أنزل الله تعالى القرآن (هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة/ 185).
وكما كان (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل/ 89)، كان أيضاً مبيّناً لنفسه، موضحاً لمراميه وغاياته، فهو كما يقول عليّ بن أبي طالب: «ينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، ولا يختلف في الله، ولا يخالف بصاحبه عن الله».
وقد اتّفق المفسِّرون على «أنّ أحسن طريق التفسير أن يفسِّر القرآن بالقرآن، فما أُجمل في مكان قد فصّل في موضع آخر، وما اُختصر في مكان فإنّه بُسّط في آخر».
وبعبارة مختصرة: «القرآن يفسِّر بعضه بعضاً» كما يقول الزمخشري.
وما يقوله القرآن: حمل عليه ورجّح القول بذلك على غيره من الأقوال إذ إنّ «أبين البيان بيانه، وأفضل الكلام كلامه، وإن قدر فضل بيانه – جلّ ذكره – على بيان جميع خلقه كفضله على جميع عباده».
والقرآن الكريم جاء بلسان العرب وعلى أساليب بلاغتهم، وما تشتمله العربية من: الإيجاز والإطناب، والإجمال والتبيين، والإطلاق والتقييد، والعموم والخصوص، فما أوجز في مكان قد يبسط في آخر، وما أجمل في موضع قد يبيّن في موضع آخر، وما جاء مطلقاً في ناحية قد يلحقه التقييد في ناحية أخرى، وما كان عاماً في آية قد يدخله التخصيص في آية أخرى، لذا لابدّ لمن يتعرض لتفسير كتاب الله أن ينظر في القرآن أوّلاً، ويجمع ما تكرّر منه في الموضوع الواحد، ويقابل الآيات بعضها ببعض، ليستعين بما جاء مسهباً على ما جاء موجزاً، وبما جاء مبيِّناً على فهم ما جاء مجملاً، وليحمل المطلق على المقيّد، والعام على الخاص.. حتى يكون قد فسّر القرآن بالقرآن، لأنّ صاحب الكلام أدرى بمعاني كلامه وأعرف بمراميه من غيره.
وأوّل مَن أرشد إلى هذا النوع من التفسير، أي القرآن بالقرآن، هو الرسول الكريم (ص)، بما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود، لما نزل قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) (الأنعام/ 82)، شقّ ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله، وأيّنا لا يظلم نفسه! قال (ص): «ليس ذلك، إنّما هو الشرك، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان/ 13)». فحمل النبيّ (ص) الظلم هاهنا على الشرك لمقابلته الإيمان واستأنس بقول لقمان.
وعلى نهج رسول الله (ص)، فسَّر عليّ بن أبي طالب القرآن بالقرآن، فعن أبي الأسود الدؤلي: «رفع إلى عمر إمرأة ولدت لستّة أشهر، فسأل عنها أصحاب النبيّ (ص)، فقال عليّ: لا رجم عليها، ألا ترى إنّه يقول: (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً)، وقال: (وفصاله في عامين) وكان الحمل هاهنا ستة أشهر، فتركها عمر. قال: ثمّ بلغنا أنّها ولدت آخر لستة أشهر».
وكما إنّ تفسير القرآن بالقرآن، هو أحسن طريق التفسير، وكان لابدّ لمن يتعرّض لتفسير كتاب الله أن ينظر في القرآن أوّلاً، ويقابل الآيات بعضها ببعض... ممّا يجعل القرآن المرجع الأوّل في تفسيره، لأنّ صاحب الكلام أدرى بمعاني كلامه وأعرف بمراميه من غيره... كان القرآن كذلك المعيار الأوّل في ترجيح الآراء ونقد الآثار، فما يقوله القرآن رُجِّح القول بذلك على غيره من الأقوال.
وليست هذه القاعدة سارية في جانبها الموجب فحسب، بل في الجانب السلبي أيضاً «فكلّ معنىً يخالف الكتاب والسنّة فهو باطل وحجته داحضة».
وهذا كما يشمل الرأي والاجتهاد، فهو أيضاً يشمل الرواية، وكذا الاعتقاد. فالشيرازي – أبو إسحاق – يؤكِّد في كتابه (الوصول إلى الأصول) أنّ خبر الواحد الثقة يردّ إذا كان «مخالفاً لنص كتاب الله أو لنص سنّة متواترة على وجه لا يمكن الجمع بينهما بحال، فيعلَم بذلك أيضاً أنّه كذب وأنّه لا أصل له أو هو منسوخ، لأنّ ما يقتضيه كتاب الله والسنّة المتواترة معلوم من دين الله ضرورة فلا يجوز أن يَرِدَ الخبر بخلافه».
ويشمل هذا الأمر بشكل أكثر المأثور في التفسير، لأنّه يتعلّق أساساً بتفسير نص قطعي ماثل، ولابدّ في المفسِّر أن لا يتعارض مع المفسَّر بأي حال، وإلّا لم يكن ذلك بتفسير، بل هو تغيير له، وفي ذلك يقول محمد عبده في شروط الأخذ بالحديث: «فنّ الحديث على شرط أن يؤخذ مفسِّراً للقرآن مبيِّناً له مع إطراح ما يخالف نصّه من الأحاديث الضعيفة، والاجتهاد لإرجاع الأحاديث الصحيحة إليه إن كان ظاهرها يوهم المخالفة».
ويؤكِّد هذا المبدأ، تلميذه السيِّد رشد رضا، ليؤكِّد أصالة النص القرآني وحاكميته المطلقة على ما سواه، ليقبل ما يوافقه ويطرح ما يخالفه، فيقول: «إنِّي لا اعتقد صحّة سند حديث ولا قول عالم صحابي يخالف ظاهر القرآن، وإن وثّقوا رجاله...».
ولكن العمل بهذه القاعدة يتطلّب بحث عدّة أمور، منها: روايات العرض على الكتاب ومساحة تطبيقها، خصوصاً في قضية السنّة النبويّة وتعارضها مع الكتاب، ومسألة المحكم والمتشابه، والنسخ، فإنّ المعترضين يشكلون في أن يكون المرجع إليه من القرآن متشابهاً أو منسوخاً، فيبطل بذلك الإرجاع.
كما إنّ مفهوم الإرجاع إلى القرآن، قد يكون أحياناً بالرجوع إلى نص الآية المفسَّرة وسياق نزولها، أو بالرجوع إلى سائر الآيات، فالمرجَع بيِّن وماثل، وقد يكون الإرجاع إلى المفاهيم والقواعد العامة المستخلصة من القرآن، فلابدّ أن تُحدَّد تلك القواعد وتُشخَّص مرجعيتها. ►
المصدر: كتاب منهج النقد في التفسير
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق