بتنا نعيش اليوم في عالم تسيطر عليه وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك - تويتر- انستغرام - تيك توك...).
وقلّما نجد أفراداً من مختلف المراحل العمرية لا يستعملون أحد هذه التطبيقات، لا سيما الأكثر شهرة منها، مع العلم أن لكل تطبيق مميزات خاصة يتمتع بها، وبات الأفراد ينشرون عبر هذه التطبيقات أخباراً متنوعة عن حياتهم اليومية، وصوراً وفيديوهات لمختلف الأنشطة التي يقومون بها أو للموضوعات التي تثير اهتمامهم، أو حتى الأمور التي تعجبهم في مختلف القضايا التي تتنوع بتنوع الحياة الإنسانية.
وبتفاعل هذه التطبيقات مع المستخدمين من مختلف الخلفيات الثقافية واللغوية بات التفاعل اللغوي والتأثير الدلالي أمراً واقعاً، فكيف يؤثر استخدامنا لوسائل التواصل في اللغة العربية؟ وكيف يطور دلالات المصطلحات العربية؟ وكيف يحدث التطور الدلالي أو الانزياح الدلالي بالأحرى لدلالات بعض الألفاظ العربية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي؟
التطور الدلالي سنّة اللغات
يدرك علماء اللغة واللسانيون اليوم أن دلالات الألفاظ تتطور عبر العصور، وإن كان اللساني الألماني جايكوب غريم قد وضع قوانين التطور الصوتي للغات، فإن مسألة التطور الدلالي لا تزال غير معروفة المسار، وربما يتيح التطور التكنولوجي لنا اليوم أن نرصد هذه التطورات، ونحدد المحطات البارزة وأزمانها الفاصلة في مسألة تطور دلالة لفظة ما في أي لغة كانت.
وبشكل عام يُجمع اللغويون العرب اليوم أن المستجدات التكنولوجية الحديثة أدت بشكل أو بآخر إلى إيجاد عدد كبير من الألفاظ المعربة التي يستخدمها العرب اليوم، كما أدّت إلى تطورات دلالية لألفاظ قديمة كانت تعني في السابق غير ما تعنيه اليوم، مثل ألفاظ سيارة وهاتف وغيرها الكثير.
دور الترجمة والتعريب في الانزياح الدلالي
لقد أدّت عمليات الاحتكاك اللغوي عبر العصور إلى إدخال عدد من الألفاظ والمعاني الجديدة إلى اللغة العربية، لا سيما في عصر حركة الترجمة والتعريب في العصر العباسي التي رعاها خلفاء الدولة العباسية، إذ وجد العرب أنفسهم أمام حاجة ماسة إلى تطويع كلمات العربية لاستيعاب العلوم الجديدة الوافدة، فطوّر العرب كلمات جديدة بدلالات جديدة أيضًا، مثل (فلسفة - كيمياء - هندسة...).
أما في بعض المجالات فقد طوّر العرب دلالات الألفاظ القديمة لتشير إلى علوم جديدة، وهذه القضية هي عين الانزياح الدلالي، فتطوّرت دلالات ألفاظ، مثل (بلاغة - نحو - صرف - فقه – صلاة).
وسائل التواصل الاجتماعي والانزياح الدلالي
لقد ساعدت وسائل التواصل على حدوث انزياح دلالات الألفاظ العربية، لتتماشى مع ما تفرضه هذه الوسائل من أمور ومستجدات ودلالات خاصة، فإن كنا لا نستطيع تعريب الفيسبوك بعبارة «كتاب الوجوه»، فإن عددًا من اللغويين لا يرى غضاضة في استخدام الفعل الرباعي «فَسبَكَ» كما في «دحرج» للدلالة على من قام بنشر صورة أو تعليق أو غيره عبر الفيسبوك.
فإن كنت من مستخدمي التطبيق الشهير «تويتر»، والذي يمكن ترجمته بعدّة أشكال في العربية، نحو: «غرّد - تغريد - لغا - لغو - ثرثر...»، وإن كنت ممن يستخدم إعدادات اللغة العربية، فستصلك تنبيهات على شكل: «فلان غرّد صورة»، ولاحظوا معي استخدام مصطلح غرّد للصورة.
لم يكن تطبيق تويتر في بداياته يسمح بنشر الصور، وكان الأمر مقتصرًا على نشر مقاطع مكتوبة في عدد محدد من الحروف فقط، وكان من البديهي الربط دلاليًا بين التغريد والكلام، فمادة كلّ منهما الأصوات، فالكلام البشري عبارة عن سلسلة أصوات يطلقها المتكلم لتصل إلى أذن المتلقي وهي تحمل رسالة كلامية، والتغريد عبارة عن أصوات موسيقية تطلقها الطيور المغرّدة ذات الصوت الجميل، وما زلنا في العالم العربي نطلق أسماء الطيور المغردة على المغنّيين من الناس ذوي الصوت الجميل الذي يشبه أغاريد الطيور، كما في ألقاب الشحرور والبلبل والعندليب وغيرها الكثير، وقد أشرنا إلى الربط المنطقي بين العصفور المغرد والمغني، فيكون الانزياح الأول قد حدث لتنتقل دلالة كلمة تغريد من الإشارة إلى تغريد الطيور إلى الإشارة أيضًا إلى غناء البشر.
أما الانزياح الثاني فقد حدث مع ولادة تطبيق تويتر لتشير كلمة تغريد إلى نشر نص ما أو خطاب محدد، والرابط المنطقي بين اللغة البشرية والتغريد هو مادة الصوت، ولكنّنا مؤخرًا ومع سماح التطبيق بنشر الصور، صار بإمكاننا أن نغردها، وهنا ينتفي الرابط المنطقيّ بين الصورة والتغريد، فالصور لا تصدر أصواتًا، ولكن الرابط الدلالي الذي تحيل إليه الصور هو الذي أتاح المجال لانزياح دلالة اللفظة «غرّد» نحو معنى جديد، ألا وهو أنّه يمكننا ترجمة الصورة، أو بالأحرى تأويلها إلى نص لغوي أو خطاب إشهاري وخلاف ذلك من الاستخدامات اللغوية، والتي بدورها تحيل إلى المرجع الصوتي الذي يشترك مع التغريد في مادته الخام.
وهكذا نرى أن الانزياحات الدلالية قد تمرّ بأكثر من مرحلة انزياحية حتّى تصل إلى دلالتها الجديدة، ولن نقول الأخيرة، فمازلنا نجهل ماذا ستقدم لنا التكنولوجيا في المستقبل، وما الذي سيتاح لنا تغريده في القادم من الأيام!
مع الإشارة إلى أن التطور الدلالي قد يمر بأدوار عكسية أيضًا، فتنتقل ألقاب المغنيين إلى الطيور، كما في حال الطائر المعروف بـ«المغني الأفريقي Grey Singer»، وهو طائر صغير رمادي اللون يعيش في أفريقيا يُعرف بشكله القبيح، لكن الناس تربّيه لجمال صوته.
إن مسألة الأثر اللغوي والتطور الدلالي التي تفرضها التكنولوجيا بشكل عام ووسائل التواصل بشكل خاص مسألة مهمة بلا شك، وتستحق اهتمام اللغويين والدارسين والباحثين في مجالات اللغة وعلوم المجتمع والإنسانيات بشكل عام، ويجب عدم إغفالها أبداً، لأنها ستحدد شكل اللغة التي سنستخدمها في قابل الأيام.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق