• ١٠ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢ ذو القعدة ١٤٤٥ هـ
البلاغ

قيمة الإنسان في الإسلام

د. ابن عيسى باطاهر

قيمة الإنسان في الإسلام

إنّ موضوع (قيمة الإنسان في نظر الإسلام) له علاقة وطيدة بـ (التفسير الإسلامي للتاريخ) لأنّ صناعة التاريخ تقتضي وجود صانع فعّال، ومحرّك رئيس للأحداث، وهو الإنسان الذي يختلف حضوره الاجتماعي من مجتمع إلى مجتمع، ومن بيئة إلى بيئة حسب تكوينه الثقافي، وحسب التوجيه الذي يخضع له.
فالإنسان باعتباره صانعاً للتاريخ أو باعتباره معطلاً له، هو العنصر والمقوّم الحضاري الأول الذي اهتمت به جميع الرسالات الروحية، والفلسفات المادية قديماً وحديثاً، فهو الباني للحضارات، والمؤثر الحقيقي في سير المدنيات، وهو أيضاً المتسبب الرئيس في جميع المشكلات التي تواجه الأمم والمجتمعات.
إنّ مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة الإنسان بالدرجة الأولى، (ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها، وما الحضارات المعاصرة، والحضارات الضاربة في ظلام الماضي، والحضارات المستقبلة إلا عناصر للملحمة الإنسانية منذ فجر القرون إلى نهاية الزمن، فهي حلقات لسلسلة واحدة تؤلف الملحمة البشرية منذ أن هبط آدم على الأرض إلى آخر وريث له فيها، ويا لها سلسلة من النور، تتمثل فيها جهود الأجيال المتعاقبة في خطواتها المتصلة في سبيل الرقي والتقدم).
وإذا كان الإنسان هو المؤثر الحقيقي في سير أحداث التاريخ، فقد اختلفت المذاهب والنظريات الدينية والوضعية وغيرها من الفلسفات البشرية في كيفية التعامل مع هذا الكائن المتميز، وكيفية توجيهه التوجيه الذي يحقق له قيمته الاجتماعية.
وتميزت النظرة الإسلامية عن غيرها من النظريات والمذاهب الأخرى، حيث رأت في الإنسان كائناً مستحقاً للتكريم الإلهي منذ الخلق الأول، وكائناً له قيمة في الحياة بما يقوم به من دور اجتماعي بنّاء يساهم في البناء الحضاري، ويحقق السمو للنوع البشري، وإذا تخلف هذا الإنسان عن أداء دوره المنوط به فإنّ الإسلام يُنزله من قمّة التشريف والتكريم إلى أسفل سافلين، وهذا ما دلت عليه الآيات في قوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ*ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ *إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (التين/ 4-6).
فالإنسان في نظر الإسلام له قيمتان: (قيمته كإنسان، وقيمته ككائن اجتماعي، قيمة توهب له في طينته الأولى بما وضع الله فيها من تكريم، وليس لظرف من الظروف، ولا لأحد من الناس أن يُغيّر منها شيئاً كما أنّه لا يمكن لأي ظرف أن يغير شيئاً من خصائص عيّنة الزنك، وقيمة أخرى تُعطى له بعمليات اجتماعية معينة، تماماً كما تُعطي العمليات الصناعية لعينة من الزنك قيمتها العملية، وبعبارة أخرى إنّ الإنسان يمثل معادلتين، معادلة تمثل جوهره كإنسان صَنَعَهُ من أتقن كل شيء صنعه، ومعادلة ثانية تمثله ككائن اجتماعي يصنعه المجتمع، ومن الواضح أنّ هذه المعادلة الأخيرة هي التي تحدد فعالية الإنسان، كإنسان في جميع أطوار التاريخ لا يتغير فيه شيء، بل تتغير فعاليته من طَور إلى طور).
إنّ القيمة الأولى هبة من الله، لكن ليس لها علاقة بفاعلية الإنسان في الأرض، لأنّها تمثل تكريماً إلهياً يعطى للإنسان الاستعداد الضروري لأداء الدور، ويبقى العمل بفاعلية لأداء هذا الدور منوطاً بالإنسان نفسه، فقد خلق الإنسان مزوداً بالعقل، ومسلحاً بالإرادة، وفوق ذلك كله سخر له الكون، ومهدت له الأرض،ووضعت أمامه السنن، كي يؤدي وظيفته، قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين/ 4)، وقال تعالى أيضاً: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا) (الإسراء/ 70)، وقال تعالى أيضاً: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ) (الأعراف/ 10).
أما القيمة الثانية فهي التي تزود الإنسان بالفاعلية والعزم لأداء دوره ووظيفته، لأنّها قيمة تتعلق بالرسالة الاجتماعية التي يقوم بها في الحياة، ومن هنا قوّم الإسلام الإنسان على أساسها، وربط مصيره الدنيوي والأخروي بها، قال تعالى: (وَالْعَصْرِ *إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ *إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر/ 1-3).
إنّ الإنسان من خلال هذه الآيات ليس له قيمة تذكر، بل هو في خسر وضلال حتى يؤمن ويعمل صالحاً ويتزود بالأخلاق والقيم المشروعة، وهذا كله يعبر عنه بالحضور الاجتماعي الذي يحقق مصلحة الإنسان ومصلحة مجتمعه، فالإنسان مكلف بأداء رسالة في مجتمع، وإذا تخلى عن هذه الوظيفة فقد أبرز المقومات في البناء الاجتماعي، ولم تبق له سوى قيمته كإنسان، التي ليس لها وزن، ولن تفيده شيئاً في حياته ومسيرته الحضارية.
ويأخذ حديث القرآن عن رسالة المسلم الاجتماعية طابع التنوع والإسهاب، لأهمية هذا المبدأ في بناء التصور الإسلامي عن الإنسان وعلاقته بالكون الذي من حوله، فكثيراً ما يعرض الإيمان مقروناً بالعمل، والعقيدة ممزوجة بالسلوك، ويرفع في أثناء ذلك من قيمة العمل الصالح الذي يمثل الوظيفة الاجتماعية، ويجعله سبباً للنجاح الدنيوي والأخروي، وأساساً للاستحقاق والرفعة، قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران/ 110)، وقال تعالى أيضاً: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران/ 104).
والمعروف في أعمّ صوره، والمنكر في أشمل معانية، يُكوّنان جوهر الأحداث التي تواجه المسلم يومياً كما يكونان لبّ التاريخ، ومن هنا حرص القرآن على تذكير المسلم برسالته دائماً، وحثه على أداء هذه الرسالة الاجتماعية بفاعلية ليكون عنصراً إيجابياً يحقق الخير والنفع للبشرية في جميع مستويات الحياة، قال تعالى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) (مريم/ 12)، وقال تعالى أيضاً: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) (البقرة/ 148)، وقال تعالى أيضاً: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (آل عمران/ 133).
وفي السنة النبوية أحاديث كثيرة تبيّن أهمية البعد الاجتماعي لدور المسلم ورسالته الحضارية، فكثيراً ما وجه الرسول (ص) المسلم لأداء وظيفته بتقديم الجهد المطلوب، والعمل الصائب، وفضل (ص) المسلم الفعال على المسلم غير الفعال، قال عليه الصلاة والسلام: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، إحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز) وقال (ص): (مَن رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).
وقيمة العمل في المنهج النبوي ـ أيضاً ـ لا تضاهيها قيمة، لأنّ العمل هو الحركة في الحياة، وهو الذي يجسد الحقائق النظرية في قوالب تطبيقية تعود بالخير والنفع على الإنسان ومجتمعه، قال (ص): (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا، وسقوا، وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماءً، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل مَن فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعمل... ومثل مَن لم يرفع بذلك رأساً).
والإنسان حين يُفقد قيمته الاجتماعية يتحول من إنسان فعال، إلى كائن عاجز لا يُحسن استثمار الوسائل التي بين يديه في تحصيل أحسن النتائج، لأنّه فقد أساساً حسن التعامل مع السنن الإلهية، ويصبح حينئذ عالة على المجتمع، وهذا العجز هو الذي تشير إليه الآية القرآنية: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الملك/ 22).
إنّ البُعد الاجتماعي في حياة الإنسان هو الذي يمنحه الفاعلية والتوتر اللازمين للقيام بدوره ورسالته، فنراه ينقلب من إنسان خارج التاريخ إلى إنسان صانع للتاريخ، ويبقى السؤال الملح، ما هي الظروف التي تجعل المجتمع يَمنَح الفرد القيمة التي تَبعث فيه الفاعلية؟
يقول مالك بن نبي ـ رحمه الله ـ : (إنّ المجتمع يكون أحياناً في حالة ركود وكساد، ولو أنّنا قد حللنا في مثل هذه الحالة الوضع النفسي الذي يكون عليه الفرد فإنّنا نراه يتمتع بصورة واضحة بشعور الاستقرار، فلا يحتويه أي قلق، وبالتالي فإنّه لا يبذل أي محاولة لتغيير الوضع من حلوه: إذ تسير الأشياء والحوادث دونما تدخل من إرادته، وهنا يصبحُ التاريخ سيلاً يجرفه إلى حيث لا يدري مستسلماً له الاستسلام المطلق، فإذا ما حدثت في المجتمع حالة جديدة غيرت هذه الأوضاع كلها، فإنّ موقف الإنسان هنا يتغير أمام الحوادث والأشياء، وبالتالي يتغير مجرى التاريخ).
وحالة القلق هذه التي يتحدث عنها مالك هي ظاهرة إيجابية ضرورية في أي إقلاع حضاري، فهي تشبه التيار الكهربائي الذي ينطلق في الجهاز السليم فيبعث الحياة في كامل أجزائه.
ويبقى أن نشير إلى أنّ السيرة النبوية تمثل نموذجاً لقيمة المسلم الفردية، وقيمته الاجتماعية، فالرسول (ص) قبل البعثة لم يكن سوى إنسان ضال، أي بلا رسالة في الحياة (وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى) (الضحى/ 7)، وأما ما ذكر التاريخ من قيم أخلاقية تجسدت في شخصه (ص) فلم يكن لها سوى بعد فردي، لقد كان إنساناً خارج التاريخ حتى إن كتب السير والتاريخ أعطتنا صورة مقتضبة لفترة تقدر بأربعين سنة، بل إنّها في كثير من الأحيان تعجز عن ذكر أية أحداث خلال سنوات كثيرة من حياة الرسول (ص) ولا تحسبن أنّ هذا يُعد نقصاً في السيرة النبوية، ولا تقصيراً من الناقلين والمؤرخين، لأنّ السنن الإلهية تجعل ميلاد العظماء ساعة يحملون رسالة التغيير والبناء في الحياة ومن هنا يبدأ التاريخ.
لقد دخل الرسول (ص) التاريخ ساعة كُلّف بالرسالة فأصبح بذلك إنساناً آخر يتحرك في مجتمع، يربي ويوجه، ويقوم ويبني، ويسعى بكل ما لديه من طاقة في سبيل تحقيق رسالته في الحياة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ *قُمْ فَأَنْذِرْ) (المدثر/ 1-2)، وقال تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا) (المزمل/ 5).
فالقيام لأداء أعباء الرسالة التي عُبر عنها في الآية الكريمة بالقول الثقيل، يحتاج إلى جهد كبير، وعمل دؤوب وفاعلية متوقدة، وهذه هي الأبواب التي يُدخل منها إلى التاريخ.
وقد كان الرسول (ص) بعد حمل الرسالة مثالاً رائعاً للإنسان المُستخلف ذي القيمة الاجتماعية التي تحقق الخير والنفع للمجتمع، وللإنسان العامل الفعّال الذي يعمل للدنيا والآخرة بثقة وعزم، واضعاً أمام عينية هداية السماء، وإعانة الله، وبين يديه أسباب النصر والنجاح، حتى ترك لنا تاريخاً شهد له الأعداء قبل الأصدقاء بالفضل والخيرية، واستحق (ص) بذلك تزكية الله له على مرّ القرون والأجيال (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب/ 21).

ارسال التعليق

Top