• ٧ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٥ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

إنّها ثورة إحياء النفوس والضمائر

عمار كاظم

إنّها ثورة إحياء النفوس والضمائر

كان هدف الإمام الحسين (ع) أن يعيد إلى الحياة سيرة جدّه، التي قامت على العدل والمساواة ومحاربة الفقر والظلم والفساد، مقاومة التمييز العنصري ووحدة الأُمّة. ونشر الغِنى والرفاه وإقامة العدل وإحياء الدين بكلّ أهدافه الاجتماعية ورسالته الإنسانية لذلك ركّز الحسين على استئثار بني أُميّة بالفيء وتعطيل الحدود وإنّهم اتخذوا مال الله دولاً وعباد الله خولاً.

إنّ الحسين (ع) بشر ولكنه تحمّل من الآلام والفجائع ما لم يتحمله البشر. وتحمل من المحن ما يفوق طاقة البشر، ومع ذلك بقي صامداً قوياً إنّ صوته جلجل في رحاب الأرض منادياً بالحرية. "كونوا أحراراً في دنياكم" ونداءُه أرعب الطغاة وهزّ عروش الحكام: "والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد" و"هيهات منّا الذلة" وصوتُ نسائه وبناته رنّ في فضاء هذا الكوكب وكان صدىً في القلوب والنفوس.

إنّنا قد نظن أنّ الحسين (ع) كان يشعر بالرضا لو لم يُعانق الشهادة ولم يُقتل ولم يشهد مأساة كربلاء. ولكن الحسين كانت له نظرة أخرى. فِرضاهُ في إحياء القيم الإسلامية إذ نجده يصرخ ويقسم بالله بأنّ سعادته في القتل. إذ أكّد: "والله لا أجد الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلّا برماً".

أن يكون الرجل واسع الثراء ذا جاه وسلطة ونفوذ وشعبية وتكون أوامره نافذة ذلك أقصى ما يتمناه الإنسان، أمّا أن يتمنى القتل وأن يعانق الشهادة ويحلم بها وتكون هاجسهُ ويجد السعادة في ذلك فذلك ما لا يصل إليه أحد من الناس. إلّا الأنبياء والأوصياء، وقد وصل إليه الحسين وفاز بامتياز: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر/ 27-30).

كان الإمام الحسين (ع) يرى أنّ المجتمع الإسلامي يحتاج إلى ثورة ولكنها ليست ثورة من أجل إسقاط حكم واستلام سلطة ولكنها ثورة في النفوس ثورة في الضمائر، ثورة في المفاهيم، ثورة في مشاعر الناس وقلوبهم. وقد نجح في ذلك أيّما نجاح ذلك هو النصر. وذلك هو الفتح المبين.

ذلك هو الفتح الذي أشار إليه الإمام حينما خاطب بني هاشم وأرسل إليهم رسالة قال فيها: من الحسين بن عليّ إلى بني هاشم: "من لحق بي منكم استُشهد ومَن لم يلتحق لم يدرك الفتح".

النزعة الإنسانية في ثورة الحسين تجسّدت في تغليب الخير على الشر ومناصرة المظلوم على الظالم. وإخراج الإنسان من العبودية والقهر والذل إلى الحرّية والعز والكرامة نجده يخاطب أصحابه: "صبراً يا بني الكرام" والنزعة الإنسانية تتمثل في تغليب المنفعة العامة والمصلحة الاجتماعية على النوازع الفردية قال العقاد: "إنّ منفعة الإنسان وُجدت لفردٍ من الأفراد، أما الأريحية التي يتجاوز بها الإنسان منفعته فقد وُجدت للأُمّة كُلّها أو للنوع الإنساني كلّه. ومن ثمّ يكتب لها الدوام".

إنّنا لا يمكن أن نلج آفاق العظمة عند الإمام الحسين (ع)، إلّا بمقدار ما نملك من بعد في القصور، وانكشاف في الرؤية، وسمو في الروح والذات... فكلما تصاعدت هذه الأبعاد، واتسعت هذه الأطر، كلما كان الانفتاح على آفاق العظمة في حياة الإمام الحسين أكثر وضوحاً، وأبعد عمقاً... فلا يمكن أن نعيش العطاء الحي لفيوضات الحسين، ولا يمكن أن تغمرنا العبقات النديّة، والأشذاء الرويّة، لنسمات الحياة تنساب من أفق الحسين.ولا يمكن أن تجللنا إشراقات الطهر، تنسكب من أقباس الحسين... إلّا إذا حطمت عقولنا أسوار الانفلاق على النفس، وانفلتت من أسر الرؤى الضيقة، وتسامت أرواحنا إلى عوالم النبل والفضيلة، وتعالت على الحياة المثقلة بأوضار الفهم المادي الزائف.

فيا مَن يريد فهم الحسين، ويا مَن يريد عطاء الحسين، ويا مَن يتعشق نور الحسين، ويا مَن يهيم بعلياء الحسين، افتحوا أمام عقولكم مسارب الانطلاق إلى دنيا الحسين، اكسحوا من حياتكم أركمة العفن والزيف، حرّروا أرواحكم من ثقل التيه في الدروب المعتمة، عند ذلك تنفتح دنيا الحسين، وعند ذلك تتجلى الرؤية، وتسمو النظرة، ويفيض العطاء، فأعظم بإنسان.. جدّه محمّد سيد المرسلين، وأبوه عليّ بطل الإسلام الخالد، وسيد الأوصياء، وأُمّه الزهراء فاطمة سيدة نساء العالمين، وأخوه السبط الحسن ريحانة الرسول، نسب مشرق وضّاء، ببيت زكي طهور. في أفياء هذا البيت العابق بالطهر والقداسة، ولد سبط محمّد (ص)، وفي ظلاله إشراقة الطهر من مقبس الوحي، وتمازجت في نفسه روافد الفيض والإشراق، تلك هي بداية حياة السبط الحسين، أعظم بها من بداية صنعتها يد محمّد وعليّ وفاطمة (صلّى الله عليهم أجمعين)، وأعظم من وليد، غذاه فيض محمّد (ص) وروي نفسه إيمان عليّ (ع)، وصاغ روحه حنو فاطمة (عليها السلام)، وهكذا كانت بواكير العظمة تجد طريقها إلى حياة الوليد الطاهر، وهكذا ترتسم درب الخلود في حياة السبط الحسين.

فكانت حياته (ع) زاخرة بالفيض والعطاء، وكانت حياته شعلة فرشت النور في درب الحياة، وشحنة غرست الدفق في قلب الوجود. فهو الشهيد الخالد في دنيا الإسلام الذي قدّم روحه وأرواح البررة الممجّدين من أبنائه وإخوانه وأبناء عمومته وأصحابه قرابين خالصة لوجه الله تعالى بأحيى بها دين جدّه التي جهد الحكم الأُموي على قلع جذوره ومحو سطوره. إنّ ثورة أبي الأحرار أعظم ثورة عملاقة سجّلها التاريخ، فقد أيقضت المسلمين من سباتهم وحطّمت عنه سياج الذلّ والعبودية فانطلقت الثورات يتبع بعضها بعضاً في معظم أنحاء العالم الإسلامي وهي تحمل شعار الثورة الحسينية وتطالب بعزّتها وكرامتها وأمنها ورخائها الذي فقدته أيام الحكم الأُموي، حتى أطاحت به وقلعت جذوره، كلّ ذلك ببركة ثورة أبي الأحرار، التي أوضح الله بها الكتاب وجعلها عبرة لأُولي الألباب.

فالإمام الحسين (ع) وبعد أن رأى الظلم والانحراف يبلغان مداهما في دين جده رسول الله (ص) ذلك الدين القيّم حتّم عليه الواجب الشرعي والأخلاقي أن يخرج من المدينة، وفعلاً خرج من المدينة قائلاً: "إنّني لم أخرج أشراً ولا بطراً"، فهو لم يخرج لغرض شخصي أو لمصلحة دنيوية، وإنّما لطلب الإصلاح في أُمّة جده.

وما أجمل مقولته عندما كان في المدينة، حيث طُلب منه مبايعة يزيد، فردّ قائلاً: "إنّ أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد فاسق فاجر شارب الخمر، قاتل النفس المقدسة، معلن للفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله".

ومع هذه المنزلة العالية قدّم الحسين (ع) نفسه وأصحابه وآل بيته قرباناً من أجل نشر العدالة والوقوف مع الحقّ مهما كان الثمن، فكانت ثورة الحسين ثورة عالمية لا تخص أتباعه فقط.

فلكلّ ثورة في كلّ زمان ومكان أسباب من أجلها تقوم، وأهداف من أجل تحقيقها تسعى...

والثورة (أي ثورة) هي تحرك ضد مفاهيم أو انقلاب على واقع، لهذا فالثورة بهذه المميزات غالباً ما تكسب التفافاً جماهيرياً شعبياً، تكون العاطفة جزءاً من مقومات ذلك البركان الغاضب، وبالخصوص منها تلك الثورات التي تقوم على أساس إحقاق الحقّ في وجه الباطل وشرّ الحكام.

إنّ خروج الحسين القائد والثائر لم يكن أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما لطلب الإصلاح في أُمّة جده.

 نعم، كانت حياة الحسين كلّها عبر ودروس، فانطلق وضحى بأغلى ما يملك من أجل الآخرين، من أجل أن يرسم للأُمّة خطاً لهداية الحائرين، وأن يوقد شعلة تنير درب المظلومين. ثورة الحسين ثورة حيّة تحركت في عقل الأُمّة قبل عاطفتها، فكانت ثورة غنية بشعاراتها الصادقة وأهدافها النبيلة، ولهذا لم تكن كباقي الثورات، والتأريخ الإسلامي غني بالثورات، إلّا أنّ هذه الثورة هي الوحيدة التي لا تزال ذكرها يتجدد ويتقدم فكتبَ لها الخلود على مرّ الزمان.

ارسال التعليق

Top