◄ـ الصفات الإلهيّة بالإجمال:
أ) الله هو المحرك الثابت، والمنظم العليم، والموجود الواجب، وإرضاء للميل الطبيعي الدافع إلى تشوف معرفة العلة حالما نعرف معلولاً ما، وإلّا بقي العقل حائراً قلقاً. كلّ علة فهي تفعل طبقاً لماهيتها، وكلّ معلول فهو يحمل في كيانه فعل العلة، وينم عليها بمحمولات غائية عن المشاهدة فتجتمع لدينا في هذا العلم «صفات» سميت هكذا تفادياً من تصوّرها أعراضاً زائدة على الذات مركبة معها، وليس الحال كذلك في حقّ الله.
ب) على أنّ العلم هاهنا مشوب بخفاء كثيف، لكونه استدلالياً مكتسباً بواسطة، وليس حدسياً واقعاً على المعلول نفسه، وهذا شأن الإنسان بإزاء كلّ علة يستدل عليها بمعلول لها، ويقيس غائبها على الشاهد. يضاف إلى ذلك أنّ المعلوم نفسه مجاوز لفهمنا لعلو الألوهية على مراتب الموجودات، فليس من الحكمة في شيء الانقياد إلى اللائحات الفكرية الأولى والصور الخيالية. إنّ الإخلاص للحقّ يقضي علينا بأنّ نوطّن النفس على هذا الخفاء، وأن نلطف من قلقنا وحيرتنا بالاستمساك بالقضايا الثابتة عند العقل. وبالنتائج اللازمة عنها لزوماً منطقياً، فنذكر تنبيهين، إذا عملنا بهما اجتنبنا أخطاء عديدة.
ج) التنبيه الأوّل: أنّ معرفة الغائب تحصل بالحكم لا بالتصوّر الساذج، لأنّ التصوّر يكتسب في الحقيقة بالمشاهدة، فإذا حكمنا بأنّ الله عليم مريد، كان هذا الحكم صادقاً لابتنائه على شواهد قاطعة، ولكن لا ينبغي أن نحاول تصوّر العلم الإلهي أو الإرادة الإلهية في ذاتهما، أي النحو الذي توجد عليه الصفة في الله، فإنّ مثل هذا التصوّر ممتنع علينا لغيبة الماهية الإلهية عن عقلنا، وللفرق اللامتناهي بين عقلنا وبينها. ولا ينبغي أن نتهم علمنا من أجل قصور تصوّرنا، كما يفعل اللا أدريون الذين يدعون أنّنا لا نعرف عن الله شيئاً.
د) التنبيه الآخر: إنّ كلّ ما نحكم به في حقّ الله يقال بالتشكيك، أي تبعاً لماهية الإلهية، لا بالتواطؤ، أي تبعاً لماهية المخلوقات، فلا نتصوّر الله على مثالنا، ولما كان الله غير معلوم لنا علماً مباشراً، تظل الصفة المحكوم بها خافية دون أن ينقص هذا الخفاء من قوّة الحكم، ويتحتم علينا أن نحتاطه من التواطؤ وأن نرسم الحدود لإضافة الصفة لله، فإذا قلنا إنّ الله عليم مريد، امتنعنا من تصوّر العلم والإرادة في الله قوتين متمايزتين من الذات، متدرجتين في الفعل، متناولتين موضوعات جزئية عديدة، كما هو الحال في الإنسان.
هـ ) والصفات طائفتان: صفات الذات، وصفات الفعل. الطائفة الأولى لوازم لمعنى العلة الأولى، مقتضاة لها ضرورة بهذا الاعتبار، كالبساطة المطلقة واللا نهاية، والثبات أو عدم التدرج والتغير، والوحدانية والسرمدية أي البقاء أزلاً أبداً، والعظم أو الوجود في كلّ مكان، وفوق ذلك صفات الموجود بما هو موجود، المتحققة إلى أقصى حد في الوجود الأعظم.
و) والطائفة الثانية تشمل آثار العلية الإلهية، بالنسبة إلى تدبير العالم والعناية بالإنسان، مثل: العلم والإرادة، والمحبّة، والحرّية والقدرة. وفيما يلي إثباتها بأدلتها، وبيان كيفية تصوّرها.
ـ البساطة أو عدم التركيب:
أ) أولى صفة تلزم عن فكرة العلة الأولى الواجبة الوجود، هي وجودها بذاتها، لا بعلة أخرى، وهذا يعني أنّها بسيطة كلّ البساطة، غير مركبة أصلاً لا من أجزاء مادّية، ولا من هيولى وصورة، ولا من جنس وفصل نوعي ولا من جوهر وعرض، فإنّ مقتضى العلة الأولى أن تكون بسيطة من كلّ وجه، إذ أنّ التركيب يُتبع المركب لأجزائه المركبات ويؤخر وجوده عن وجودها، ويقتضي علة للتأليف بينها، فلا تعود أولى تلك العلة المقولة أولى. ولما كان التسلسل إلى غير نهاية في سلسلة العلل غير جائز، لزمنا أن نتوقف، وأن نعترف بأنّ العلة الأولى وجود محض، دون تعين بماهية خاصّة، وأنّها فعل محض، دون اختلاط بقوّة. وهذه نقطة على أعظم جانب من الأهمية، وسنعود إليها مراراً للاستدلال على الصفات التالية. إنّها تقفنا على أخص ما يخص الذات الإلهية، وعلى الأساس الذي تقوم عليه سائر الصفات في عقلنا، ولو لم يكن في الله متقدم ولا متأخر.
ب) هذا معنى البساطة، فليس المقصود بساطة الموجود الهزيل الناقص الذي إنّ ائتلف مع غيره ألّف وإيّاه شيئاً أقل هزالاً ونقصاناً. إنّ المقصود بساطة من حيث الكيف لا من حيث الكم، هي بساطة موجود يتكمل بها نفسها لأنّه غير معين للاتحاد بأي موجود آخر، غير مشتمل بحال على أجزاء متمايزة. إنّه الموجود المطلق المنزه عن كلّ تعيين وكلّ نسبة.
ح) هنا يستوقفنا هملتون وسبنسر وباقي أنصار نظرية نسبية المعرفة، قائلين إنّ المطلق غير مدرك، والفكر الذي يتصوّره يحده ويحيله غير مطلق. ونحن نقول: أجل إنّ المطلق يعلو على النسبة علواً كبيراً، وإنّ معانينا المكونة من المحسوسات لا تلائمه تمام الملاءمة، ولكن أليس يعتبر مجرد وضع المطلق ضرباً من الإدراك؟ والعالم صنع الله، فهل يمكن أن يكون مظهر المصنوع مغايراً للصانع إلى حد أن لا ينم عليه بتاتاً؟ إنّ لنا أن نضيف إلى المطلق صفات مستفادة من العلم، على أن لا نضيفها بالتواطؤ، بل بالتشكيك أو بالتناسب، والفكر الذي يتصوّر المطلق لا نحده ولا يحيله غير مطلق، بل يعلم في الوقت نفسه أنّ المطلق قائم بذاته، وأنّه هو معلول له متعلق به، فيرد إليه إطلاقه، ولا يتخذ من النسبة الظاهرية بين الفكر والمطلق في التصوّر، دليلاً على أنّ الله قدر صار نسبياً! إنّها نسبة من جانب الفكر لا من جانب المطلق.
ـ اللانهاية:
أ) للاتناهي معنيان: أحدهما اللاتعيين واللاحدّ، مثل أي موجود بالقوّة قابل لأن يصير أي شيء، ومثل قبول المادّة للانقسام إلى غير حد، ومثل التسلسل إلى غير حد، وهذا هو اللامتناهي بالقوّة، لا يتم أبداً، بل يتدرج زيادة أو نقصاناً، كما تتدرج الأعداد. والمعنى الآخر كمال الوجود، أو الوجود فعلاً محضاً. وهو معدول كالأوّل مستفاد بسلب الحدّ والتناهي، ولكن بينهما فرقاً عظيماً: هو أنّ الثاني محصل ثبوتي في ذاته، فإذا وصفنا الله باللانهاية فبمعنى أنّ الله غير محدود، ولكنّه كفيل باستيعاب كلّ كثرة والعلو عليها.
ب) وقد زعم ديكارت أنّ معنى الكامل سابق في معرفتنا على معنى الناقص، وأنّنا نكتسب معنى الناقص بالحد من معنى الكامل. وليس هذا بصحيح، بل الصحيح هو العكس، على ما نشاهد في فكرنا، فإنّ المتناهيات هي الحاضرة لنا واللامتناهي غير حاضر. وزعم لوك أنّ معنى اللامتناهي مستفادان بإضافة المتناهي إلى المتناهي. هذا حقّ في المادّيات اللامتناهية بالقوّة القابلة للقسمة والإضافة. أمّا الصفة الإلهية فهي لا نهائية الكمال، لا لا نهائية المادّة، وليس الله جسمياً أو مقبولاً في جسم. فقد خلط لوك بين اللامتناهي بالفعل أو الله، واللامتناهي بالقوّة أو المادّيات.
ج) من هذه التعريفات يلزم أنّ الموجود اللامتناهي بالفعل بسيط كلّ البساطة، كما قلنا إنّ البسيط لامتناه بالفعل، إذ لو كان مركباً قابلاً للقسمة لكان كلّ جزء من أجزائه متناهياً، وكان هو وأجزاؤه كلا لامتناهياً، وهذا خلف. وما القول بلانهائية الله سوى تعبير آخر عن الكمال، لأنّ الله وحده كامل مطلق، لا لامتناه نسبياً، كأنّه يفوق المخلوقات وحسبه، لذا لا يعود هناك وجه للتساؤل إن كان العالم يزيد وجوداً على وجود الله. كلا! فإنّ العلة تحتوي وجود المعلول على نحو أعلى، فكيف نجمع بينهما؟ هل نجمع الأضواء المنتشرة على الأشياء إلى ضوء الشمس مصدرها؟ هل نجمع العلم المخطوط في كتاب إلى علم مؤلف الكتاب؟ هل يزيد الضوء المنتشر في العالم شيئاً على ضوء الشمس؟ أو هل يزيد العلم المدون في كتاب شيئاً إلى علم المؤلف؟
د) والأصل في وصف الله باللانهاية التفكير المسيحي، فقد كان آباء الكنيسة أو أئمتها ينفرون من صفة المحرك الأوّل، لأنّ الحركة ظاهرة مادّية، والله روح صرف، الأليق به صفات روحية، دالة على الذات الإلهية نفسها، لا على فعل أياً كان من أفعالها. قال القديس ألبرت الأكبر: إنّ الحكم بوجود ذات لامتناهية ابتداء من المعلولات المتناهية، خروج بمبدأ العلية إلى أبعد مما يجوز، إذ أنّ هذا المبدأ لا يتطلّب سوى علة متناسبة مع المعلول، والمعلول الذي هو العالم متناه. وقال دَنس سكوت: إنّ إله المسيحية لامتناه، وإنّ هذه هي الصفة الأساسية التي تميز الخالق من المخلوق، فيجب أن يمضي البرهان على وجود الله من مقدمة تؤدي رأساً إلى هذه النتيجة، وبرهان المحرك الأوّل، على ما له من قيمة ضرورية لابتنائه على مبدأ العلية، يبلغ إلى العلة بالحركة التي هي ظاهرة مادّية حادثة على كلّ حال، فلا يعرّفنا بالله إلّا بواسطة أدنى كمالاته، ولا ينتج بالذات أنّ الله لامتناه لأنّ الأوّل في جنس معين قد يكون متناهياً. هذا غير صحيح لأنّ المحرك الأوّل ليس متحركاً أوّل كالفلك المحيط، في العلم القديم، ولكنّه المحرك غير المتحرك أي العلة الأولى للحركة، فهو علة خارجة عن المتحركات، وإلّا كانت مفتقرة إلى علة، وتسلسلنا، فلم نصل إلى علة حقّة. فالعلة الأولى موجود لامتناه بالضرورة من حيث هو علة أولى.
ـ الوحدانية:
أ) من بساطة الذات الإلهية، ومن لا نهائيتها، تلزم الوحدانية: وهي غير الواحدية التي تعني عدم انقسام الموجود في ذاته، وانفصاله عما سواه، بينما الوحدانية تعني عدم وجود نظير وشبيه أو مثيل. والواقع أن ليس يوجد، وليس يمكن أن يوجد سوى إله واحد أو وحداني. أمّا أنّ الوحدانية تلزم من البساطة، فلأنّ الموجود بطبيعته وذاته موجود بهما غير متكثر، وأمّا أنّها لازمة من اللانهاية، فلاستحالة وجود لامتناهيات عدة، من حيث إنّ اللامتناهي مستوعب كلّ شيء، وإذا تعدد الآلهة، فلا واحد منهم غير متناه، أي لا واحد منهم إله، بل كلّ واحد عادم شيئاً، وليس حاصلاً على كلّ الكمال الواجب للإله.
ب) كان آباء الكنيسة الأوّلون يدللون على وحدانية الله بوحدة العالم ووحدة نظامه: ولكن هذا الدليل ضعيف، فإنّ تعدّد العوالم يتفق مع وحدانية الخالق، إذ من الممكن أن يصنع واحد مصنوعات مختلفة، كما هو ظاهر في الجزئيات المحيطة بنا. ثم إننّا لا نعلم كثرة العوالم حتى نحكم أنّ الكون أجمع واحد.
ج) وإذا أبى العقل تعدّد الآلهة، فقد لا يأبى الثنائية، ذلك المذهب القائل بمبدأين يدبران العالم، أو يدبره أحدهما، ويفسده الآخر. يرجع هذا المذهب إلى أوائل عهد الفلسفة. قال أنكساغوراس: إنّ المادّة كانت مختلطة مضطربة، فنظمها العقل أي الإله العاقل. وقال أفلاطون: مثل ذلك. والمانويون ثنائيون، ولكن الفرق عندهم بين المبدأين ليس الفرق بين العقل وعدم العقل، وإنما هو الفرق بين الخير والشرّ، وكلّهم يأبون التسليم بحدوث الناقص عن الكامل، ويفضلون اشتراك مبدأين، لكلّ منهما معلولات من جنسه.
د) ونحن نقول: ليس يمكن أن يُحدث الكامل كاملاً، لأنّ الموجود المحدث ناقص بالضرورة، من جهة ماهيته التي تعينه وتحده، ومن جهة وجوده وفعله من حيث إنّه محدث، فمجرد كونه محدثاً يحط به عن الكمال. هذه حجة عامّة موجهة إليهم جميعاً. فإذا التفتنا إلى الفلاسفة اليونان قلنا: ليس يمكن أن توجد المادّة بذاتها أزلاً أبداً، إذ ليس فيها ما يسوغ مثل هذا الوجود. وليس يمكن أن تكون المادّة لامتناهية، وهي متناهية بالذات لها شكل وأبعاد، سواء في مجموعها وفي أجزائها، وليس يمكن أن يوجد كائن شرير بالطبع، وإلى أقصى حد، إنّ الشرّ عدم الخير، والشرّ اللامتناهي عدم لامتناه، أي لا وجود مطلق وليس يمكن أن يوجد لامتناهيان متعارضان متحاربان. وأخيراً إنّ تصوّر الله منظماً فقط للمادّة هو اتباعه لها وجعله نسبياً إليها، أي نزول به عن مرتبة الألوهية، وهذه أدلة عديدة قوية ضد الثنائية، ومن ثمة لصالح الوحدانية.►
المصدر: كتاب الطبيعة وما بعد الطبيعة
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق