداء ممثلة في ملائكة أطهار أبرار... وقفوا بكلّ ما فيهم من نقاء لاستقبال البشرية الملبّية لنداء الله... وهناك في الأعالي بشير رحمة جُلّى بأنّ (أبواب الجنان مفتّحة) تشير للركب: أن سر في طريقك، واترع الشوق زاداً إلى مرضاة الله تعالى، و(أنّ أبواب النيران مغلقة) و(الشياطين مغلولة) وقد باعد الله بينها وبين الإنسانية بُعد المشرق عن المغرب، مسودّة الوجوه، تشعر بأنّ أهدافها الشرّيرة تتحطم على صخرة الحقيقة، وغاياتها يزروها العزم الذي تتربّى عليه البشرية... فهي تموت – إذن – حينما يحيا الصوم في هذه الأُمّة. وهكذا تصل المسيرة الواعية فينهلّ الخير، وتحلق الملائكة، وتسمح وجهها ترحيباً وإكراماً، وتزرع في قلبهم البشرى الكريمة بالعفو.
الخشوع
وتبدأ الدورة في جو من الخشوع، إنّه الخشوع الذي يوجده الإيمان، لا الخشوع الذي يوجده الذلّ عند العقاب. ويبدأ المنعطف بأن يظلل البشرية شهر فضيل... تعيش فيه أسمى لحظاتها مع أسمى أهدافها... برعاية ربِّها الرحيم الودود. وتتصاعد المشاعر رويداً رويداً حتى تتأجج في ليلة القدر، وهنا يترك العنان للخيال... ليتصور سويعاتها القليلة وهي تعادل ألف شهر. إنّ ذلك يمنح البشرية شعوراً بأنّ الحياة في ظلّ الله هي خير وأجلّ من أيّة حياة أخرى، مهما عظمت، ما دامت لا تمتلك ذلك الشرف... وتنهلُّ بعد ذلك النعم متواليةً خلال ذلك الشهر... فالإنسان كباقي الأحياء، يتنفس بصورة رتيبة لا يشعر بها في أكثر الأحيان، ولكن المنحة الإلهية تسجّل له هذه الأنفاس تسبيحاً وتنزيهاً. فما أجمل أن يتحول الإنسان بكلّ ما يملك إلى وجود يسبّح الله – تعالى – نَفَسُهُ ومشاعرُهُ، كما يسبحهُ عقلُه وفطرته... وفي التسبيح والتنزيه يؤدي الصوم أهدافه المرجوّة.. والإنسان في نومه يغيب عن الوجود، ولا يشعر به. ولكنّ الرحمة واللطف الإلهيّين تَحوّلان النوم عبادةً وقياماً بمقتضيات العبودية له تعالى... والعبادة تستتبع فيما تستتبع – الكمال والثواب. ويعمل الإنسان في باقي الأوقات، ولكنه بين أمل من جهة بالقبول، ووجل من جهة أخرى من الرفض، ولكنه هنا في رمضان ترجح لديه كفّة الأمل بالقبول بمقتضى وعد – من الله تعالى – بالقبول... انها البركة الواقعية لأعمال العباد. ويدعو الإنسان في غير الشهر المبارك في مواطن كثيرة ولكنه لا يعلم مقدار تحقق شرائط الاستجابة، بل قد يرجح لديه هو عدم القبول، لاطلاعه على نفسه، وكونه أبصر بها وبنقائصها، ولكنه هنا – في رمضان الخير – مزوّد عندما يدعو بوعدٍ إلهي خاص، بسد النواقص – إلّا الأساسية – إذا تحققت النيّة الصادقة، وطهر القلب، إذ بدون ذلك تفقد العملية روحها، ويتحول العمل إلى قالب أجوف بعيد عن المضمون. وكلّ هذه الأحاسيس تتأكد على عتبة أداء الصلاة في الشهر المبارك. ولئن كان الإنسان يسعى ليكون كالملائكة طهارةً ونقاء وعفة فهو هنا، يُبصر الملائكة نفسها مُعجبة بعمله، تدعو له بالتوفيق؛ فيمتلئ حبوراً وعندها يتحقق الهدف. ولامتناع الصائم عن الطعام قد يتكون في الفم خلوف فيه رائحة كريهة، ولكن حتى هذا الخلوف يعتبر – عند الله تعالى – أطيب من ريح المسك. وما أن تحين ساعة الإفطار، حيث يصدر الأذان المقدس بإنهاء مرحلة من مراحل الدورة التربوية العظمى حتى تتطلع الأرواح الصائمة إلى نداء قدسي جليل يخص به الصائم المتعب (ما أطيب ريحك وروحك) وتنصت القلوب إلى استشهاد كريم: "يا ملائكتي اشهدوا أنّي قد غَفَرتُ لَهُ". ويعيش الصائمون ليالي شهر رمضان المبارك بكلّ جلالها وبهائها حتى السحر حيث تبدأ علمية الإعداد للمرحلة التالية بتناول "السحور" وحينها أيضاً تظلهم رحمة الله تعالى وتسمع القلوب أصواتاً نقيّة مقدّسة؛ في حين تغمرها صلوات الله وملائكته عند استغفارها. ويتطلع الكون في كلّ ليلة إلى عتقاء من النار يتضاعف عددهم ليلة بعد ليلة حتى يبلغ القمة ليلة العيد.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق