◄إذا كانت الحرائق المادّية تصيب الأشخاص والممتلكات، فإنّ الحرائق الاجتماعية تنال شخصيات الناس المعنوية، وتمزّق وحدتهم وانسجامهم، وتعرّض السلم الاجتماعي للخطر، وتكون أرضية وسبباً لمشاكل واعتداءات وخسائر وحروب.
كما أنّ الخلافات الاجتماعية هي الأُخرى كالنار تمتد إلى ما حولها وتحرقه بلهيبها، ولا تبقى عند حدود الشخصين أو المجموعتين المختلفتين، فكم من خلاف بسيط بين زوجين تحوّل إلى نزاع ومعركة بين أُسرتيهما وقبيلتيهما؟ وكم من نزاع بين فئتين محدودتين أدخل مجتمعاً في أتون حرب أهلية مدمِّرة؟
كذلك فإنّ المتورطين في النزاع قد لا يستطيعون إنهاء نزاعهم فيما بينهم وإن أرادوا ذلك، لما يحدث في نفوسهم من انفعالات وحواجز، فيحتاجون إلى مساعدة من خارجهم لترطيب الأجواء، وامتصاص التشنجات، وتقريب كلّ طرف إلى الآخر.
من هنا فالحاجة ماسة إلى وجود فرق إطفاء للحرائق الاجتماعية، تطوّق الخلافات والنزاعات، وتُطفىء نيران الفتن والاحتراب، وتحمي السلم الاجتماعي.
إصلاح ذات البين
ويطلق الإسلام على هذه المهمّة المقدّسة عنوان «إصلاح ذات البين» حيث وردت نصوص كثيرة تؤكِّد على ضرورة القيام بهذا الدور، وتبشر القائمين به بأرفع الدرجات وأعظم الأجر والثواب عند الله تعالى.
يقول تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (الأنفال/ 1).
إنّ القيام بدور إصلاح العلاقات بين أبناء المجتمع، وسد ثغرات الخلاف والنزاع، هو انعكاس للالتزام بتقوى الله، لذلك يأتي الأمر بالإصلاح بعد الأمر بتقوى الله تعالى ﴿فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ كما أنّ الإصلاح شرط من شروط تحقق المجتمع الإيماني ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾.
وفي آية أُخرى يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (الحجرات/ 10).
فالمجتمع الذي تسوده أجواء الوحدة والانسجام يكون متنعماً بالرحمة والأمن، بينما إذا جزّأته الخلافات والنزاعات فهو يعيش حالة العذاب والشقاء.
أفضل دور وخير عمل
لماذا يتطوّع المؤمن لله تعالى بالصيام، ويتنفل بالصلاة، ويجود بالصدقة؟ أليس بدافع القربة إلى الله ونيل ثوابه ورضاه؟ إذا كان ذلك هو الهدف فإنّ النصوص الدينية تؤكّد على أنّ من أفضل طُرق التقرُّب إلى الله وكسب رِضاه وثوابه، هو السعي لإصلاح ذات البين، فهو أفضل من سائر العبادات والطاعات.
عن أبي الدرداء عنه: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ إصلاح ذات البين». وعن ابن عمر عنه: «أفضل الصدقة إصلاح ذات البين».
ولأنّ المُصلح يريد التقريب بين الطرفين المتنازعين، وخلق ثقة متبادلة بينهما، فقد يضطر لإعطاء انطباع إيجابي عن كلّ طرف للآخر، بالتحدّث عنه بكلام طيب لم يقله، وتشجيعاً من الدِّين لمسعى الصلح، اعتبر هذا التصرُّف مستثنى من الكذب الحرام، بل لم يعتبره الشرع كذباً ما دام يصب في مصلحة الإصلاح والوئام.
فقد جاء في صحيح البخاري عن رسول الله (ص) قوله: «ليس الكذّاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيراً أو يقول خيراً».
وقد كان رسول الله (ص) حريصاً على القيام بدور إصلاح ذات البين والمبادرة إليه، فقد أخرج البخاري عن سهل بن سعد: أنّ أُناسا من بني عمرو بن عوف، كان بينهم شيء، فخرج إليهم النبيّ (ص) في أُناس من أصحابه يصلح بينهم، فحضرت الصلاة ولم يأتِ النبيّ فجاء بلال فأذن بالصلاة ولم يأتِ النبيّ.
وفي حديث آخر: أنّ أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله بذلك، فقال (ص): «اذهبوا بنا نصلح بينهم».
الدور المفقود
لا يخلو مجتمع من المجتمعات البشرية صغيراً كان أو كبيراً، ومهما كانت درجة وعيه أو تدينه، من وجود خلافات بين بعض أفراده أو بعض فئاته، والاجتماع الإسلامي وإن كان يفترض فيه الالتزام بتعاليم الإسلام، والتحلي بآدابه وأخلاقه، لكن ذلك لا يعني وصول أفراده إلى درجة العصمة، فهو بشر تعتورهم كلّ نواقص الطبيعة البشرية.
فحدوث النزاعات والخلافات أمر وارد وطبيعي في الاجتماع الإسلامي، بين الأفراد المؤمنين والفئات المسلمة، مع كونهم جميعاً ضمن إطار الإيمان والإسلام، كما يشير الى ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ (الحجرات/ 9).
لكنّه لا يصح السكوت والتفرج تجاه حالات الخلاف والنزاع التي قد تحدث في أوساط المجتمع، بل يجب القيام بدور إيجابي لتجاوز تلك الحالات، وتلافي آثارها ومضاعفاتها، بأن يبادر المخلصون الواعون للسعي في إصلاح ذات البين، فهو واجب كفائي لا يجوز أن يُهمل أو يُترك حينما تتهدد وحدة المجتمع والكيان الإسلامي، وإذا لم ينهض به مَن يكتفى به فمسؤولية التخلّف عن هذا الواجب الديني الإنساني على عاتق الجميع. لأنّ الله تعالى يوجه الخطاب للعموم ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ (الحجرات/ 9).
لكن دور السعي لإصلاح ذات البين في صفوف أبناء الأُمّة مفقود أو ضئيل جدّاً مع الحاجة الماسة إليه، لذلك تنتشر الخلافات، وتتطوّر النزاعات، على حساب وحدة المجتمع وتماسكه وقوّته.
فكم من أُسرة تشتت شملها، وانهار كيانها العائلي، لخلاف بين الزوجين كان يمكن معالجته لو بذل سعي لإصلاح ذات بينهما؟
إنّنا بحاجة إلى تفعيل مبدأ إصلاح ذات البين، وأن يبادر المخلصون الواعون من أبناء المجتمع، إلى تشكيل فرق ومجموعات لإطفاء الحرائق الاجتماعية، والتقريب بين مختلف الفئات والجهات، وداخل العوائل والأُسر.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق