• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

من أسرار النفس الإنسانية

أ. د. حسن عباس زكي

من أسرار النفس الإنسانية

- أهمية معرفة النفس:

يعتبر هذا المقال من المواضيع المهمة فمن عرف بعضاً من أسرار الوجود، استطاع أن يقترب من معرفة نفسه، ومن عرف نفسه عرف ربه، كما أنبأنا بذلك الصادق المعصوم. وإنّ معرفة النفس لمن الأهمية بمكان، لأنها هي كيان الإنسان، وهي التي تشكل تصرفاته ونزعاته وميوله وأهوائه ورغباته، ولذلك فهي قد تقف حائلاً بين الإنسان وبين طريق سعادته في الآخرة، إذا ركن الإنسان إلى أهوائها وشهواتها.. وفي نفس الوقت يمكن أن تكون مطيته إلى الدرجات العلا من الجنة، إذا عرف الإنسان كيف يمسك لجامها، ويهذب شذوذها، ويزكي مرادها.. وذلك مصداقاً لقول الحق عزّ وجلّ: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 7-10). ويقول الإمام النورسي (رض)[1]: إنّ الله جلّ جلاله وضع بيد الإنسان أمانة هي "أنا" تنطوي على إشارات ونماذج يستدل بها على حقائق أوصاف ربوبيته الجليلة وشؤونها المقدسة.. أي يكون "أنا" وحدة قياسية تعرف بها أوصاف الربوبية وشؤون الإلهية.. فصفات الله سبحانه وتعالى كالعلم والقدرة، وأسمائه الحسنى كالحكيم والرحيم، مطلقة لا حدود لها، ومحيطة بكل شيء، لا شريك لها ولا ند لا يمكن الإحاطة بها أو تقييدها بشيء، لذا لا تُعرف ماهيتها، ولا يُشعر بها.. لذا لابدّ من وضع حد فرضي لتلك الصفات والأسماء المطلقة، ليكون وسيلة لفهمها. وهذا ما تفعله "أنا" في الإنسان.. إذ يعرف بحدود علمه وقدرته ومالكيته، علم الله وقدرته ومالكيته اللامتناهية. وهكذا: فقد اندرجت في النفس البشرية "أنا" آلاف الأحوال والصفات والمشاعر، المنطوية على آلاف الأسرار المغلقة، التي تستطيع أن تدل وتبين – إلى حد ما – الصفات الإلهية وشؤونها الحكيمة كلها.. أي أن مفتاح العالم بيد الإنسان وفي نفسه، فإذا نسيت النفس حكمة خلقها، ونظرت إلى نفسها، تاركة وظيفتها الفطرية، معتقدة أنها المالكة وأنها العالمة وأنها القادرة، تكون بذلك قد خانت الأمانة، وضلّت سبيلها إلى ربها. وهذا ما حذرنا منه الرسول (ص): "إن أعدى أعدائك هي نفسك التي بين جنبيك" لأنها إذا ظنَّت في نفسها ربوبية مزعومة تكون قد ضلَّت عن طريق الهداية وجعلت الإنسان يتبع طريق الغواية. ولذلك فإنّ معرفة النفس ضرورية، ليعرف الإنسان كيف يقودها على معارج الهدى والرشاد، وينجو بها من التهلكة.. وهذا ما يدفعنا إلى تقديم موضوعنا عن أسرار النفس البشرية، لإلقاء مزيد من الضوء على جنبات ذلك اللغز العجيب، الذي تدور كل الدراسات حول معرفة كنهه، واكتشاف أسراره.. ونحن ندلي بدلونا في هذا المجال، حسب ما توصل إليه أولوا البصائر والأفهام.   - مدارج النفس: تتكوّن نفس الإنسان من ثلاثة أنواع: النفس العليا – النفس الوسطى – النفس الدنيا. والحقيقة أنّ هذه النفوس واحدة، ولكنها تسمى بأسماء مختلفة، تبعاً لمراتبها وتدرجها. والقوة الحيوية التي تعتمد عليها النفوس الثلاثة، تخلق تلقائياً بمعرفة النفس الدنيا من الأكل والهواء، حيث تستعملها النفوس الأخرى، وعندما تستعملها كل نفس ترفع من اهتزازها.. فالطاقة الحيوية التي تحصل عليها ترفع اهتزازها (أي موجتها) كلما انتقلت إلى نفس أعلى. وكل نفس من النفوس الثلاثة لها كيان، وكل نفس تستخدم حقها من الروح الكلي، وكل واحدة متصلة بالأخرى، برباط مكون من نفس مادة الروح الكلي المكونة منها الأجسام.. وهذه الطاقة التي تستمد منها النفوس حياتها تسمى بمسميات مختلفة: فهي تسمى "المانا" لدى البعض، وتسمى "الأكا" لدى البعض الآخر، وتسمى "الروح المحمدي" لدى المسلمين.. وأحياناً توصف بماء الحياة، فالقوة الحيوية التي تستخدمها النفس العليا، يرمز إليها أحياناً بالسحب، والندى المكون من قطرات صغيرة من الماء.. وعندما يشار إلى هذه بأنها أمطار تسقط، فإنها تشير إلى عودة القوة الحيوية التي تحولت، لتنقل البركة من النفس العليا إلى النفس الوسطى والنفس الدنيا للمساعدة والعلاج. وكذلك يرمز أحياناً إلى النفس الدنيا بجذور الشجرة، وإلى النفس الوسطى بالجذع، وإلى النفس العليا بالأوراق.. أما العصير الموجود داخل الشجرة فهو الطاقة الحيوية التي تسمى "بالروح المحمدي" لدى المسلمين.   - جولة داخل النفس الدنيا: لما كانت النفس الدنيا هي قاعدة النفوس، التي ينطلق منها الإنسان في العروج إلى الرحمن، إذا اهتدى بهدى القرآن، واشتاقت نفسه إلى الأنوار.. لذا فإننا سنوليها أهمية أكبر في الشرح وتوضيح صفاتها ودوافعها، ليكون ذلك نوعاً من إلقاء الضوء عليها، يساعد المرء في اكتشاف جوانبها وخفاياها، فيعرف كيف يزكيها ويجاهد هواها، فهي مطيته إلى رضوان الله، والسعادة الأبدية. صفات النفس الدنيا: 1-              هي شيء منفصل بذاته، ولكنها تخدم النفوس الأخرى، وهي وثيقة الصلة بالنفس الوسطى، كأنهما من شيء واحد. 2-              النفس الدنيا تحكم على كل أعمال الجسم المادي، وكل شيء ما عدا العضلات الغير الإرادية ويمكنها الخروج من كيانها، وهي تطبع كل خلية من خلايا الجسم وأليافه والمخ، وهي محيطة بكل خلية، وكل سائل، وكل ألياف. 3-              النفس الدنيا هي مركز الانفعالات، فهي التي تبُكي.. فالحب والكره والخوف، كلها مشاعر تأتي من النفس الدنيا كانفعالات، وقد تكون قوية لدرجة أنها تجرف معها النفس الوسطى وتجبرها على المشاركة في هذه المشاعر.. ولذلك فأهم دور يبرز هنا للنفس الوسطى، هو أن تتعلم كيف تقود النفس الدنيا. 4-              النفس الدنيا هي التي تعمل القوة الحيوية لاستخدام النفوس الثلاثة، وعادة هي تشارك النفس الوسطى في استهلاك تلك القوة، فتحولها النفس الوسطى إلى إرادة.. فعند عمل دعاء: فإنّ النفس الدنيا تتصل بالنفس العليا عن طريق رابطة الروح الكلي، فتنشط النفس الدنيا، ويتولد عن ذلك النشاط طاقة حيوية، ترسلها إلى النفس العليا، لتحقيق استجابة الدعاء. 5-              النفس الدنيا تستقبل كل الانفعالات الخاصة بالحواس، عن طريق الحواس الخمس، وتقدمها للنفس الوسطى لتشرحها، لأنّ النفس الوسطى هي النفس المفكرة العاقلة، والتي تعرف ماذا تفعل بالمعلومات المقدمة إليها، وتعطى الأوامر، إذا لزم الأمر. 6-              النفس الدنيا هي التي تسجل كل أفعال وكل فكر، عن طريق استخدام مادة الطاقة الحيوية، فتحولها بما يشبه الاستطوانة المسجلة.. فكل الأصوات والمرئيات والأفكار والكلمات، تأتى في شكل قطارات زمنية، تحتوي على انفعالات متصلة مع بعضها، وهي تسمى حبيبات مستديرة عنقودية كالعنب، وهي الحبيبات الميكروسكوبية المكونة من مادة غير مرئية، تحملها النفس الدنيا في جسمها (الطاقة الحيوية المحيطة بالمخ). 7-              النفس الدنيا تجيب عادة طلبات النفس الوسطى، عندما تطلب استذكار شيء ماضي.. فعندما نكتب أو نتكلم، فإننا في الواقع – أي نفسنا الوسطى – نستعمل مباشرة ذكريات من النفس الدنيا. 8-              النفس الدنيا هي التي نؤثر عليها في التنويم المغناطيسي أو الإيحاء.. وهي تلعب دوراً هاماً في إرسال الشكل الفكري للآراء التي نريد الإيحاء بها إلى شخص، (أي إلى كيانه المعنوي). 9-              النفس الدنيا لها التحكم التام في استخدام الطاقة الحيوية وفي استخدام مادة الروح الكلي من جسمها الأثيري. 10-        تحتوي النفس الدنيا أحياناً على أفكار غير رشيدة، على شكل حبيبات وهي الأفكار، تأتي بهذا الشكل من النفس الوسطى وتنساها ولا تذكرها.. ولذلك لا تعرف أن تطلب إبرازها على السطح، وهي التي تخلق العقد النفسية أو المشاكل. 11-        النفس الدنيا هي ما قد يسمى "دون الوعي" فهي النفس الحيوانية في الإنسان ولذلك فهي غير متقدمة في التفكير، ولذلك تحتاج إلى قيادة المفكر، وهو النفس الوسطى، التي تقود وتعلم النفس الدنيا، لتحولها من حيوانية إلى إنسانية.. وأكبر خطأ من النفس الوسطى هو أن تنزل إلى مستوى النفس الدنيا، وتتحول معها إلى شعور حيواني. وطبيعة النفس الدنيا عادة أنها محبة ولطيفة ومخلصة ومتعاونة، كلما زاد استمدادها من مادة الروح الكلي.   - كيف تتصل بالنفس الدنيا؟ إنّ هذا الاتصال ضروري، لمعرفة أبعاد تلك النفس، وبالتالي يمكن تنمية الخصال الطيبة فيها، ومجاهدة الخصال السيئة، وهو ما يعرف بمجاهدة النفس، حيث لن يمكن تلك المجاهدة إلا عن طريق معرفة النفس جيِّداً، لترويضها إلى طريق الحق والرشاد. ولكي يتحقق هذا الاتصال، عليك اتباع ما يلي: ·       عليك أوّلاً أن تؤمن بأن هناك نفساً دنيا، وأنها موجودة فيك، ويمكن الاتصال بها. ·       اجلس في مكان هادئ، وتعقل وجود النفس الدنيا، وخاطبها بالصوت المسموع.. وانتظر لترى أثر ذلك من انفعالات على المخ، الذي تشترك النفس الدنيا والنفس الوسطى في العلاقة معه. ·       اخطر النفس الدنيا في هذه الجلسة: أنك قررت أن تتعاون النفس الدنيا والنفس الوسطى لتدعيم العلاقة بينهما، وأن يفهما معاً وسائل الاتصال، لإتقان عملية الاتصال هذه. ·       اخطر النفس الدنيا أنك ستطلب منها إبراز بعض المعلومات على السطح لكي تُوجدها لك، واطلب من النفس الدنيا أن ترجع إلى أيام الطفولة، لتذكر لعبة كانت تحبها أو تتعلق بها. ثمّ شارك النفس الدنيا سرورها لكي تحسن علاقتك بها. ·       استكشف مع النفس الدنيا المشاعر المشتركة فيما تحب وتكره.. خطوة بعد خطوة يتم العلاقة بين النفسين الدنيا والوسطى.. وأحياناً تجد أنّ النفس الدنيا تحب التمتع باستذكار أشياء ماضية، كالدراسة في أوائل الطفولة، أو ما شابه ذلك.. فشاركها في هذا أيضاً. ·       وينجم عن كل ذلك أنّه ستأتي إليك ذكريات كانت خافية عليك، وإذا نشأت مشاعر أخرى غير سارة، فالتدرب على إبعادها عن طريق خلق مشاعر بديلة، أمر مستحب.   الهامش:

[1]- من كليات رسائل النور.. (ص635) من الكلمات (الكلمة الثلاثون).

المصدر: كتاب الإنسان والوجود

ارسال التعليق

Top