• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التشريعات العائلية في «سورة النور»

محمّد أبوالقاسم حاج حمد

التشريعات العائلية في «سورة النور»

◄لقد أتى الله بتشريعات عديدة في سورة النور، ومن اسم السورة يتبيّن الهدف؛ هي تهدف لاستصفاء السلوك الإنساني وتطهير الذات بحيث تكون قابلة لانبعاث النور الإلهي من داخلها النفسي، بغضِّ البصر وحفظ الفرج وعدم إبداء الزينة وعدم التداعي مع شهوات الحواس ولذّتها والتقيد بالاستئذان، وكلها ضوابط تحيط بقوة النفس فتستصفيها لتجليات النور الإلهي الذي يشرق في داخلها. فالآيات في سورة النور (1-34) كلها تشريع عائلي، ثمّ يقول مباشرة: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (النور/ 35).

نور ليس منعكساً عن مادة (نار)، ولا يأخذ من خارجه شروقاً وغروباً، في الغُدوِّ شروقاً وفي الآصال غروباً؛ إنّه نور داخلي ذاتي مشعٌّ من ذاته (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ). هذا الإشعاع الداخلي للنور في الذات يُلقي بنوره على الخارج، سلوكاً وممارسةً، فتنعكس هالة النور المنبعثة من الداخل، لتسقط على الخارج فتبدو متداخلة الطبقات المنعكسة بالنور (كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ). ولا فاصل بين المصباح والزجاجة، فالكل متدامج منعكس متداخل، إنّه الإنسان حين يصبح بالنور روحاً  كالكوكب الدري، فيرفع البيت بإذن الله وقوته فيشع فيه هذا الكوكب الدري في الغدو والآصال (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (النور/ 36-38).

إلى هذه الغاية النورية الدرِّية يتجه الله بالإنسان عبر التشريعات العائلية. الحواس هنا تطوف وتسبح لينتهي الأمر برفع البيت، ولهذا، ولأنّ في الترقي هنا تشريعات وأحكاماً يقوم بها الإنسان، لم يقل الله "إنّ الله يهدي من يريد"، بل نصَّ على القول (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ)؛ فالمشيئة الإلهية ترتبط بسنّة الطبيعة ومعالجتها بالتشريعات، إذ تكون الهداية من خلال التقيُّد بهذه التشريعات. أما يهدي من "يريد"، فإنها أرفع بكثير لأنّ هذه التشريعات تصبح من طبيعة الذي يهديه الله فيتقيد بها "طبعاً" لا "تطبُّعاً"، إذ تكون قد سرت في دمه، فلو نظر للمرأة عارية لما أثارت فيه نفسه شهوة بهيمية، فذاك هدايته من إرادة الله، فلا سلطان لعالم الحسِّ والمشيئة عليه، فكيف يكون الأمر مع النبي الأمِّي الذي تأتي هدايته بالأمر الإلهي وفوق المشيئة وفوق الإرادة؟ إنّه النبيّ الأُمِّي الذي "أُمر" بأن يكون أوّل المسلمين، وبأن يعبد رب البلدة الذي حرَّمها وله كلّ شيء، لما يفعل حين يفعل إلا بأمر ربه.

إني أنظر لهذه التشريعات وكأنها معزوفة في أوبرا كونية تحلِّق بالإنسان خارج هيكل الحواس إلى التسامي بالروح في بيوتٍ أذنّ الله أن ترفع ويُذكر فيها اسمه، هناك يسقط الزاني بعيداً ومعه الزانية، يُجلدان، يحرَّم عليهما بدن المؤمن والمؤمنة فلا يداخلانهما بالأنساب، هناك يسقط كل زَنيمٍ بحدِّ القذف ثمانين جلدة. هناك بعيداً عن هذه البيوت التي تُرفع ويُذكر فيها اسمه تُقام الحدود والكوابح.

إنّ الله حريص وبأكثر منا على شخصية العائلة وسمعتها، فجعل حدَّ القذف كحدِّ الزنا، أو ما يقاربه، واشترط أربعةً من الشهداء الذين تُقبل شهادتهم، أي أن يكونوا من المعروفين بالتقوى وعدم الميل والهوى. وهنا حكمة إلهية تَخفى على البعض. فمن مِن الرجال الأتقياء يقبل بأن يؤتى به إلى موقع الخطيئة لينظر وليشهد؟ إنه في هذه الحالة يقول لمن يأتيه: قد أمرني الله بغضِّ البصر وحفظ الفرج فلا أنظر لفروج الناس، دعني واذهب لغيري، فمثل هذا النوع من الناس لا يتوافر لمثل هذا النواع من الشهادة؛ يقول تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور/ 4).

إنّ أخطر ما في هذه الآية أنّ الله يُبقي المتهمة لم تثبت خطيئتها في مقامها كمحصنة طاهرة، ثمّ يصبُّ اللعنة على أولئك الذين تحرَّشوا وأرادوا إثبات الخطيئة عليها، والله يعلم أنّهم لن يوفَّقوا لاستدراج أربعة شهود متَّقين، ولو كانت الواقعة صحيحة، فتكون النتيجة عقابهم بثمانين جلدة وتحقيرهم، فلا تُقبل شهادتهم في شؤون الناس ثمّ تُطلق عليهم تسمية "الفاسقون". فالنوع من الناس الذي يحاول إثبات واقعة الزنا لن يستطيع، لكن الله لا يترك الأمر هكذا – أي في حدود أنهم لم يوفَّقوا في الإثبات – بل ينعتهم بالفسق ويعزلهم عن كلمة القضاء في أي شأن من شؤون المسلمين، علماً باحتمال أن يكون ما قد سعَوا لإثباته صحيحاً، وإلا لما تجرؤوا في الأصل فطلبوا الشهود. فهذا البند من التشريع ليس مادة تشريعية كما يفهم من في نفوسهم أهواء الانتقام السادي من المجتمع، وإنما هو نصٌّ لعزل هذا النوع من الناس عن المجتمع، لأنّه نوع يتسمَّع أخبار الناس ويتفقَّد خطاياهم، فيمكر الله به والله خير الماكرين.

إنّ الآية رقم (4) من سورة النور تجد تحليلاً لها أكثر اتساعاً في الآية رقم 19 من السورة نفسها. فالله حريص على عدم إشاعة الفاحشة أكثر من حرصه على تنفيذ العقوبات. فالله يعلم أنّ العقوبات ليست هي الطريق لإصلاح المجتمع، وإنما هي الطريق لمنع انحراف المجتمع. فالعقوبات تعبير عن جانب الردع، أي عن الجانب "السلبي"، أما الإصلاح فهو تعبير عن الجانب "الإيجابي"، إذ إنّ العقوبات أشبه بالخط الدفاعي لمؤخرة جيش في حالة الهزيمة، وأما الترقِّي فهو ميادين النصر المتقدمة حيث تتسامى النفس بالإصلاح، فالذين يريدون إصلاح المجتمعات من خلال العقوبات هم من النوع الجاهل والساذج، بل إنهم إذ يسعون وراء ترصُّد أخطاء الناس – ولو كانت موجودة فعلاً – فإنّهم لا يفعلون أكثر من "إشاعة الفاحشة" وإيجاد هياج رهوي ورعاعي عوضاً عن ستر عيوب المجتمع والتسامي به، فالسخف كلّ السخف في قائل وقول يقول بأنّ العقوبات هي طريق الإصلاح، هؤلاء (لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ) (البقرة/ 78)، وهؤلاء يمكر الله بهم، فالجلد هو الأوجب لهم ولمن يشهِّدونه، لأنّ من يشهد في ما يفضح الناس لا يكون هو نفسه بريئاً من الفضيحة.

 

المصدر: كتاب تشريعات العائلة في الإسلام

ارسال التعليق

Top