لا يستطيع أحد أن ينكر الأهمية الكبيرة للقصة كشكل إبداعي أدبي، تستقطب الإنسان كمستمع أو قارئ.. ينصرف إليها بكل حواسه وجوارحه وذلك لما تحفل به من عناصر التشويق والجذب... تحمله على أجنحة الخيال... فتشبع خيال الإنسان النهم... وتشحذ الانتباه والتركيز الواعي العميق إلى أحداثها.. وشخصياتها وأفكارها ومعانيها.
جاء في قاموس لثريه: "القصة إما رواية واقعية حقيقية، وإما مصطنعة أو حكاية ملفقة تستهدف استثارة الاهتمام بتصوير العواطف والمثل الأخلاقية، أو بغرابة أحداثها.. وقد تتناول الحياة الريفية.. أو حياة البطولة.. وقد تكون أخلاقية أو نقدية أو فلسفية أو تاريخية، وقد تتناول المغامرات الغريبة والحكايات العجيبة فتثير الخيال..".
أما القصة في القرآن الكريم فهي جزء من نسيجه الديني، بمعنى أنّ القصة في القرآن ليست عملاً فنياً مستقلاً في موضوعه وطريقة عرضه وإدارة حوادثه.. شأن القصة الفنية الحرة.. إنما ترد القصة في القرآن لغرض ديني.
وقد يتوقع البعض أن تخلو القصة القرآنية من الشروط الفنية، لكن ما يثير الدهشة العميقة أن نجد في القرآن قصصاً تحمل دعوة مباشرة وهي في الوقت نفسه عمل فني معجز.
ولعل هذه أوّل إشارة لافتة لإعجاز القرآن وكونه من عند الله تعالى.
الملاحظة الثانية أنّه يستحيل على كاتب قصة بشري، مهما كانت درجة كفاءته ونبوغه ككاتب.. أن يحكي لك القصة ثلاث أو خمس أو عشر مرات، ثمّ يحتفظ بنفس مستواه في المرات العشر.. غير أنك تنظر في قصص القرآن، فيروعك أن ترى القصة مقدمة عشر مرات، بالمستوى نفسه، وبتأثير مختلف.. ويظل مستوى القصة الذروة رغم تكرارها.. ويتغير تأثيرها وإيحاؤها بكلمة تُضاف أو جزء يُحذف أو عبارة جديدة أو جملة.. أو مجرد ظل لخاطر نفسي لأحد أطراف القصة، لم يقدم قبل ذلك.
قصص القرآن، أبطالها من البشر.. كلماتها قالها البشر.. أحداثها وقعت في تاريخ البشر.. كل ما فيها بشري.. غير أن فيها شيئاً غير بشري.. الرؤية التي تتناولها.. الطريقة التي تقدم بها.. الأسلوب الذي تُحكى به، ترتيب هذا الأسلوب هو الشيء الإلهي فيها.. مزية قصص القرآن، أنّ الكلمات لا تحكى لك إنما تتحرك داخلك أشخاصاً مجسدة، تستطيع أن تصغي إليها وتشاهدها، أن تكتشف أنها جزء من واقع الحياة المتجدد.
هناك عناية بالمعنويات.. وتركيز كثير على الرقي المادي.. وأسباب القوة.. وبيان لأسباب الهلاك التي يمكن أن يصيب الأُمم والجماعات والأفراد.. وتفصيل عن الترف والطغيان.. والبطش والظلم.. والغزو الفكري.. والإرهاب.. والسخرية.. والرضا بالذل.. إلى غير ذلك من الأسباب الكثيرة المبثوثة في هذه القصص.
وأما القصص غير القرآنية فيختلط فيها الخيال بالحقيقة.. وتبتعد فيها آفاق التصوير.. ويحمل وقعه في النفوس بمقدار بعده عن الواقع والحقيقة.
ومما يلفت النظر أنّ القصة في القرآن أكثر حداثة من الناحية الفنية من القصة الحديثة، وخاصة "الواقعية السحرية" التي تنسب للقاص الكولومبي الحائز على جائزة نوبل للأدب 1986م (غابريل غارسيه ماركيز) على روايته المشهورة (مائة عام من العزلة)، فهذه الرواية التي استخدم كاتبها أحدث وسائل التكنيك في الرواية العالمية.. انسيابية من دون ذكر أسماء الأشخاص.. وعدم تحديد الفواصل.. والعودة بالأحداث إلى قرون خلت.. واستخدام الحوارات والسخرية المؤدية.. والديالوج (الحوار الخارجي) والمونولوج (الحوار الداخلي)، والرمز.. والأزمنة.. الرؤيا.. الواقع.. الموروث.. اللغة الشفافة المشبعة بالموسيقى.. وهذه الأدوات الفنية موجودة في القرآن الذي نزل على نبينا (ص)، قبل أكثر من 1400 عام.. ولم يكن عالم الأدب قد اكتشف قواعد القصة.. ويمكنك أن تسير متنقلاً متأملاً متهادياً بين قصص القرآن ومعانيه، لتدرك فصاحة الأسلوب.. وبلاغة العبارة.. وجمال التصوير الفني.. وسمو المعنى والمفهوم.. وثراء الفكر والمضمون.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق